مُورِيس وَدِيع النَجَّار
(أديب وشاعر-لبنان)
(مُنذُ زَمَنٍ نَأَى وَنَأَى حَتَّى اختَفَى مُعظَمُهُ مِن تَلافِيفِ الذَّاكِرَةِ، وكُنتُ في بَدءِ دِراسَتِي الجامِعِيَّة، قَرأتُ – في مَجلَّة “الأدِيب” إذا صَحَّ ظَنِّي – أُقصُوصَةً رَقِيقَةً، للأديب الكبير عِيسَى النَّاعُورِي، فَأَثَّرَت فِيَّ عَميقًا.
وَهَانِي، بعد هذا الزَّمن الطَّوِيلِ، أَحُوكُ أقصُوصَتِي مُستَوحِيًا ما بَقِيَ مِن فِكرَةَ سَالِفَتِها، مُستَأذِنًا رُوحَ هذا الأَدِيبِ المُبدِع)
كُنتُ في التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ عندما التَحقتُ بالجامِعَةِ اللُّبنانيَّة، مُتَخَصِّصًا في الرِّياضيَّات.
تَرَكتُ قريتي وهدوءَها، وبُطْءَ أيَّامِها، وصفاءَ العيشِ فيها، وَوَلَجتُ بيروتَ، وضجيجَها، وسُرعةَ حَرَاكِها، والتَّعاطِيَ البارِدَ بين قاطِنيها.
انقَضَت ثلاثُ سنواتٍ دِراسيَّةٍ، وسَيتَخَرَّجُ رفيقاي اللَّذان أشَغَلُ معهُما منزلاً اكتَرَيناه. أمَّا أنا فَسَأُنهي دراسَتي مع انتِهاء العام الجامعِيِّ القادِم. فكان عَلَيَّ أن أَتَدَبَّرَ سَكَنًا لِلسَّنَة الأخيرة.
أَسَرَّيتُ هَمِّي لِـ “المُعَلِّم جَابِر”، مُتَعَهِّدِ “الكَافِيتِيرِيا” في الكُلِّيَّة، فأَعلَمَني بوجُود غرفةٍ عند امرأةٍ من قريته، قَريبَةٍ من الجامعة، بِبَدَلٍ مَعقُول.
استَقبلَتني المرأةُ بِحذَرٍ، واتَّفَقتُ معها على الإِيجار بعد أن مَنَّنتني بما صَنَعت، لما لِـ”جابر” من عَزَازَةٍ عندها. ثم تَلَت عليَّ شُروطَها:
لا لِلتَّجَمُّعِ مع رفاقي في حَرَمِ مَنزِلِها، بالرُّغم مِن أنَّ لِلغرفة مَدخَلًا خارجيًّا مُستَقِلًّا.
لا للتَّصرُّفات الشَّائنةِ، فزوجُها مُهاجِرٌ في أميركا، وابنَتُها نَدَى وحيدةٌ، لذا فهي لا تَحتَمِلُ الشَّواذَ والمُشكِلات.
لا لا لا…
أَنهَت تِلاوَتها الصَّارِمَةَ، فَأَجبتُها لما تُريدُ، وطَمأنتُها بأنَّني ابنُ قريةٍ، أتَمَسَّكُ، مِثلَها، بِقِيَمِ الرِّيفِ وأَعرافِهِ، ولا تَستَهويني مَفَاسِدُ المدينة.
وَمَرَّتِ الأيَّامُ رَتِيبَةً، وكانت نَدَى تَمُرُّ، كُلَّ صباحٍ، أمامَ غُرفَتي لِتَستَقِلَّ البَاصَ المَدرسيَّ.
ناعِمَةٌ، طَرِيَّةٌ، في حُدُودِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ من عمرها. وَقُورٌ في مَشيَتِها ولِباسِها، على صِغَرِ سِنِّها، ما زَادَ من اهتِمامِي بها.
