حكمت حنَين
(أديب- لبنان)
في شهر كانون الأوّل من العام الماضي 2015 ختم إيلي مارون خليل إصداراته بكتاب، هو مجموعة مقالات، عنونه “غبيٌّ… يحلُم!” (نصوص) بحجم وسط، عدد صفحاته 182، ما عدا ثبت بمؤلّفاته وثبت المحتوى.
يزيّن الغلاف الأوّل رسم لوجه قد يوحي الغباوة للشّاعر والرّسّام جوزيف أبي ضاهر، وعلى الغلاف الأخير محاولة من المؤلِّف إيلي مارون خليل لتحديد الأدب.
يستهلّ المؤلِّف كتابه، في الصّفحة السّابعة، بإهداء “إلى زملائي في الغباوة” و”الحُلم”. ثمّ يليه إشارة إلى أنّه أفرج عن هذه المقالات لئلاّ تختنق بآلامه التي فاضت، فتسلّى بتدوينها لتستمرّ الحياة عبر نشرها (ص 9).
الكتاب عبارة عن أربعين مقالة وزّعها إيلي في قسمين: القسم الأوّل يضمّ خمس عشر مقالة تحت عنوان “غبيّ” مرفق بعبارة “أغبيٌّ أنا، أم صبور!؟” وهذه العبارة تتكرّر في ختام كلّ مقالة من مقالات هذا القسم.
أمّا القسم الثّاني فيضمّ خمسًا وعشرين مقالة تحت عنوان “يحلم” مرفق بعبارة “أحلُمْ، يا رجل!”، وهي عبارة تتكرّر في بداية كلّ مقالة وبنهايتها من مقالات هذا القسم. والعبارة “أُحلُمْ، يا رجل!” من اقتراح صديق المؤلِّف الأستاذ جورج طرابلسي الذي اقترح ضمّ هذه المقالات في كتاب (ص 81).
قبل أن تشرع في قراءة الكتاب “غبيٌّ… يحلُم!” يستوقفك العنوان بما فيه من علامة حذف بعد كلمة “غبيٌّ” وعلامة تعجّب بعد كلمة “يحلُم”. علامة الحذف تستدعي سؤالاً: ما به هذا الغبيّ؟ وعلامة التعجّب تجعلك تتساءل متعجبًا: هل يحلم الغبيّ؟ وبم؟ وحتّى تلقى إجابات عن هذه الأسئلة، لا بدّ لك من أن تبحر في قراءة مقالات الكتاب.
يستهلّ إيلي القسم الأول بمقالة عامّة، هي بمثابة فاتحة للكتاب، عنوانها “بداية”. فيها تساؤلات كثيرة ازدادت مع تقدّم العمر حول الأوضاع اللبنانيّة السّيّئة الّتي لم تتغيّر أبدًا، بل ازدادت تفاقمًا مع الزّمن، على الرّغم من تبدّل الوجوه المسؤولة، والحكومات المتعاقبة. كلّ هذه التّساؤلات، مع سكوت اللنبانيّين الأصيلين عن الأوضاع المتردّية، وقبولهم بها، أدّت إلى العبارة الّتي تختم كلّ مقالة: “أغبيٌّ أنا، أم صبور!؟”، وبالتّالي إلى عنوان القسم الأوّل من الكتاب: “غبيٌّ”، “أغبيٌّ أنا، أم صبور!؟”. وهي تختزل مأساة اللبنانيّين: هل هم أغبياء لا يدركون ماذا يجري حولهم، أو أنّهم يدركون ولكنّهم صبورون؟
في الحالين، الوضع محبط، فإن كان اللبنانيّون أغبياء فتلك مصيبة، وإن كانوا مدركين ولكنّهم يغضّون الطّرْف علّ الصّبر يغيّر الأمور، فتلك مصيبة أكبر.
ترى، هل في هذا الكشف الفاضح لأحوال اللبنانيّين دعوة صامتة إلى الثّورة، على الأقلّ، ثورة عبر الكلمة، تغيّر النّفسيّة اللبنانيّة، وبالتّالي الأوضاع؟
في المقالة الثّانية: “تساؤلات غبيّة” (ص 19) يبدأ إيلي بالتّفصيل، فيرى أنّ اللبنانيّ الأصيل، وإيلي يمثّله، يتعمّد أن يتعامى عن المجاهرة بما يعرف حول مسائل كثيرة تزعجه كلّ لحظة، ويفضّل ألاّ يبوح بها، بل يستمرّ في طرح تساؤلاته بينه وبين ذاته. وهذا لا يحلّ المشاكل ولا يساعد حتّى في حلّها، أو في محاولة البحث عن حلول لها. من هذه المشاكل الأزمات: الكهرباء – الميزانيّة – المحروقات – الرّغيف – العمّال – المعلّمون – الأخلاق – المناهج التّربويّة التّعليميّة – الشّهادة اللبنانيّة: المتوسّطة والثّانويّة والجامعيّة – البطالة – الهجرة – وغيرها كثير.
