يا شعب لبنان كفاك شكوى فأنت تصنع أسوأ السياسيين في العالم

mona sehnaoui

عمل لمنى صحناوي

رؤوف قبيسي

(كاتب- لبنان)

لا أعتقد أن في العالم سياسيين يحتقرون شعبهم كما يحتقر أهل السياسة في لبنان شعب لبنان، وإذا وجد بلد آخر له مثل هؤلاء الحكام وهذه الثقافة، فموقعه في القائمة سيكون حتماً بعد لبنان. ما نعنيه ليس تحقير الناس في عيشهم فحسب (ماء، كهرباء، طبابة، تعليم، الخ)، بل في شيء يفوق ذلك كله، هو الطريقة التي ينظر فيها السياسيون إلى أنفسهم وإلى الناس.

في الأناجيل يأتي الراعي الصالح إلى خراف إسرائيل الضالة ليكرز فيهم بالبشارة ويهديهم إلى الصراط المستقيم، أما أهل السياسة في لبنان فليسوا رعياناً، بل هم إلى الذئاب أقرب. الناس في نظرهم خراف ضالة، يدمغونهم كما تدمغ جلود الخراف بعد الذبح: ماروني، سني، أرثوذكسي، شيعي، درزي، إلى آخر ما في جعبتهم من أختام وتصنيفات قبلية وعنصرية. يريدون أن تبقى الأمور على حالها حتى لا يفقدوا مراكزهم التي هيأها لهم النظام الطائفي العنصري. خطابهم أوصاف ملؤها التحقير لكائن حر، له الحق إن هو أراد، أن يخرج من الشرنقة التي ولد فيها، والدين الذي نشأ عليه. النظام في لبنان لا يترك هذه الحرية للمواطنين، والسياسيون لا يريدون تغييره، هكذا يبقى المواطن “مسلما” أو “مسيحياً” حتى لو صار ملحداً، وأذاع إلحاده في العلن! النظام في لبنان “يدمغ” المواطنين بدين آبائهم وأجداهم، مع أن من الصعب أن تجد لبنانياً صار مسلماً أو مسيحياً بإرادته الحرة، ما يجعلنا نتساءل: مَن من “مسيحيي” لبنان ولد مسيحيا ثم تديّن بالإسلام؟ مَن من “المسلمين” ولد مسلماً ثم تديّن بالمسيحية؟ إذا وجدت هذه الطبقة من الناس، فعدد أفرادها لا بد أن يكون على الأصابع.

مسألة التدين علاقة عمودية حرة بين الفرد والسماء، أو هكذا يجب أن تكون، أما في لبنان فالدين حتمية تاريخية، تركة يرثها المواطن من أبويه وأجداده، وأهل السياسة في لبنان حرصاء أن تبقى متوارثة ليحولوا دون تحول البلد إلى دولة مدنية علمانية.هكذا تذوب الهوية الوطنية الجامعة في بحر النعرات والعصبيات، وتعبث الأيادي الداخلية والخارجية بمقدرات البلد ومصيره، ويغدو الوطن مثل بناية عالية من الشقق المفروشة؛ شقة لهذا البلد العربي، وشقة لذاك البلد العربي، شقة لإيران وشقة لتركيا، شقة لروسيا وشقة لأميركا، شقة لإسرائيل وشقة خاصة بـ”داعش”!

افرحوا يا “مسيحيي” لبنان، إفرحوا يا “دروزه”. هلّلوا يا “سنّة” لبنان ويا “شيعته”. ارفعوا صور زعمائكم في الساحات، ادعوا لهم في المعابد، أقيموا لهم التماثيل وعلى قارعات الطرق. اطلقوا لهم الرصاص في الهواء الطلق، افدوهم بالروح والدم إن شئتم. هيِّئوا لهم الكراسي، فإذا ألمّ بهم مرض او حانت ساعتهم، أورثوها لمن بعدهم من أبناء وأحفاد.

raouf 5

* * *

لا ينفك أهل السياسة في لبنان، من هذا التيار وذاك، يستخدمون أدوات الطائفية والعشائرية. هذا يرفع شعار “المجتمع المسيحي”، وذاك يتحدث عن حقوق “أهل السنّة”، وآخر يريد أن يعوّض عن الحرمان بما اكتسب ويطالب بعودة الإمام المغيّب. هذا يطرح “الخصوصية الدرزية”، وذاك يطرح المشروع الأرثوذكسي. الجرثومة تتفشى، تنتقل خارج الحدود، وتصيب عقول اللبنانيين ووجدانهم أينما وجدوا. معظم اللبنانيين المغتربين يعيشون في دول علمانية مدنية، لكنهم يحنّون، بين حين وآخر، إلى بيئاتهم الأولى فيؤسسون الجمعيات الطائفية التي تذكرّهم بالوطن الأم، المارونية والدرزية والأرثوذكسية، أما “المسلمون” فلا داعي أن يؤسسوا شيئاً من ذلك بعد الآن، لأن “داعش” يقوم بالمطلوب، بعدما صار في العالم أشهر من نار على علم.