بَدَأَت تَشغَلُ تَفكيري، ويَقوَى حُضورُها في ضَمِيري، وبَدَأتُ أنتَظِرُ مُرُورَها أمام نافذتِي، بِفارِغِ صَبرٍ وشَغَفٍ، لم أتَحَرَّى، في قَرارَتِي، عن سَبَبِهِما. وباتَ وجهُها يَهجِسُ في صَدرِي مَهما كَبُرَت مَشاغِلي، وَبَدَأَت تَمَضُّني أيَّامُ الإِقفالِ المدرسيَّةُ، لأنَّها تَحُولُ بَيني وبَينَ رُؤيَتِها.
هي حَيِيَّةٌ، مِثلي، تَغُضُّ من طَرْفِها إِمَّا رَأَت أعيُنًا ترقُبُها. حتَّى إنَّه لمَّا ابتَسَمتُ لها مَرَّةً لَمَحتُ حُمرَةً تَغزُو خَدَّيها.
أَرَّقَني انشِغالي بِصُورَتِها الَّتي باتَت لا تُفارِق مُخيِّلَتي، حتَّى أضحَت تقتَحِمُ فِكرِي أَثناءَ المُحاضَراتِ الجامعيَّةِ، فَأَذهَلُ بينَ آوِنَةٍ وأُخرَى، ثُمَّ أَستَفِيقُ وأَرتَعِشُ، وأَطرُدُ الخَيالَ الطَّارِئَ، وأُتابِعُ شَرحَ أُستاذِيَ، ما وَسِعت.
راوَدَني خاطِرٌ أَتَمَلَّصُ بِهِ مِن جُبْنِ مُواجَهَةِ نَدَى بِالكَلامِ الصَّرِيحِ، فَكَتَبتُ رِسالَةً قَصِيرةً أُعَبِّرُ فيها عن إعجابِي بها، وعن كَونِها باتَت لا تُبارِح خَيالي آناءَ اللَّيلِ والنَّهار. ثُمَّ رُحتُ أَتَرَصَّدُ الفُرصَةَ لأُناوِلَها إِيَّاها خِلسَة. وإذ سَنَحَت، وكانت مُؤَاتِيَةً، تَلَكَّأتُ، وطَوَيتُ الوَرَقَةَ في جَيبي، وَعُدتُ إلى عُزلَتِي كَسِيفًا.
أَقلَقَني عَدَمُ ذَهابِها إلى المدرسة طِيلَةَ ثلاثةِ أيَّامٍ مُتَتالِيَةٍ، ولكنَّني لم أَجرُؤْ على سُؤالِ أُمِّها عنها، فهي امرَأةٌ صُلبَةٌ، مُتَجَهِّمَةُ الوَجهِ، لا تَترُكُ لِلتَّودُّد مَكانًا، وأَظُنُّها على رِيْبَةٍ دائِمَةٍ حِيالي.
في اليَومِ الرَّابعِ لَمَحتُها تَنزِلُ الدَّرجَ أمام نافِذَتي، فَأَحسَستُ قلبِي يَنبُضُ سريعًا، وسَمِعتُ خَفَقانَهُ على جِدارِ صَدرِي، وهَمَمتُ بأن أُحَيِّيَها… ثُمَّ تَراجَعتُ، وانكَفأتُ، كما في كُلِّ مَرَّة.
في المَساءِ التَّالي سَمِعتُ طَرْقًا على بابي، فَقُمتُ لِتَوِّي، فإذا الأمُّ تُسَلِّمُ عليَّ بابتسامةٍ غَيرِ مَعهُودَةٍ، وتَستَأذِنُ عَلَيَّ، فقلتُ: تَفضَّلي، يا خالَتي، هو بَيتُك.
دَخلَت مُتَلَفِّتَةً إلى كلِّ الاتِّجاهاتِ، وجَلَسَت.
