اللَّوحُ الأَخرَس!

maurice najjar

مُورِيس وَدِيع النَجَّار

(أديب وشاعر- لبنان)

وَعُدتُ إلى مَدرَسَتِي، بَعدَ غِيابٍ طَويلٍ، إِثرَ تَقَاعُدِي مِنَ التَّعلِيمِ.

وَدَخَلتُ غُرفَةَ صَفٍّ كُنتُ اعتَدتُ عَلَى الوُقُوفِ فِيهَا أَمَامَ طُلاَّبِي، لِسَنَواتٍ، وَنَظَرتُ إِلَيك، يا لَوحَ كِتَابَةٍ رَافَقَني مَدَى سَنَواتٍ طِوالٍ مِنَ الكِفاحِ والعَطاءِ، فأَوغَلتُ في شُرُودٍ عَمِيقٍ، وغَمَرَتني كآبَةٌ دَافِئَةٌ وَادِعَة!

فَبِاللهِ عليك!

يقولونَ إِنَّكَ أَخرَسُ، فهل يَكُونُ الكلامُ فقط بالأصوات؟

بِبَنَانِي جَعَلتُكَ تَنطِقُ، أَنتَ الصَّامِتُ الأَصَمّ!

بِعِلمِي وَمَعرِفَتِي صَيَّرتُكَ مَصدَرَ إِشعَاعٍ، وَأَجرَيتُ الحَرَارَةَ فِي أَوصَالِكَ المُتَخَشِّبَةِ، أَنتَ الصَّلْدُ المَوَات!

بِغِنَائِيَ الأَشجَى جَعَلتُ البَلابِلَ، إِزَائِي، عَلَى المَقَاعِدِ الكَسلَى، تُرَدِّدُ الرَّنِيمَ، وَتَلتَمِعُ فِي بَصَائِرِهَا أُمنِيَاتُ الآتِي، وَأَحلامُ الغَد!

لكم رأيتُكَ، في صَباحاتِي، تَبتَسِم لإِطلالَتي، وكُنتُ أُحِسُّ بِدِفءِ أضلاعِكَ تحت أصابعي، وإِخالُكَ تَشجَى إِمَّا لَمَستَ وَهَنًا ينتابُني. وكُنتُ أرى في صفحتِكَ المَلساءِ إِضمامَةً مِن صفحاتِ حياتي، طَوَت كِفاحِي، وعَرَقِي، وسَهَرِي مع مِصباحٍ مُضنًى!

وبعدَ استِراحاتِ الصَّيف الطَّويلة، كُنتَ تستقبِلُني بِوَجهٍ نَضِرٍ، جَدَّدَ الطِّلاءُ أَساريرَه، أَمَّا أنا فكُنتُ أرى وراءَ لَبُوسِكَ الجديدِ غُضُونَكَ الماضِيةَ، والكلماتِ الأخيرةَ الَّتي سَطَّرتُها هناك!

فهل كُنتَ تَنسَى ما كُنتُ أَبُوحُ بِه إليكَ، أم أَنَّ في جَمادِكَ يَسري رُوحُ أُلفَةٍ مَدِيدَةٍ، ولا يَموت؟

كم أذكُرُ رائحَةَ الغُبارِ تَحُوطُ بِك، وكانت تُضَيِّقُ عَلَيَّ أنفاسي، فأهرُبُ منها إلى النَّافِذة القريبة، مُتَبَرِّمًا ضَجِرًا!

تَاللهِ! ما جَعَلَها، الآن، طَيِّبَةَ الشَّمِيم كأنفاس التِّلال، رَخِيَّةَ الوقعِ كأحلام الأطفال!

ما الَّذي أَحالَكَ، في عَينَيَّ، مِن خَيالِ إِجهادٍ، إلى شَلاَّلِ ضِياء؟!

أستَعِيد، في بالي، حِينَ اتَّخَذتُ قراري بفِراقٍ لا عَودَةَ عنه، كيف خَرَجتُ وأنا ألتَفِتُ نحوكَ، ودُموعٌ تُعانِدُ مُقلَتَيَّ، وقلبِي قد تَرَكَ الكثيرَ مِنهُ هناك!

ها أنا، اليَومَ، وَجَفَتنِي طَبشُورَتِي الأَثِيرَةُ، وَانزَوَت فِي دُرجِي، كَئِيبَةً كَسِيفَةً، وَكَانَت فِي يَدِي تَمُورُ بِالحَيَاةِ، وَتَضِجُّ بِالنَّضَارَةِ بُرْعُمًا طَيَّ كَفِّيَ الدَّفِيئَةِ، أَقِفُ أَمَامَكَ، أَعزَلاً مَغلُوبًا، دَحَرَتنِي السِّنُونُ، وَشَدَّ عَلَى كَاهِلِي عِبْءُ أَيَّامٍ تَكَدَّسَت وَلَيَال!

