مُورِيس وَدِيع النَجَّار
(أديب وشاعر- لبنان)
وَصَلَ النَّعِيُّ إِلَيَّ: آنَ أَوانُها! رَحَلَت، وَأَغلَقَ دَفَّتَيهِ زَمانُها
تَبقَى لَنا الذِّكرَى، وَيَبقَى شاخِصًا نَحوَ الغِيابِ، بِلَهفَةٍ، دِيوانُها!
منذ أيَّامٍ رَحلت عنَّا، في سَفرتها الأبديَّة، الشَّاعرة الرَّقيقة المبدعة، الصَّديقة إكرام قدَيح مَكِّي…
مُرٌّ طعمُ الغياب، وشاقٌّ أن تفقد وجهًا أليفًا، باسمًا، فيه براءة الأطفال، ومحبَّةٌ خالصةٌ لا تعرف الكَدَرَ، ولا تقرأ في الورود إلَّا سِفْرَ العُطور!
منذ عامٍ وأشهرٍ اتَّصلت بي هاتفيًّا، وكان صوتها ضعيفًا، مُلَجلَجًا، وقالت: صديقي، بين يديَّ قصائدُ سأنشرها ديوانًا، وأرغبُ إليك أن تكتب له مُقدِّمة. فأجبتُها، على عادتي الدَّائمة معها: حاضرٌ سيِّدتي.
وهاجمها الوَهَنُ، والمَرَضُ، فلزِمَت المنزل، وكنَّا نتهاتف من وقتٍ لآخر، فتُذَكِّرُني بالدِّيوان العَتِيد.
وقَصَّرتُ في زيارتها – ألا لَيتَني لم أفعل – ثُمَّ تَرَكَت هي بيروتَ إلى بلدتها النَّبطيَّة، وهناك راحت مُعاناتُها تكبُرُ، والمرضُ يستفحلُ ويستَشرِسُ، وهي كالعُصافَةِ في الرِّيح العَتِيَّة، بَيْدَ أنَّها كانت مُفعَمَةً بالحياة، تُجابِهُ الدَّاء، تُغالِبُ القَدَرَ، وتتحدَّى عُمرَها المَدِيد. على أنَّها لم تَنسَ ذِكرَ ديوانِها المُنتَظِرِ، لكأنَّهُ، في بالِها، عُنوانُ الانتِصارِ على ما لا دَفْعَ لِسِنانِه.
وقَصَفَها الدَّاءُ القاسِي، وبقيَ ديوانُها مُسَمَّرًا، شاخصًا إليها تغيبُ في الأفق النَّائي!
ولمَّا كان في حَوزَتي قليلٌ قليلٌ من قصائدها الجديدة، أرسَلَتها إليَّ في أوقاتٍ مُتفاوِتَةٍ، ولمَّا كنتُ على خِبرةٍ وافيةٍ بِنَمَطِها الكتابِيِّ، ولكي نَرُدَّ للقَدَرِ صَفعَةً صغيرةً أمام سُيُولِ هَجماتِه، كَتَبتُ الآتي، لكأنَّ الدِّيوان إلى صُدُورٍ، وأنا على يَقِينٍ بأنَّها سَتَسعَدُ به، وتَبتَسِمُ في وجههِ، مِن هناك…
إِكرام… رَحِمَكِ الله!
شَاعِرَةٌ شَاعِرَةٌ خَبَرَتِ الدَّمَعَاتِ الثَّلاث!
(الاستِشهَادَاتُ الوَارِدَةُ، فِي هَذِهِ المُقَدِّمَةِ، عَلَى لِسَانِ الشَّاعِرَةِ وَرَدَت فِي مُقَابَلَةٍ لَهَا فِي مَجَلَّةِ “الشِّرَاعِ” مَعَ الصِّحَافِيِّ الأَدِيبِ لامِع الحُرّ، بَتَارِيْخِ 20/9/2004)
إكرَام قدَيح مَكِّي!
مُبدِعَةٌ تَحيَا فِي نُعمَى الشِّعرِ، فَتُقَدِّسُ الكَلِمَةَ، تَرفَعُ لَهَا النُّذُورَ، وَتَتَعَبَّدُ فِي مِحرَابِهَا.
أَغَذَّت فِي السَّيرِ طَوِيلًا، وَخَبَرَتِ الأَيَّامَ، شَيئًا مِن حُلوِهَا، وَالكَثِيرَ مِن مُرِّهَا، وَمَا زَالَت رُوحُهَا فِي غَضَاضَةِ الصِّبَا، وَمَا فَتِئَت يَرَاعَتُهَا تَلِدُ القَوَافِيَ النَّدِيَّةَ، وَالمَعَانِيَ البِكر.
