كلود أبو شقرا
عنبرة سلام الخالدي، سيدة لبنانية رائدة عاشت في أوائل القرن العشرين إبان السيطرة العثمانية على لبنان والمناطق المجاورة له، فخنقتها العقلية المتحجرة التي فرضت على المرأة العيش في سجن قضبانه تقاليد وعادات بالية، لكنها رفضت الخضوع لصورة المرأة ككائن تابع للرجل، وتمرّدت على الواقع بشجاعة وجرأة لامتناهية، فكانت علامة مضيئة في الحركات النضالية والاجتماعية ومدرسة مشت على هديها الأجيال المتعاقبة. هذه المرأة بالذات عاودت حفيدتها عليه الخالدي رسمها على المسرح في مسرحية “عنبرة” (تعرض على خشبة مسرح بابل في بيروت).
عنبرة في المسرحية شابة صلبة، قوية، يقينها راسخ بإرادة التغيير، تعلمت، جاهرت بأفكارها، بمساندة والدها {أبو علي} سلام، رجل فذ سابق لعصره، آمن بضرورة تعليم المرأة، وانتخب رئيساً لجمعية المقاصد بين 1909 و1913، وساهم في تخصيص قسم لتعليم البنات، بإدارة الأديبة جوليا طعمة، وهي مسيحية، في خطوة جريئة وفي عصر كان فيه الاختلاط بين المسيحية والإسلام من المحرمات.
المجتمع البيروتي، تحديداً منطقة المصيطبة، التي عاشت فيها عنبرة حضر في المسرحية بتفاصيله، اللهجة، الأحياء، الملابس، العادات والتقاليد، ترويقة الفول، لعب الطاولة… من خلال صور تعرض على شاشة وسط المسرح، وحركات الممثلين وحواراتهم، فهؤلاء تقمصوا الشخصيات بشكل يخال للمتفرج أنه يرى بالفعل عنبرة أمامه ووالدتها وأشقاءها وعبد الغني العريسي…
لا يخلو المسرح من الممثلين جميعهم منذ بداية المسرحية إلى نهايتها، فالمشاهد تتوالى بدقة شديدة، ويؤدي الممثلون أدوارهم بإتقان فلا تكاد تمضي لحظة حتى تحمل معها حركة، موقفاً، مباشراً تارة ومن خلال ظلال الممثلين التي تتحرك على الشاشة الموضوعة وسط المسرح تارة أخرى، تقترب حيناً وتبتعد حيناً آخر، متحررة من التقاليد، ومتفلتة من المكان، تلتقي فيها عنبرة حبيبها وتودعه بقبلة، وفيها ينضج وعيها بضرورة تحرير المرأة من القيود الاجتماعية…
لعبة الظل هذه لم تنفصل عن واقع المسرحية بل جاءت مكملة لها ومعبرة، بالرمز حيناً وبالحركة حيناً آخر، عما تريد المخرجة إيصاله حول عنبرة الفتاة السابقة عصرها ومواقفها وتصرفاتها.
تبيّن المسرحية كيف خرجت عنبرة من عزلتها، وصممت على تجديد حياتها غير عابئة بالتقاليد البالية. ففي السادسة عشرة من عمرها نشرت مقالات لها في جريدة {المفيد} البيروتية لصاحبها الشهيد عبد الغني العريسي، وساهمت مع صديقات لها في إنشاء جمعيّة {يقظة الفتاة العربية} للفتيات المسلمات في لبنان. ألقت خطباً عامة وهي منقّبة ثم خلعت النقاب للمرة الأولى في محاضرة عامة في الجامعة الأميركية بعنوان “شرقية في إنكلترة” (1927).
مع التقدم في العمر، أصبحت عنبرة امرأة عصريّة، فتحت الطريق واسعاً أمام تعليم المرأة وتكوين شخصية متحررة بعيداً عن التبعية للرجل وخوض ميدان العمل لاكتساب استقلالية مادية وإبراز الإمكانات والعيش بحرية وكرامة. وضعت نصب عينيها أن المرأة صنو الرجل، وهذه حقيقة لا يمكن نكرانها.
