شوقي أبي شقرا… شاعر القصيدة الحرة مكرما في بيروت
منار علي حسن
بدأت الحكاية عندما كان صغيراً يركض وراء الفراشات في قريته وتردد الطبيعة صدى ضحكاته، فخزنت عيناه وذاكرته صوراً جميلة وأصيلة، أشعلت فيه موهبة الكتابة، وإذا بهذا الطفل يصبح في ما بعد الشاعر شوقي أبي شقرا، أحد أبرز رواد الشعر الحديث وقصيدة النثر في العالم العربي، ومؤسس أول صفحة ثقافية في الجرائد في لبنان والشرق.
اليوم بعد أكثر من خمسين سنة من العطاء الشعري، كرم مكتب علاقات الخريجين في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت شوقي أبي شقرا (مواليد 1935)، في احتفال أعاد إلى الأذهان المراحل التي قطعها في مسيرته الفكرية، تخلله فيلم وثائقي حول سيرته، وقراءات لأشعاره، وشهادات لأدباء وشعراء وأصدقاء.
بالطبع، ليس هذا التكريم الأول لشوقي أبي شقرا، فهو على الدوام محط ترحاب نظراً إلى نتاجه الشعري الضاربة جذوره عميقاً في التجربة الإنسانية بواقعيتها ومن دون روتوش، فضلاً عن أنه {معلّم ونسيج وحده} صنع أسلوباً فريداً في التعبير قوامه رهافة المشاعر والأصالة والعفوية.
صحافي- شاعر هكذا يمكن اختصار شوقي أبي شقرا، أحد أبرز الرواد في الصحافة اللبنانية والعربية، وإليه يعود الفضل في إنشاء أول صفحة ثقافية في الصحافة اللبنانية في جريدة {النهار}، وأول ملحق ثقافي في الجريدة نفسها. كذلك كان له حضور في مجلة {شعر} التي أسسها الشاعر اللبناني يوسف الخال، وكانت علامة فارقة في الشعر العربي لإرسائها أسس الشعر الحديث، فكان فيها شاعراً مجلّياً ومترجماً قصائد لشعراء فرنسيين.
آفاق واسعة
فتح شوقي أبي شقرا الصفحة الثقافية في جريدة {النهار} على آفاق واسعة تشمل الأدب والفن والموسيقى والمسرح… فأضحت منبراً لكل نتاج مثمر ومفيد ومبدع سواء في لبنان أو في العالم العربي. لم يكتفِ بذلك، بل عمل على تجديد اللغة العربية، فاختزل العبارة واعتمد الاختصار في المعنى وفي المدلول، واستمر في عطائه سنوات طويلة، وما لبثت أن حذت الصحف حذو {النهار} وأنشأت بدورها صفحات ثقافية، فتوهج نور الثقافة في الصحافة اليومية.
ولج شوقي أبي شقرا الشعر من باب تجديد اللغة وعصرنتها، وله عشرات الدواوين في هذا المجال، تتضمن قصائد مختلفة، فرضت نفسها عليه من دون أن يتصنع هو في كتابتها، وإذا بفعل الكتابة عنده يستمد ملامحه من عناصر الطبيعة الرئيسة: التراب والمياه والهواء، مع متانة لغوية وصور نابضة بالحياة.
صحيح أن شوقي أبي شقرا واسع الثقافة، شمولي في الفكر، وترجم لكبار الشعراء الفرنسيين، إلا أنه لم يتأثر بأي منهم بل انتهج أسلوباً خاصاً به، يمتاز بغناه بالصور الشعرية وواقعية مفرداته التي يستمدها من بيئته ومن شخصيته، بعيداً عن التيارات الغربية والفلسفات التي تزاحمت في النصف الأول من القرن العشرين ورافقت ظهور الشعر الحديث والقصيدة النثرية.
وإذا كان بعض الشعراء العرب تحمسوا للقصيدة النثرية هرباً من القواعد والأوزان، فإن شوقي أبي شقرا كتب نتاجه الشعري انطلاقاً من متانة لغته وامتلاكه القواعد، مع بعض من الرمزية، للسماح للقارئ بالغوص في عوالم أخرى غير عالم الشاعر. من هنا استحق لقب {شاعر التجديد والتحدي}، ذلك أن قصائده تبدو مفعمة بالحريّة وتسجل خصائص الحياة ومظاهرها بتنوّع وجمالية.