– ماذا تَدرُس في الجامعة، يا بُنَيّ؟
– أتخَصَّصُ في الرِّياضيَّاتِ، وهذه هي سَنَتِي الأَخِيرَةُ، سأتَخَرَّجُ في نِهايَتِها، وأبدَأ التَّعلِيم.
– إِذَن سَتَترُكُنا بَعدَ أَشهُر.
– هي الحياةُ، فهل لنا كَبيرُ خِيارٍ فيها؟
– وَفَّقَك الله. لا أَدرِي إذا كُنتَ عَلِمتَ بِغِيابِ “نَدَى” عن المدرسة ثَلاثَةَ أيَّامٍ، لِوعكَةٍ أَلَمَّت بها؟
– لا، لم أَعلَم. والحَمدُ لله على بُرئِها.
– بُنَيَّ، هل تُسدِي إلينا خِدمةً، وتُعينُ نَدَى في ما فاتَها مِن دُرُوسٍ أثناءَ غِيابِها؟
– بالتَّأكِيدِ، سَأَمُرُّ بِكُم في المساء، عند رُجُوعِي مِن الجامِعَة.
جَلَسنا مُتجاوِرَين حَولَ طاوِلَةٍ صغيرةٍ، في غُرفَتِها، فَعَرَتني رِعشَةٌ لَفَّتني مِن رَأسي حَتَّى أَخْمَصَيَّ، وارتَبَكتُ، وتَلَعثَمتُ في كلامِي وأنا أَسأَلُها عَمَّا فاتَها مِن دُرُوس.
قالت إنَّها تُرِيدُ مِنِّي مُساعَدَةً في مادَّة الرِّياضيَّاتِ، فَقَط، فَهِيَ المادَّةُ الَّتي لا تُتقِنُها ولا تَرغَبُ فيها.
مَرَّت ساعةٌ حَسِبتُها دقيقةً، والأمُّ تدخُل علينا تِباعًا، تارَةً تَحمِلُ لنا الشَّايَ، وطَورًا تَأتِينا بِطَيِّبِ ما عِندَها، وأحيانًا لِتَسأَلَ عن استِيعابِ نَدَى لما أشرَح.
أمَّا أنا فقد خِلتُ الجَنَّةَ المَوعُودَةَ رَاهِنَةً بين يَدَيَّ، في قُربِ مَن مَلَكَت جَنَاني، ومَلَأت أيَّامي بِمَشاعِرَ غَرِيبَةٍ عنِّي. وَأَحسَستُ في نَدَى مَيلًا نَحوِي، أو تَراءَى لي هذا. أَلَم تَسأَلْني أشياءَ عن حياتِي الخاصَّة؟ أَلَم تَستَفسِرْ مِنِّي كيف أقضِي أَوقاتَ فَراغي؟
تَشَجَّعتُ، إِثْرَ هذه اللَّيلَةِ العَامِرَة مِن حياتي، وَدَسَستُ في يَدِها، وهي تَمُرُّ أَمامَ نافِذَتي في اليَومِ التَّالِي، وَرَقَةً صَغِيرةً، حَشَدتُ فيها، ما وَسِعَت لُغَتي، مِن إعجابٍ ومَحَبَّة. واجتاحَني خَوفٌ وقَلَقٌ، فَجَلَستُ واهِنًا أَنتَظِرُ انقِضاءَ النَّهارِ، وَرُؤيَتَها، إذ كُنتُ مُلازِمًا المَنزلَ، أَستَعِدُّ لامتِحانٍ فَصلِيّ.
عادَت في مِيقاتِها، وأنا مُنتَظِرٌ في نافِذَتي نافِذَ الصَّبر.
صَعِدَت الدَّرَجَ مِن دُونِ أن تَنظُرَ في اتِّجاهِي، فَتَقَهقَرتُ وارتَمَيتُ على سَرِيرِي، أَرتَجِفُ كَعُصفُورٍ تَحتَ البَرَدِ، تَلُفُّني الخَيبَةُ، وَيَقُضُّني الإِحباط.