هَذِهِ الَّتِي نَتَمَزَّزُ رَحِيقَهَا، في هذه القصائدِ، هي شَاعِرَةٌ خَبَرَتِ الدَّمَعَاتِ الثَّلاث:
أُولاهُمُ دَمعَةُ الغُربَةِ المُرَّةِ عن الوطنِ والصَّحبِ والأَحِبَّة وَالمَطَارِحِ الحَمِيمَةِ، رَحِيلًا إِلَى الصُّقعِ النَّائِي مِنَ الأَرضِ، إِفرِيقِيا الحَرِّ والبَرَارِي العَذرَاء، يَومَ الصِّبا في الغَضَارَةِ، والأَمانِي في تَفَتُّحِ الوُرُود…
وثَانِيَتُهُم دَمعَةُ العَواطِفِ المَشبُوبَةِ، فِيها مَجَامِرُ الوَجدِ، حِينَ التَقَت فَارِسَ أَحلامِها، وشَرِيكَها لِقَابِلِ العُمرِ، وكانَ شاعِرًا تَلَقَّفَ أحاسِيسَها بالحِضنِ الدَّفِيءِ، فَبَادَلَته، في السَّوَانِحِ العَطِرَةِ، جَوًى مَشبُوبًا، تَسَرَّبَ إلى رِقَاعِها شِعرًا رَقِيقًا كَخَمْشِ رَضِيعٍ وَجهَ أُمِّهِ، وَخَيَالاتٍ عَفِيفَةً شَفِيفَةً كَشُعَاعَاتِ ضِيَاءٍ فِي فَجرٍ نَدِيٍّ وَرَوَابٍ مُخضَلَّةِ الأَقَاح…
أَمَّا ثَالِثَةُ الأَثَافِي، فكانَت آنَ وَفَدَت قَاصِمَةُ الظَّهرِ، فَقَصَفَت مِن الخَمِيلَة أَندَى زَهَراتِها، ومِن مَغنَاهَا الهَانِئِ فَرحَةَ العُمرِ، ابنَتَهَا الفَنَّانَةَ المُبدِعَةَ المُتَأَلِّقَةَ، وَهِيَ فِي فَورَةِ العَبيِرِ وَالعَطَاءِ، فَرَاحَت تَسكُبُ الشِّعرَ جَمْرًا لا يَخبُو، وَدَمعًا مِن عَينَينِ أَذبَلَهُما الأَسَى. وَلَقَد بَاتَت إِحسَاسًا مُتَوَقِّدًا أَبَدًا، وَعَاطِفَةً مُتَّقِدَةً مَدَى الثَّوَانِي، وَتَوَحُّدًا مُضنِيًا، وَأَصبَحَت وَالشِّعرَ وَاحِدًا، فَصَحَّ فِيهَا يَقِينُهَا أَنَّ” الشِّعرَ دَفقَةُ إِحسَاسٍ وَعَاطِفَةٌ، وَتَوَحُّدٌ فِي البَالِ يَمتَزِجُ بِنَكهَةِ السُّؤَال”. فَكَانَ حُزْنُهَا شِعرًا مُتَقَطِّرًا مِن لَهَبِ الفُؤادِ الوَجِيعِ، وَجَيَشَانِ الضُّلُوعِ الحَرَّى، وَلَوعَةِ الخَاطِرِ الكَسِيفِ، وَفُقدَانِ أَحِبَّةٍ تَرَكُوا فِي الشَّغَافِ ذِكرَيَاتٍ لا تُمحَى. وَهَا هِيَ جِرَاحُهَا، فِي الأَسطُرِ البَاكِيَةِ، غِلالَةُ أَسًى وَلا مَسحَةُ الأَسَى فِي العُيُونِ العَبَارَى…
وَلَكَم تَكَلَّمَت أَمَامِي عَن “لِينَا”، وَكُنتُ أَلمَحُ خَلفَ أَهدَابِهَا دُمُوعًا تَجَمَّدَت، وَلِحَاظًا تَائِهَةً فِي المَدَى، وَكُنتُ أَسمَعُ صَدًى لِكَلِمَاتِهَا، مَا قَالَهُ يَومًا الشَّاعِرُ مَحمُود دَروِيش:
“كُنتِ أَنتِ الرِّيَاحَ
وَكُنتِ الجَنَاحَ
وَفَتَّشتُ عَنكِ السَّمَاءَ البَعِيدَة”.
فَشَتَّانَ دَمعَةُ الفُؤادِ الوَجِيعِ والضُّلُوعِ الحَرَّى والخَاطِرِ الباكِي، ودَمعَةُ الهَوى تَتَفَتَّحُ في صفائها رُؤًى ومُنًى وبَوحًا وشعرًا ونَغَمات…
كَتَبَت، هَذِه الشَّاعِرَةُ، لِمُنَاسَبَاتٍ، وَلِنَاسٍ، وَاستَلَّت مِن مَشَاهِدِ طَرِيقِها مَوَاضِيعَ تَروِي بِها غُلَّةَ قَلَمٍ صَادٍ لِلشِّعرِ، وَيَبقَى الأَصفَى وَالأَرَقَّ مَا قَالَتهُ أَحزَانُها وَجَوَارِحُها المُتَمَزِّقَة. وَفِي البَالِ قَولَةُ نِزَار قَبَّانِي: “أَجمَلُ الوُرُودِ، مَا يَنبُتُ فِي حَدِيقَةِ الأَحزَان..”.