أزمات كثيرة ومتلاحقة منذ أنشئ لبنان على “زغل” (ص 21)، ولذلك فالأمور لا تصطلح لأنّها، منذ تأسيسها، نشأت معها بذور الفساد، فاستشرت مع الزّمن وتفاقمت وصارت حلولها أكثر تعقيدًا، لا بل مستحيلة، لذلك الشّكاوى، الّتي يفكّر فيها اللبنانيّ الأصيل، دائمة تأكل معه في صحنه اليوميّ، وتراوده في أحلامه.
سكوت هذا اللبنانيّ الأصيل عن كلّ ما سبق، يجعل إيلي مارون خليل يتساءل: هل هذا اللبنانيّ الأصيل غبيٌّ لا يدرك ما يقضّ مضجعه، أو صبور على هذه الأزمات، يتحمّلها ولا يواجهها لا بالكلام العلنيّ ولا بالفعل المغيّر؟
والتّساؤلات تطول الصّحف اليوميّة الّتي تنشر “حقائق”، هي في الواقع عرض لوجهة نظر الجهة الخارجيّة الّتي تقف وراء كلّ صحيفة. وهذا التّباين بين وجهات النّظر المختلفة يضيّع “المواطن اللبنانيّ العاديّ المسالم المسكين القانع الصّالح السّاكت…” (ص 23) عن إدراك الحقيقة الحقيقيّة.
وتنسحب التّساؤلات عينها على نشرات الأخبار الّتي تبثّها شاشات قنوات التّلفزة، والّتي يفسّرها المشرفون عليها من منظورهم الخاصّ. فإذا بها مختلفة، وأحيانًا متضاربة، أضف التّفسيرات الّتي لا تحصى والّتي يجاهر بها كلّ لبنانيّ حسب مزاجه. وهنا الطّامة الكبرى فالحقيقة ضائعة، والنّاس الأصيلون البسطاء “الأغبياء” ضائعون.
وتصيب سهام إيلي اللبنانيّين أدعياء “المعرفة التّامة اللاّنهائيّة” (ص 29)، ولكنّها معرفة جوفاء لأنّ أصحابها لا يفعلون شيئًا، و”لن يفعلوا شيئًا!” (ص 30).
ولا يختلف الأمر إذا ما نظر إيلي إلى انتماء اللبنانيّ السّياسيّ، فهو ضائع حائر في ولائه الدّاخليّ والخارجيّ. فالانقسامات تعمّ الأحزاب والتيّارات والطّوائف المنقسمة كلّها على ذاتها.
ومقالة “المعرفة وتراكم الغباوة!” (ص 35) تعود بنا بالذاكرة، بعد قراءتها، إلى كتاب إيلي “أنا أمّيّ”(2003)، حيث يرى، في هذه المقالة وذلك الكتاب، أنّ اللبنانيّين الأصيلين أمّيّون “فالأمّيّة ليست نقصًا في المعرفة، أبدًا ليست نقصًا في المعرفة؛ إنّها نقص في الفهم والاستنتاج والأخلاق” (ص 35).
وما نفع المعرفة طالما أنّ رذائل اللبنانيّ كانت، ولا تزال، ذاتها، وهي لا تُجدي نفعًا إن لم تسهم في تطوّر الإنسان حضاريًّا. يقول إيلي كاشفًا فاضحًا، وأكاد أقول بائسًا: “أمّيّون، نحن، وإن كان منّا الأطبّاء والمهندسون…” (ص 36).
وإذا ما وصلت إلى مقالة “الثّقافة والسّفسطة” (ص 43) واجهتك عاصفة هوجاء تجرف في طريقها السّفسطائيّين ومدّعي المعرفة والعلمانيّين ورجال الدّين والسّياسيّين والعسكريّين، فكلّهم “جهلة، قليلو الفطنة!” (ص 45).
