الهوى… شمالي

wajih fanous

الدكتور وجيه فانوس

(أمين عام اتحاد الكتاب اللبنانيين)

للبنان الشَّمالي، في بالي، عَبَقٌ خاصٌّ؛ فطرابلس، عاصمة الشَّمال، هي المدينة اللبنانيَّة الأولى التي تعرَّفت عليها، بعد مدينتي بيروت، في السِّنين الأولى من طفولتي؛ كما كانت “سير الضنيَّة” من أوَّل مقاصد النُّزهة، في مطلع مراهقتي، والتمتُّع بما فيها من جمالات الماء والخضرة.

لقد نشأت في عائلةٍ تهوى هذه المناطق؛ وكيف لا، ووالدتي من مواليد منطقة “باب التبَّانة” في طرابلس؛ يوم كان جديِّ قد انتقل، من مدينته بيروت، للعمل في طرابلس، مديراً لشركة ما كان يعرف بـ“الديليجانس”، وهي العربات التي تجرُّها الخيول لِنقل المسافرين، في مطلع القرن العشرين، بين بيروت وطرابلس. هناك أمضت والدتي، كما قالت لي، السَّنوات الأولى من طفولتها؛ ثم انتقل عمل جدِّي إلى بيروت، وكان لأسرته أن تنتقل معه. بيد أنَّ طرابلس لم تغادر بال الأهل على الإطلاق؛ وظلُّوا، وحتَّى بعد سنين وسنين يحنُّون إليها ويسعون إلى تمضية ما أمكنهم من أيام العطل في رحابها.

كنت أذهب بمعيَّة الوالدة، في نهاية خمسينات القرن العشرين ومنتصف ستيناته، من بيروت إلى طرابلس، مستخدمين هذه المرَّة عربات النَّقل السِّياحيَّة الفخمة، التي عُرفت باسم “البولمان” لشركة “نقليَّات الأحدب”؛ نسافرُ بها، من مركزها في “ساحة الشُّهداء” في بيروت، إلى مستقرِّها في مركزها في طرابلس في “ساحة التَّل”. وكان من تقاليد الرِّحلة، أن تبدأ في الصَّباح الباكر، لنتمكّن من الوصول بعد ساعتين أو أكثر إلى “ساحة التَّل”، وتناول “حلاوة الجبن”، من ثمَّ، في محلاَت “العرجة” أو “الحلاَّب” هناك؛ حتَّى صارت “حلاوة الجبن” هي الحلوى المفضَّلة عندي إلى اليوم. وكانت تلي هذه الإستراحة جولة في الأسواق المجاورة؛ كان يلفتني فيها أنَّ وحدة ثمن الشِّراء عند الباعة هي “الفرنك” وليس “القرش”؛ كما هي الحال في ما تعوَّدت على سماعه في بيروت. فعوض أن يقول البائع أن ثمن الكيلو مما كان يبيعه هو 25 قرشاً، كنت أسمعه يقول “خمس فرنكات”؛ وطبعاً، فـ“الفرنك” يساوي خمسة قروش!! وهكذا بدأت أمارس، في تلك المرحلة المبكرة من طفولتي، تمارين تطبيقيَّة في علم الحساب، إذ كنتُ أحوِّل “الفرنكات” إلى “قروش”؛ وكم أعجبني هذا الأمر.

كان لا بدَّ بعد انتهاء الجولة في الأسواق، من أن يكون ثمَّة استراحة طويلة لتناول الغذاء، الذي غالباً ما يكون في مقهى “البدَّاوي”؛ إذ ننتقل إليه بسيارة، لبُعده عن مركز المدينة. وكان يلفتني في ذلك المقهى عدَّة أمور؛ من أبرزها بركة ماء مستديرة، يتحلَّق حولها روَّاد المقهى، ويسبح فيها البط والأوز بهدوء وأناقة. وكم كنت أحسُّ أن تلك البركة كانت شديدة الاتِّساع؛ إلى أن تسنَّى لي، بعد أكثر من ثلاثين سنة، زيارة ذلك المكان واكتشاف أنها لم تكن بركة كبيرة على الإطلاق، كما كنت أنظر إليها في طفولتي. ولفتني في ذلك المقهى أن “الأراكيل” فيه كانت طويلة بشكل لم نكن قد اعتدناه من قبل، إذ كانت تفوقني طولاً في ذلك العمر. وكان يلفتني أيضاً أن ثمَّة مسجداً بالقرب من ذلك المقهى، وأن بناءً صغيراً كان ملحقاً بذلك المسجد، كان يقال لي أنَّ فيه ضريحاً أو مقاماً لأحد أولياء الله الصَّالحين، اسمه “السيِّد أحمد البدوي”. وهكذا، انتبه تفكيري، إلى موضوع أولياء الله الصَّالحين ومقاماتهم.

أمَّا “سير الضنيَّة”، فكانت في بداية الأمر مجرَّد فكرة ضبابيَّة عن بلدة ما فيها إلاَّ لوحات من جمال الطَّبيعة وشلالات المياه وتنوُّع الأزهار. كانت هذه أحاديث الأهل عندما يذكرون “سير”؛ وبعد أن تجاوزت العاشرة من سني عمري، كانت لي فرصة تحقيق حلم زيارة “سير الضنيَّة”؛ وكان أروع ما في تلك الزيارة أن تعرَّفت على فندق “الجزَّار” فيها، وروعة حديقته الضَّاحكة بألف زهرة مغناج؛ ناهيك بجمال طلَّته وأنس روَّاده، وعبق التَّاريخ يزهو في أروقته، وخاصَّة عندما حدَّثني مديره عن غرفة كان ينزل فيها الجنرال ديغول وأخرى أقام فيها شاعر مشهور وثالثة آوى إليها سياسيٌّ كبير. وظلَّ ذلك الفندق، بكل جمالاته وروعة البلدة التي تحتضنه، مطرحاً لسعادة رحلاتي إلى “سير” ردحا من زمن طويل مع زوجي وأولادي. كانت دهشتي كبيرة إذ الغرفة التي خُصِّصت في ذلك الفندق لإقامة ابنتي، كانت هي عين الغرفة التي أقام فيها الجنرال ديغول قبل سنين وسنين ولفتت انتباهي منذ كنت طفلاً!

وبين “طرابلس” و“سير” أصدقاء لي، تركوا بصمات محبَّتهم وصداقتهم على محطَّاتٍ رائعةٍ من سنيٍّ عُمري؛ أوّلهم الغالي الأستاذ أحمد يوسف، زميلُ الدِّراسة وصديق النِّضال الطلاَّبي في الجامعة اللبنانيَّة، ومنهم زميل دراسة فقدناه عروساً في ريعان الشَّباب هو المرحوم الأستاذ مصطفى علم الدِّين، وزميلة الدِّراسة الرَّاقية الأستاذة غزوة أسطة الحُسيني، والزَّميل الكريم الدكتور ياسين الأيوبي، ورفيق العمر العميد الأمير الدكتور هاشم الأيوبي، والصَّديق العزيز الدكتور رياض عثمان، والصديق الدكتور جان توما، والأحبَّةُ الدكتورة وداد الأيوبي والدكتور حسن الأبيض والدكتور طلال المير؛ وكثيرون كثيرون يملأون صفحات وصفحات اعتزُّ بها من سجلِّ عمري.

fanous

اترك رد