بَعدَ دَقائِقَ مَعدُوداتٍ سَمِعتُ طَرْقًا على الزُّجاج، فَهَبَبتُ كَمَن لَسَعَته جَمرةٌ، فإذا بِنِدَى تُلقِي إليَّ بوُرَيقَةٍ، وتقول، لاهِثَةً: استَفَدتُ من غِيابِ أُمِّي عن المنزل لآتِيك. ثُمَّ ارتَقَتِ الدَّرَج عَدْوًا، فرَاشَةً تَحمِل في رُدْنَيها رَبِيعًا مِن صِبًا وجَمال…
حتَّى اليومَ، وَعَبَرَت سنواتٌ، لا يَسَعُني أن أَصِفَ شُعُوري حين فَضَضتُ الوَدِيعَةَ وفي سُطُورِها ما كُنتُ أحلُم به. وَمُنذُئِذٍ بدأ تبادلُ الإشاراتِ والرَّسائلِ بَينَنا، واستِرَاقُ الفُرَصِ النَّادِرَةِ لِقَنصِ لَمَساتٍ بَريئةٍ، وكلماتٍ دافِئة.
والغريبُ أنَّ أُمَّ نَدَى قد تغيَّرَ سُلوكُها معي، فَباتَت أَلُوفًا، تَسأَلُني عَمَّا أحتاجُ، وتَطلُبُ إليَّ أن أعتَبِرَها كَأُمِّي. ومرَّةً سَأَلَتني إن كان مُمكِنًا أن أُعَيَّنَ، بعد تَخَرُّجِي، في بيروت. ولمَّا أَفَدتُها بِالصُّعُوبَةِ البالِغَةِ لهذا الشَّأن قَرَأتُ في عَينَيها أسَفًا، لم أَشغَلْ نَفسِي، يَومَها، بتَفسِيرِه.
تَخَرَّجتُ، وعُيِّنتُ في ثانَويَّةٍ رَسميَّةٍ بمِنطَقَةٍ جبليَّةٍ، نائيةٍ جِدًّا عن بيروتَ.
ودَّعتُ المرأةَ، فَأبصَرتُ في قَسماتِها حُزنًا دَفِينًا. رَبَّتَت على كَتِفي، وعانَقتني، سائلةً: ألن تزُورَنا في قابِل الأيَّام؟
أَكَّدت لها أنَّني أعتبرُها وَنَدَى مِن أَهلِي، وسأزورُهما كلَّما تَيَسَّرَ لي. وأَوصَيتُ نَدَى بالدَّرسِ الجادِّ، فهي فتاةٌ ذكيَّةٌ يَنتَظِرُها مُستَقبلٌ باهِر.
وفي المَسَاء، في غَفلَةٍ عن أُمِّها، رَسَمتُ وَنَدَى أشياءَ تَطالُ حَياتَنا، ووضَعنا لِلعُمرِ خِطَّةً من أحلامٍ ورُؤًى، وتَواعَدنا على اللِّقاء كُلَّما أُتِيحَت لنا نُهزَة.
تَتَالَتِ الأَيَّامُ، يَلتَهِمُ بَعضُها بَعضًا، وأخَذَني التَّعليمُ بكُلِّيَّتِي، وَبَقِيَت نَدَى خاطِرًا لا يُبارِحُ بالِي!
كُنتُ أُخَطِّطُ للنُّزول إلى بيروتَ وزيارةِ بيتِ الحَبِيبَة. على أنَّ انهِماكي في تَحضِيرِ الدُّرُوسِ، وتَصحِيحِ الفُرُوضِ المَدرَسِيَّةِ، وصُعُوبَةِ الوُصُولِ إلى بَيروتَ إذ يتطَلَّبُ مِنِّي تَبدِيلَ سَيَّارَةِ الأُجرَةِ ثَلاثًا، كُلُّ هذا أَخَّرَ زِيارَتي المُنتَظَرَة.