لا يكتفي لبنانيو المهاجر بالجمعيات الطائفية، بل تراهم إذا ما وفد إلى ديارهم رجل دين من طائفتهم أكرموه وفتحوا له البيوت والقصور وردهات الفنادق، كأن دور العبادة في الغرب من كنائس ومساجد لا تكفي لتكون بيوت “الله”، وكأن مفاتيح السماء في يد رجال الدين الوافدين من الشرق وحدهم، وعلى أياديهم وحدهم تتم البركة ويحلو الإعتراف!

في الأناجيل يقول المسيح لحوارييه “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم”، والقرآن يقول “فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه”. أما أهل السياسة في لبنان فيقولون للمواطنين المحسوبين عليهم بحكم نظام الطوائف “اذهبوا حيثما شئتم فخراجكم لنا”! حتى في عواصم راقية مثل بروكسيل وباريس ولندن، يحل السياسي اللبناني عند أبناء طائفته زائراً فوق العادة. يهتمون به ويكرّمونه، أما الذين يتأهلون به من غير طائفته فيفعلون ذلك من باب رفع العتب. هكذا يظهر هذا السياسي “الطائفي” كما يحلو له أن يظهر، سياسياً وطنياَ، وخير ممثل للشعب. خرافه الضالة تقيم له الولائم والأعراس، وحفلات التزكية والتكريم، بينما هو في قلبه يخاطبهم: “لا تكونوا وطنيين يا أبناء جلدتي. كونوا سنّة وشيعة ودروزاً وموارنة كي لا تخسروني. ابقوا حيث أنتم، لكن لا تنسوا لبنان، لأن من لا أول له، ليس له آخر”!

raouf 2

* * *

أيّ لبنان هذا، الذي يريد السياسي اللبناني من المواطنين ألاّ ينسوه؟ أيّ لبنان هذا الذي يريد أن يصدّ عن حدوده ومياهه خطر الأعداء؟ لبنان الحرية، أم لبنان الضعيف المستعبد المنكوب بحكامه؟ لبنان النظيف، أم لبنان الذي تزكم أنوف سكانه وزائريه رائحة النفايات؟ لبنان المدني السيد الحر المستقل، أم لبنان النظام الطائفي العنصري؟ هذا “المسؤول” الذي أخرجه هذا النظام، لا يقول للمواطنين إنه سيحميهم من الصهيونية الإقليمية والصهيونية العالمية، ويؤمنهم من سطوة الترك وغلبة الفرس وصلف العرب وجشع الأجانب، بل يقول لهم: “أنا من يحميكم ويصون حقوقكم يا أبناء طائفتي، أحميكم من الطوائف الأخرى في البلد، عدوّكم القريب هذا، الذي يتربص بكم الدوائر، الجاهز لينقض عليكم في أي لحظة”!

ماذا بعد يا بلبل؟ يكتب الأديب الجريح فؤاد سليمان. ألا ترى أيها المواطن كيف يتحدث كل واحد من هؤلاء السياسيين عن الفساد المستشري، وأحد اقطابهم الكبار يقول في لقاء مع الصحافة، إن في البلد الكثير من رجال الأمن الفاسدين؟ يتحدثون كأي مواطن عادي، ويشكون كأي مواطن عادي، ليوهم كل واحد منهم الناس بأنه ليس فاسداً، وبأن الفساد من صنع غيره. يتحدثون عن فراغ دستوري في الرئاسة الأولى ليوهموا الناس بأن هذا الفراغ هو السبب وراء الحال الزرية المتفشية في البلاد، كأنهم ليسوا مسؤولين عن هذا الفراغ الدستوري، وكأن الفراغ الدستوري جاء من العدم!

نقرأ قول أحد النواب أمام مجموعة من اللبنانيين في أفريقيا: “لبنان يمتلك ثروة إنسانية هائلة تتمثل في أبنائه المغتربين الذين هم كنز الوطن”. يتحدث هذا “المسؤول” اللبناني أمام “الخراف الضالة” من شعبه، كأن الناس “مهابيل”، والناس لا يدرون أن في كلامه تحقيراً ما بعده تحقير. إسرائيل تناشد يهود العالم العودة إلى أرض الوعد الموهومة “بعد ثلاثة الآف سنة من التيه”، وهذا السياسي اللبناني يصدّر بسياسته (أو يهجّر) اللبنانيين إلى الخارج، ثم يقول لهم أنتم كنز الوطن. هل يقول سياسي في بلد مثل فرنسا، أو سياسي في دولة مثل بريطانيا، أو أي سياسي في دولة تحترم نفسها ومواطنيها بأن أبناءهم في الخارج كنز البلاد. يخجلون أن ينبسوا بنت شفة حول مسائل من هذا النوع، لأنهم يعرفون أن الحكومات التي لا تؤمّن العمل والأمن والعيش الكريم للمواطنين داخل بلادهم هي حكومات جائرة، سياستها وبال على البلاد.