حداثة وعصرنة
أسس شوقي أبي شقرا مدرسة شعرية عنوانها العريض شعر حديث ومعاصر، وأثقلها بتجاربه الحياتية التي عاشها منذ طفولته وشبابه ولا يزال، وشجع على الكتابة الشعرية، ففتح الصفحة الثقافية في جريدة {النهار} للشعراء الشباب، وراح يهذّب كتاباتهم ويشجعهم، وأفرد مساحة للشعراء الكبار أيضاً، فأحدث توازناً ثقافياً نهل من معين تجارب شعرية مهمة وأخرى شابة تبشر بمستقبل واعد. وعلى مدى خمسين سنة من العمل في هذا المجال، لم يُخذل شوقي أبي شقرا يوماً، فكانت خياراته مناسبة وملائمة، وأضحى بعض الشباب الذين رعاهم من الشعراء الكبار في ما بعد.
رغم واقعيتها، لم تخبُ الصور الشعرية لدى شوقي أبي شقرا بل تتجدد مع الأيام وتحافظ على نضارتها، ما يضفي عليها خصوصية جمالية وفكرية، كونها نابعة من تاريخه الشخصي وغير مستوردة من آفاق غريبة عن هذا المجتمع، لكنها، في الوقت نفسه، لا تتقوقع في بيئتها.
في بداية حياته الأدبية، تردد شوقي أبي شقرا على {حلقة الثريا}، إلا أنه عندما وعى طريقه الفكري، في خمسينيات القرن العشرين، التحق بمجلة {شعر}، فحاز جائزة المجلة عن كتابه {ماء إلى حصان العائلة}، وكان الأول الذي ينالها مع الشاعر العراقي بدر شاكر السياب ومن بعدهما توقفت الجائزة. تقول الأديبة صباح زوين في هذا المجال: {وعى أبي شقرا مستلزمات الكتابة الجديدة والمعاصرة وسرعان ما عرف كيفية التقاط جوهر اللعبة الشعرية الحديثة بعدما مارس في البداية الكتابة الشعرية الموزونة، ولا معلّم له سوى ذاته}.
المطهر والنعيم
في معظم نتاجه الشعري، يبدو شوقي أبي شقرا باحثاً، لا يكل ولا يتعب، في تحديث اللغة، ناهلاً مفرداته من بيئته الجبلية، لا سيما قريته مزرعة الشوف في جبل لبنان التي شهدت ولادته وكانت ملعب طفولته قبل أن يتوفى والده (كان يعمل في سلك الدرك)، ثم من بيروت التي قصدتها العائلة، فشهدت فتوته في مدرسة الحكمة، وشبابه في مقاهيها ومراكزها الثقافية… كان ذلك في خمسينيات القرن العشرين وستينياته وصولا إلى سبعينياته، عندما كانت بيروت قبلة المفكرين والمثقفين من أنحاء العالم، فتفاعل أبي شقرا مع هذه الحركة وغرف من معينها ثقافة وفكراً وكان له حضور فاعل فيها.
بيروت المدينة الأحبّ إلى قلبه، وصفها أبي شقرا بأنها المطهر والنعيم، عرفت شوارعها شقاوته وفرحه وطيش شبابه، وعلى منابر مؤسساتها الثقافية والفكرية وقف محاضراً ناقلا فكره وتجربته الأدبية… فـ {ذرف طاقته على الورق} كما يقول، وراكم ثقافته ناهلا من معين أهل الفكر من بينهم: ميشال شيحا، جورج نقاش، شارل قرم، جورج شحادة، هكتور خلاط، سعيد عقل إلى يوسف غصوب إلى الياس أبو شبكة إلى أديب مظهر، أنطون سعادة، شارل مالك، موريس الجميّل، رينيه حبشي، فؤاد افرام البستاني، عبدالله العلايلي، كرم ملحم كرم، جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة وأمين الريحاني… وساعده ذلك على الارتقاء والتجدد في اللغة وفي التعبير والتحليق بهما إلى فضاءات جمالية لامحدودة.
مؤلفاته
«أكياس الفقراء» ( 1959)، «خطوات الملك» ( 1960)، «ماء إلى حصان العائلة» (1962)، «سنجاب يقع من البرج» (1971)، «يتبع الساحر ويكسر السنابل ركضاً» (1979)، «حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة» (1983)، «لا تأخذ تاج فتى الهيكل» (1992)، «صلاة الاشتياق على سرير الوحدة» (1995)، «ثياب سهرة الواحة والعشبة» (1998)، «نوتي مزدهر القوام» ( 2003)، «تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة» (2004)، «أبجدية الكلمة والصورة» (2009).
****
(*) جريدة الجريدة الكويتية