وتدخل رياح عاصفته المنازل فتفضح التّربية المنزليّة المفقودة لأنّ الأمّهات استقلن من مسؤوليّاتهنّ التّربويّة، وكلّفن بها الخادمات الغريبات. ويردّ إيلي أسباب هذا الفساد إلى التّقليد الأعمى، وإلى حبّ المال الّذي طغى على حبّ الله.
وعلى الرّغم من هذه السَّوداويّة الّتي تلفّ الأوضاع جميعها، تطلّ بارقة أمل معقودة على المدارس في التّقويم والإصلاح، لكنّ إيلي سرعان ما يكشح هذه البارقة ليطرح استفهامًا كبيرًا يوحي بأن المدرسة تخلّت، أيضًا، عن هذه المَهَمّة.
وفي مقالة “الغباوة والتّربية” (ص 47) يحمّل إيلي مسؤوليّة فشل المدرسة في مهمّتها التّربويّة للتّلاميذ الّذين يقصّرون في واجباتهم الدّراسيّة، وللمدرسة الّتي تجهل دورها في العمليّة التّربوية، ويشترك في هذا الجهل الإدارة والأساتذة. فشباب اليوم “إرثنا للأجيال الآتية” (ص 49)، “مهمل، غير ناضج، لا يتحمّل مسؤوليّة حقيقيّة” (ص 49)، والسّبب أنّه جيل “مهمل، غير متابَع من أحد” (ص 49).
ويعترف إيلي، هنا، بأنّه “زدتها سوداويّة!؟” (ص 50)، بمعنى أنّه لا يزال الأمل معقودًا على بعض “الأغبياء” الّذين يمثّلهم إيلي وأمثاله، والّذين مذلا يزالون يراقبون ويسجّلون مواقفهم، ولو بصمت، علّها تحرّك مياه المستنقع الرّاكدة، وتحوّلها، يومًا ما، إلى مياه نهر جارف تطيح الفساد والفاسدين والمفسدين.
أمّا مقالة “الحبّ والغباوة” (ص 51) فتتناول الحبّ وصعوبة تحديده لأنّه حيّ متحرّك، يجمع المتناقضات فهو “عاطفة نبيلة تبني… وطمّاعة تهدّم… ورقيقة، عذبة… وعاصفة… وشفيفة راقية… وشهوة حرّى محرقة… ولطيفة نظيفة… وشرسة، غرائزيّة…” (ص ص 51 و52 و53). والمشكلة أنّ كلاًّ يفهم الحبّ على هواه.
ويشمل إيلي، في جولاته، طبيعة لبنان الجميلة المعتدلة المناخ الّتي تشكّل سببًا لمطامع الآخرين به، ويشكو من أن ثقافة اللبنانيّين متنوّعة ولكنّها تبعيّة، وهذا يجرّ إلى تمزّق النّسيج الّلبنانيّ، ويؤدّي إلى الصّراع الدّينيّ بين الطَّوائف. ويطول هذا التَّمَزُّق في السّياسة، فكلّ يعتبر نفسه مُحِقًّا في رأيه، متستّرًا بالدّيمقراطيّة، وهي دليل عافية إلّا في لبنان. ويسوؤه أنّ هذا الخلاف السّياسيّ وصل إلى الرّياضة.
وفي المقالة الثّانية من مجموع ثلاث مقالات تحت عنوان “السّياسة بين المسؤوليّة والالتزام” ينطلق إيلي من التّعريف القاموسيّ للسّياسة بأنّها “استصلاحُ الخَلقِ بإرشادهم إلى الطّريق المنجّي في الآجل أو العاجل” (ص 67) ليبيّن الهوّة الشّاسعة العميقة القائمة بين هذا المفهوم للسّياسة والواقع السّياسيّ الّلبنانيّ، وهو نتيجة حتميّة لسوء تصرّف السّياسيّين، وجهلهم لمفهوم السّياسة وما يقتضيه من التزام. فالواقع اللبنانيّ يشهد “مجازر” اجتماعيّة، اقتصاديّة، أخلاقيّة، تربويّة. كما يعاني من: خطف – قطع طرق وإحراق دواليب – فقر وجوع – إقفال محالّ ومؤسَّسات – بطالة وتشرّد وسلب وسرقات – هبوط في مستوى التّربية والتّعليم في البيوت والمؤسّسات التّربويّة. وكلّ هذا سببه أنّ القيم اندثرت، وأنّ الّلبنانيّ أمّيّ جاهل غير مثقّف ولو حاز على أعلى الشّهادات، وأنّ السّياسيّين أمّيّو الأخلاق والقيم (ص 75).