أجواء مشحونة
شهدت بدايات القرن العشرين حركات تحررية قام بها الشباب العربي للمطالبة بالتخلص من النير العثماني، وعقد لفيف من الزعماء العرب مؤتمراً في باريس (1913) لتدارس أحوال الأقطار العربية. في سعيه إلى إخماد حركات الاستقلال، عمد جمال باشا المعروف بالسفّاح، حاكم بلاد الشام الفعلي، إلى شنق شباب من الحركات الاستقلالية في ساحات بيروت ودمشق (1915- 1916). انتهت الحرب عام 1918 بهزيمة الأتراك وانسحابهم.
لم تدم فرحة الاستقلال طويلا، إذ سرعان ما وقع لبنان وسورية تحت الانتداب الفرنسي الذي استمرّ حتى الاستقلال التام في هذين البلدين في الأربعينيات من القرن العشرين.
وسط هذه الأجواء ولدت عنبرة سلام في بيروت عام 1897. والدها الوجيه البيروتي «أبو علي» سليم سلام ووالدتها كلثوم البربير، وهي من عائلة علماء دين. لعنبرة سبع إخوة وأختان، أدى معظمهم أدواراً وطنيّة واجتماعية مرموقة. تلقت تعليمها الابتدائي والمتوسط في مدرستي مار يوسف والمقاصد. وكان لجوليا طعمة دمشقية، مديرة كلية المقاصد للبنات آنذاك، تأثير عميق على فكر عنبرة ونضالها. أشرف العلامة الشيخ عبد الله البستاني على تعليمها في المنزل إبان الحرب العالمية الأولى.
تزوجت المربي الفلسطيني أحمد سامح الخالدي وعاشت في فلسطين حتى النكبة. في الأربعينيات ترجمت إلى العربية الإلياذة والأوديسة لهوميروس ثم الإنياذة لفرجيل.
الممثلون
تميّز الممثلون بالتناغم في أدائهم على المسرح وأبرز كل واحد منهم المغزى من الشخصية التي يجسدها بإتقان وسلاسة وحرفية، فالهيبة من الأب واحترام كلمة الأم والثراثرات بين الفتيات… كلها أمور بينتها طريقة إلقاء الحوارات ومرونة الحركة على المسرح. عنبرة (نزهة حرب) تحترم الأهل ولا تخضع لهم في الوقت نفسه، الأب (عبد الرحيم الحوجي)، شخصية جمعت بين مماشاة المجتمع والأخذ بيد ابنته والاقتناع بأفكارها وثورتها على التقاليد، الأم (كلثوم علي)، تربت على التقاليد، وعكست بأدائها الجميل هدوء المرأة وتحملها بصمت الظروف المحيطة بها. أما عبد الغني العريسي (زياد شكرون)، فهو رمز الشباب الذين يحلمون بالحرية غير آبهين بالموت في سبيلها، جوليا طعمة دمشقية (نجوى قندقجي)، امرأة اشتغلت على نفسها واكتسبت ثقافة وعرفت كيف تؤثر في عنبرة وتحتضن أفكارها، بشرى (سارة زين) رمز للفتاة التي تتوق إلى تغيير وضعها وتتجرأ على الهرب من أهلها لأنهم يريدون تزويجها لشخص يكبرها سناً. شفيقة غريّب (دانا ضيا)، فتاة تتنقل بين العادات والإعجاب بشخصية عنبرة، محمد سلام (عمر الجباعي) شقيق عنبرة الذي يرافق خطواتها، صائب سلام الطفل (هاني الهندي) الشاهد على مسيرة شقيقته الكبرى الاستثنائية، والذي تنقل على المسرح بخفة وأجاد دوره ولفت الجمهور إلى وقفته على الخشبة التي تنم عن حضور قوي وطاغٍ وموهبة مبشر.
*****
(*) جريدة الجريدة الكويتية