رَاوَدَتني مِرارًا فِكرَةُ الاتِّصالِ هاتِفِيًّا بِالبَقَّالِ جارِهِما، أطلُبُ إليه أن يَستَدعِيَ لي نَدَى، ولكنَّني كُنتُ أَعُودُ عنها لِمَا فيها مِن إِثارَةٍ لِحَفِيظَةِ الأُمِّ، وإِحراجٍ لِفَتاتِي.
وأخيرًا شَدَدتُ الرِّحالَ، في فُرصَةِ عِيدِ المِيلادِ، وَيَمَّمتُ المَدينةَ، قَاصِدًا قِبلَتي العَتِيدَةَ، فاستَقبَلَتني الأُمُّ، فَأَخبَرتُها أَنَّني جِئتُ بِطَلَبِ ورَقَةٍ مِن الجامِعَةِ، وَكَي أَزُورَهُما، مُعتَرِفًا لها بِتَقصِيرِي وَإِطالَةِ غِيابِي.
تَأَمَّلَتني الأُمُّ، وفي وَجهِها كآبَةٌ بادِيَةٌ، وقالت: لَيتَكَ لم تَتَأَخَّر هكذا، فَلَقَد ظَنَنَّاكَ مَحَوتَنا مِن ذِهنِك. نَدَى تَزَوَّجَت مِن قَرِيبٍ غَنِيٍّ لِزَوجِي، جارٍ لَهُ في غُربَتِهِ، وهي الآنَ معه. كان زَواجُها مُفاجِئًا، أَرادَهُ والِدُها، وَأَصَرَّ في إِتمامِهِ بهذه السُّرعَة، رافِضًا كُلَّ تَأَنٍّ أَو مُماطَلَة. ففي ظَنِّهِ أَنَّ زَواجًا مُؤَاتِيًا كهذا لا يَأتي كُلَّ يَوم.
صَحِيحٌ أَنَّ الشَّابَّ طَيِّب القَلبِ، مَيسُورٌ جِدًّا، ولكنَّه في أَواخِرِ ثَلاثِينِيَّاتِ عُمرِهِ، يَكبُرُها بَحَوَالَى العَقدَين.
عارَضَت نَدَى، وبَكَت أيَّامًا طَوِيلَةً، وأنا لم أَكُنْ راضِيَةً بما اعتَبَرتُهُ صَفْقَةً، ولكنَّ زوجي أَصَرَّ على الأَمرِ، فَتَراجَعتُ كَي لا أَهدِمَ هَناءَةَ عائِلَتِنا.
لا بَأسَ، ولكنَّ الغُربَةَ صَعبَةٌ، وكنتُ أَتَمَنَّى لو تَزَوَّجَت ولم تُسافِر.
وأنتَ … أنتَ، يا بُنَيَّ، لَيتَكَ تَعَيَّنتَ في بيروتَ؟ ولكنَّ الأَمرَ لم يَكُنْ في يَدِك.
تَكَلَّمَتِ الأُمُّ، وتكلَّمَت، وأنا صامِتٌ كَحَجَرٍ، شَاخِصُ البَصَرِ، مُحَدِّقٌ إلى لا شيء. ثُمَّ تَمَالَكتُ نفسي عن ذُهُولِي وقلتُ لِلأُمّ: وفَّقَها الله، هي تَستأهِل الخَيرَ الكَثِير.
خَرَجتُ إلى الشَّارع، مُدرِكًا أنَّني دَفَنتُ، في هذا البَيتِ، ذِكرياتٍ أَزهَرَت في رُوحِي، وفَجرًا رَأَيتُ في تَباشِيرِهِ سَعادَةَ الحَياة، وَحُلمًا بَنَيتُ عليه صُرُوحًا مِن آمالٍ عِراض.
عُدتُ إلى عَمَلِي وبِي ما هو أَمَرُّ مِن الحُزنِ، وأَقسَى مِن الحِرمان…
مَرَّت سَنَواتٌ ثَمانٍ، طَوَتني هُمُومُها وشُجُونُها، فَحَسِبتُ أَنَّني سَلَوت!