ويختم إيلي هذا القسم الأوّل بمقالة عنوانها: “لِمَ أكتب؟” (ص 75). طالما أنّ كتابته بلا جدوى، فسرعان ما يأتينا الجواب بأنّه لا يستطيع التَّوقّف، والكتابة تقتل الوقت فلا يملّ المرء، وتنقله من الحزن التّامّ إلى الفرح.
أمّا إذا انتقلنا إلى القسم الثّاني: “يحلُم!” “أحلُمْ، يا رجل!”، فإنّنا واجدون روحيّة مختلفة تمامًا عن الرّوحيّة الّتي سيطرت على القسم الأوّل بكامله.
القسم الأوّل عرض تفصيليّ لكلّ بشاعات الإنسان اللبنانيّ التي يصبر عليها اللبنانيّ الأصيل، ولذلك فهو ينسب إلى نفسه الغباوة. أمّا القسم الثّاني فينقلك إلى عالم الأحلام حيث يفلسف إيلي مارون خليل كثيرًا من المفاهيم، علّها، في عالم الأحلام، تخلّص هذا اللبنانيّ المسكين ممّا أوقعه فيه المدّعون الممسكون بزمام أموره، القابضون على خناقه حتّى ليكادوا يقطعون على أنفاسه الهواء.
المتنفّس الأوّل هو الكلمة الّتي تجعل حياة “الغبيّ” إيلي وأمثاله من “الأغبياء” ممكنة… جميلة… مفيدة… (ص 83)، ولولاها لصارت الحياة صعبة، إن لم نقل مستحيلة.
ومن الكلمة ينهد إيلي إلى مثلّث جديد للقيم، في منظوره الخاصّ، هو الحبّ والحلم والسّعادة. من أيّهما بدأت ستصل حتمًا إلى الآخر. هي ثلاثة أقانيم مترابطة، لا فكاك بينها، بها ينتصر “الأغبياء” ويتخطّون مشاكلهم.
ويغوص إيلي، من ثمّ، على تفصيل الحبّ فيرى فيه منحيين: الحبّ المادّيّ الدّنيويّ والروحيّ المثاليّ، ولا ينسى أنّ الحبّ يقوم على ثنائيّ متفاهم، فإمّا الشّريك فيه لمرحلة ما، وإمّا للحياة. ويخلص إيلي إلى مقولة إيمانيّة تكاد تكون حكمة، لا بل فلسفة، لو اتّبعها العالم لخلص من كلّ الشّرور: “أؤمن بأنّ الحبّ خلاص العالم” (ص 105). وهنا أتذكّر قولاً للقدّيس أوغسطينوس، طالما كان إيلي يردّده كعلاج لكلّ المشاكل والشّرور: “أحبب وافعل ما تشاء”. فالحبّ الحقيقيّ يمنعك من ارتكاب أيّ فعل سلبيّ. أمّا الحلم فعلاج، كما يرى إيلي، لكلّ الأمراض النّفسيّة، وهو خلاص من كلّ المعوّقات. والحلم يجعلك، أنت “الغبيّ”، صاحب إرادة فولاذيّة، ويزيد طموحك.
ويفصل إيلي الحلم عن الوهم، فيحدّد للحلم شروطًا كي لا يكون وهمًا (ص 111). فإذا أحببت وحلمت، أو حلمت وأحببت، فمصيرك السّعادة حتمًا.
في الخلاصة، وإن اختلفت روحيّة القسمَين، فإنّ أسلوب إيلي المعروف المميّز، يوحّد بينهما. وإن خرجتَ، عند نهاية القسم الأوّل، برؤية تشاؤميّة محبطة، فإنّ إيلي يُفرِج قلبك بالتّفاؤل المعقود على مثلّثه: الحبّ والحلم والسّعادة. ثمّ إنّه، في أكثر من موضع، ينبّه بإشارة لمّاحة إلى أنّه لا يعمّم الفساد تعميمًا مطلقًا.
تبقى إشارة أخيرة شكليّة حول هذه المقالات الأربعين وهي أنّها مؤرّخة بدقّة حتّى لتكاد تحسب إيلي صحافيًّا ملتزمًا بعقد مع صحيفة ما يزوّدها، كلّ يوم تقريبًا، بمقال.
أيّها الصّديق المميّز سلم عقلك وقلمك، وسلمت يداك، وزادك الله غزارة عطاء، علّ الكلمة تفعل فعلها.
(8- 4- 2016)