raouf 1

نعم يا شعب لبنان. يا شعب الطوائف والمذاهب، أما حان لك أن تدري أن فوق عظام آبائك وأجدادك تقوم أصنام زعماء الطائفية؟ لا أدري إن كنت تدري، لكن ما أنا وأنت واثقان منه أشد الثقة، هو أن لا أحد يصنع هؤلاء الزعماء الذين يشكو الوطن منهم إلا أنت. أنت من يجلسهم على الكراسي، وأنت من يجلّهم ويفديهم، وأنت من ينفق أغلى ما يملك ليحميهم ويبقيهم في الحكم. لست أدري ما إذا كنت تعرف السبب، لكن أترك العلماء أن يبوحوا لك به على كلّ حال: أنت ضحية من ضحايا مرض يسمّيه علماء النفس “مرض عبادة الشخصية”. قد لا يفوتك أن تعرف أيها الشعب أن سبب هذا المرض هو الخوف الذي لا يعرف صاحبه معنى الشجاعة. الشجاعة ليست في حمل السلاح وإطلاق النار وإرهاب الناس ونسج صور للزعماء، وأنت من أكثر الشعوب حباً بهذه المظاهر. الشجاعة هي النفس الحرة المكتملة بذاتها، التي لا تعبد الآخر، وتهلل للآخر، وتستقوي بالآخر مهما علا شأنه. هل تعرف أن الناس يتدينون لأنهم يخشون الموت وما بعد الموت؟ هذا هو التدين أو الإيمان الناقص، وسياسيو لبنان منذ ذلك اليوم الواهم الذي سمّوه “عيد الاستقلال” وهم يؤسسون نظاماً طائفياً عنصرياً خالصاً وفق ذاتهم ومزاجهم ومصالحهم، نظاماً لا يمكن أن يكون المواطنون فيه إلا تابعين خائفين!

ليس في العالم كله مجلس نواب مثل مجلس النواب اللبناني. النواب فيه ممثلو طوائف، لا ممثلو شعب أو أمة. الفرنسيون “المستعمرون” (ليتهم بقوا) أوجدوا بلداً كان اسمه سويسرا الشرق، فصار على يد إداراته المحلية المتعاقبة مكباً للنفايات. عاصمته كانت إحدى المدن الجواهر على المتوسط، فأصبحت بفعل لوردات الحروب وحيتان المال مدينة من الحجارة، لا فراشة فيها ولا عصفور.

نعم أيها الشعب اللبناني “العظيم”! قبل مئة سنة عاش في نيويورك شاعر من لبنان، فنان حالم معذب اسمه جبران خليل جبران. في أحد الأيام صرخ في وجهنا وكتب: “لكم لبناكم ولي لبناني. لكم لبنانكم بكل ما فيه من الأغراض والمنازع، ولي لبناني بما فيه من الأحلام والأماني. لبنانكم عقدة سياسية تحلّها الأيام، مشكلة دولية تتقاذفها الليالي، حكومات ذات رؤوس لا عداد لها، أما لبناني فجبل رهيب وديع جالس بين البحر والسهول، جلوس شاعر بين الأبدية والأبدية. لبنانكم مربعات شطرنج بين رئيس دين وقائد جيش، وفود ولجان، أما لبناني فمجالس حول المواقد في ليال تغمرها هيبة العواصف وطهر الثلوج”.

raouf 3

* * *

ما الذي تغيّر في بلادك يا شعب لبنان؟ مات جبران في العام 1931، في حجرة صغيرة في “مستشفى القديس فنسنت” في نيويورك، ولا أحد حوله غير شقيقته مريانا، وميخائيل نعيمة، ومعجبة اسمها برباره يونغ، لا جماهير ولا طنين! عندما دخل عليه أحد رجال الدين ليعرّفه، سأله قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ما إذا كان كاثوليكياً، فأجاب جبران بالنفي. لم يكن صاحب “النبي” ملحداً ولم يكن متديناً. كان مؤمناً، وكان “مسيحه” غير “مسيح” ذلك المطران. لكن ما عساه يقول جبران اليوم لو أن قوانين الطبيعة أعفته وبقي حياً؟ ما عساه يقول للناس في بلاده ساعة يرى أي صنف من الساسة ينتخبون، وأي رجال دين يتبعون، وأي زعماء يفدون بالدم والروح؟ أقطع بأنه سوف يخاطبهم اليوم كما كان يخاطبهم في الأمس: “صراعكم بين رجل جاء من الغرب ورجل جاء من الجنوب، وأنتم لستم على شيء. لو كنتم تعلمون أنكم لستم على شيء لتحول اشمئزازي منكم إلى شكل من العطف والحنان… لكنكم لا تعلمون”.

*****

(*) جريدة النهار 20 أبريل  2016

اترك رد