***
في غَمرَة الشَّارِعِ البَيرُوتِيِّ، اشتَبَكَت عَينايَ وَعَينانِ أَلِيفَتانِ، فَجَمَدَت أَنفاسِي.
مَرَّت بِي، وتَجاوَزَتني، يُرافِقُها رَجُلٌ، وتُمسِكُ بِيَدِ فَتاةٍ صَغِيرَة.
نَظَرتُ وَرائِي، خَطْفًا، فإذا هي تَرمُقُني. وإذ تَلاقَت نَظَراتُنا، خِلتُ أَنَّ وجهَها شَحَبَ، وسَمِعتُ الرَّجلَ يقول: ما لَكِ يا نَدَى، دَعِينا نَدخُلُ هذا المَتجَر…
طَواني زِحامُ الشَّارع، ومَشَيتُ على غَيرِ هُدًى، كَأنَّني في ضَبابٍ مُطبِقٍ، لا وُجهَة لِسَيري.
وَلَفَّني ضَيَاعٌ حَارِقٌ، فَأَمسَكتُ دُمُوعًا كادَت تَطفِرُ مِن مُقلَتَيّ…
كِدتُ أَبلُغُ نِهايَةَ الشَّارِعِ، حِينَ وَمَضَت في ذِهنِي فِكرَةٌ، فَقَفَلتُ راجِعًا، مُسرِعًا، أُدافِعُ السَّابِلَةَ، وأَتَفَحَّصُ وُجُوهَ المارَّةِ، حتَّى أَتَيتُ المَكانَ الَّذي رَأَيتُها فيه، فَرُحتُ أُفَتِّشُ بِنَظَرِي داخِلَ المَتجَرِ الَّذي ضَمَّها، فلم أَرَها، فَعُدتُ إلى بَحثِي المَجنُونِ، اللَّامُجدِي، في الشَّوارِعِ المُحِيطَةِ، ذاهِلًا عن نَفسِي، وعن الوَقتِ الَّذي انقَضَى…
عُدتُ في المَساءِ، إلى مَنزِلِي الجَبَلِيِّ، وفي ضَمِيرِي صُورَةٌ قَدِيمَةٌ، مٌستَجِدَّة…
لا.. لن تَمُوتَ ذِكراها!
يَكفِي أَن يَمِضَ بَرقُها في البالِ، حتَّى تلتَهِبَ، جَمرةً كَوَتِ الفُؤادَ، مِن ماضٍ حَنُونٍ، وما زَالَت لَسعَتُها في الشَّغَاف!
قد تَغِيبُ لِوَقتٍ طَوِيلٍ، فَتَعمُرُ الأيَّامَ هُمُومُ الحياةِ، وَيُلقِي الزَّمَنُ رِداءَهُ الكَثَّ القاتِمَ على أَحداثٍ غَبَرَت، وَيَأخُذُنا التَّرْحالُ المُستَمِرّ!
وَلكِنْ…
إمَّا هَبَّت نَسمَةٌ مِن هاتِيكَ المَرابِعِ والمَواجِعِ، فَإنَّها تَعودُ شَوقًا دافئًا، يَبُثُّ في القَلبِ طَعمَ الكآبَة…
سَنَواتٌ طِوالٌ مَرَّت، سَلَخَت كثيرًا مِنَ المَعالِمِ الحَمِيمَةِ، ولكنَّها لم تَسلَخ ذِكراها الشَّجِيَّة.
وَأَنَّى لِنارِ الحَشَى أَن يُخمِدَها كَرُّ الدَّهر؟!
أَبَدًا لَن تَغِيبَ مِن بالِي، وَلَن تَخبُوَ صُورَتُها!
أَلَم تَكُن دِفْءَ الخَفَقاتِ في رَبِيعِ الصِّبا وَأَشواقِهِ العِذاب؟!.
لا… لَن تَغِيبَ، لَن تَغِيب!.