وَهَا أَنتَ، الآنَ، تُنْطِقُنِي مَشَاعِرَ تُلهِبُ جَوَانِحِي، وَتُثِيرُ المِدَادَ فِي يَرَاعِي..

وَهَا جُمُودُكَ الدُّهرِيُّ يُحَرِّكُ، فِي نَفسِيَ، مَا تَصَلَّبَ عَلَى الزَّمَنِ، وَيُوقِدُ، فِي جَوَارِحِي، جِمَارًا خِلتُهَا خَمَدَت إِلَى الأَبَد!

فَبِاللهِ عَلَيك!

دَعْنِي وسَكِينتِي لِمَا تَبَقَّى مِن مَسِيرَةٍ أَرَى مَحَجَّتَهَا قَابَ عَين!

دَعنِي أُقَلِّبْ صَفَحَاتِيَ البَوَاقِي عَلَى شُعَاعَاتِ قِندِيلٍ تَهَالَكَت ذُبَالَتُهُ، وَجَفَّ الكَثِيرُ مِن زَيتِهِ، وَيَقِينًا لَن تَبرَحَ ذَاكِرَتِي يَا صُورَةً حَنُونًا مِنَ المَاضِي!

وَيَا رَفِيقًا مَا اغتَابَنِي مَدَى كِفاحِي، وَلا نَكَثتُ عُهُودَه!

لِلَّهِ دَرُّكَ!

أَنَا مَن طَوَّعتُكَ، أَبَدًا، كَيفَ وَسِعْتَ أَن تُطَوِّعَنَيِ اليَوم؟!

                ***

وعُدتُ أدراجي، مُنكَفِئًا، إلى صَومَعَتي، وفي الحَنايا غُصَصٌ، وفي القلب خيالٌ من أيَّامٍ طِوَالٍ، ولَّت، وفي القَلبِ عِتابٌ، عليكَ، رَقِيق:

يا خِدْنَ عُمرٍ.. هل دهاكَ جَفائي                فَنَكَثتَ عَهدِي، بعدَ طُولِ تَنائي؟

أَفما سَفَحتُ أمام وجهِكَ مَيعَتي،                      وربيعَ أيَّامي، وزَهْوَ رُوائي؟

أَفَمَا وقَفتُ أمام صمتِك أدهُرًا،                  أتلُو غِنَى عِلمي، وشَجْوَ حُدائي؟

أَفَمَا بَلَوتَ حَذاقَتي، فَوجدتَني                   صِنْوَ العطاءِ، وطابَ فيكَ أَدائي؟

أيكونُ نُكراني لديكَ إِثَابَتي،                         ويكونُ نِسيانُ العُهودِ جَزائي؟

أنا لا أرى في وجهِكَ المُغبَرِّ                   ما سَطَّرتُ، فيكَ، بِنَخوَتِي وَوَلائِي

ها قد حَضَنتَ حُرُوفَ غيري، هل تُرَى             وَلَّى وَفَاؤُكَ يومَ فَاضَ وفَائِي؟

وأنا أراكَ، على النَّضارة، باسِمًا.                 هل ذا سُلُوُّكَ مِن جَوَى بُرَحَائِي؟

أَتُبَدِّلُ الأحبابَ عند تَبَدُّلِ           ـــــــــــــــ           الأحوالِ، أَو تُزرِي بِهِم كَرِدَاءِ؟

أنا لا أزالُ على الوَدادِ وإِن أَكُن                     يومًا تَرَكتُكَ، بعدَ طُولِ عَنَاءِ

آن ارتَأيتُ، إذا نَأَيتُ، هَناءتي،                    وتَجَدُّدِي، بعدَ الوَنَى، وسَنائِي

فَإِذَا الوَساوِسُ، في غِيابِكَ، تَزدَهي،                   وإذا دَوائي في فِراقِكَ دائِي

يَبقى خَيالُك في خَيالِي شَاغِلاً،                      أَلَقَ الصَّباحِ، وَرِقَّةَ الإِمساءِ

ويَظَلُّ ذِكرُكَ، كُلَّما رَدَّدتُهُ،                           مَدَدَ اليَراعِ، إِذا أُسِرُّ غِنَائِي

وَلَئِنْ تُبَدِّلْ في هواكَ، فإنَّني                   ما كُنتُ يومًا، في الهوى، بِمُرائِي!

maurice 2

اترك رد