وَفِي مُطلَقِ أَحوَالِهَا، مَا تَرَهَّلَ قَلَمُهَا، وَلا خَبَا مِدَادُهَا، وَلا بَهِتَ الَّلونُ فِي طِرسِهَا الوَضِيءِ؛ وَمَا كَلَّت يَومًا عَن نَفحِ عُشَّاقِ الجَمَالِ بِالشِّعرِ المُصَفَّى، وَالابتِكَارِ العَجَب…
كَتَبَت بِطَبْعِيَّةِ الشَّاعِرَةِ المُلهَمَةِ، فَمَا كَانَ فِي هُمُومِهَا أَن تُزَوِّقَ الكَلِمِ، أَو تُدَوِّرَهُ، أَو أَن تُقَدِّمَ وَتُؤَخِّرَ، أَو أَن تُفَتِّشَ فِي بُطُونِ الكُتُبِ عَن تَعَابِيرَ غَرِيبَةٍ نَادِرَةٍ، حَتَّى تُدهِشَ الأَعيُنَ أَمَامَ سَبكِهَا، وَبَرَاعَتِهَا، وَطُولِ بَاعِهَا. وَلَكِنَّهَا أَدرَكَت أَنَّ الشِّعرَ أَقرَبُهُ إِلَى القَلبِ أَدنَاهُ إِلَى الأَفهَامِ حِينَ الحُلَّةُ قَشِيبَةٌ، وَالمَتنُ قَوِيمٌ سَلِيم.
وَلَكَم رَفَدَتهَا الغُربَةُ بِالمَادَّةِ الشِّعرِيَّةِ، أَوَانَ تُغمِضُ الأَجفَانَ عَلَى ذِكرَيَاتِ أَرضِهَا الأُمِّ وَأَهلِهَا الطَّيِّبِينَ وَالأَحِبَّةِ السَّاكِنِينَ فِي البَالِ جِمَارَ وَجْدٍ وَجَوًى. فَتُسَطِّرُ وَالقَلبُ يَقُول: “إِنَّهُ الاغتِرَابُ المَوجِعُ.. يَلسَعُنَا الحَنِينُ وَيُعَرِّي أَنفُسَنَا مِن مَبَاهِجِ الحَيَاةِ فِي غُربَتِنَا؛ فَمَعَ الحَنِينِ وَالشَّوقِ يَأتِي الحُلْمُ، فَيَتَعَطَّشُ البَوْحُ، فَتَسكُبُ اليَرَاعَةُ مَشَاعِرَ مُلتَهِبَةً، تَعتَصِرُ رَحِيقَ الجَمَالِ، وَتُحَوِّلُهَا إِلَى مَنَابِعِ فَرَحٍ يُلقِي الضَّوءَ، وَيَمُدُّ الجَنَاح”.
لَهَا عَلَى الوَرَقِ حَطَّةُ بَنَانٍ، فِيهَا رِعشَةٌ وَخَدَرٌ وَنَشوَةٌ، فَاللَّفظُ مِن خَالِصِ الضَّادِ، وَالكَلِمُ مِن رَحِيقِ الفُؤَادِ، وَالخَيَالُ جَنَاحٌ هَفَّافٌ، وَالمَعَانِي عِرَاضٌ عِمَاقٌ، وَالمُوسِيْقَى رَنِيمُ جَدَاوِلَ، وَالبَيَانُ مِن تَرَفِ أَمِيرَةٍ فِي البَيَانِ، يَنضَحُ صُوَرًا عُجَابًا، كَمَا يَتَفَطَّرُ الأُملُودُ عَن بُرعُمٍ نَدِيٍّ، وَتَلهَجُ بِالبَدعِ فَيَخرُجُ مِن أَنَامِلِهَا طَيِّعًا، بَهِيًّا، مُنسَابًا فِي الصَّحِيفَةِ كَبَخُورٍ فِي حِنِيِّ مَعبَدٍ، وَنَسِيمٍ فِي خَلاءِ أَرزٍ وَشَربِينٍ وَشِيْح.
وهي تُقَدِّسُ الكَلِمَةَ، فَلا تَرتَضِي لَهَا المَنازِلَ الوَضِيعَةَ، وَلا تُرسِلُهَا إِلَى المَحَافِلِ إِلَّا رَافِلَةً بِالدِّيبَاجِ، وَالذَّهَبِ العِقْيَانِ، فِي بَهَاءِ الأَمِيرَات.
نَعَم.. لَقَد تَوَفَّرَت فِيهَا شُرُوطُ الشَّاعِرَةِ المُبدِعَةِ، فَصَحَّ فِيهَا قَولُ الشَّاعِرِ اليَاس أَبِي شَبَكَة: “ألشَّاعِرُ العَبقَرِيُّ هُوَ مَن يُجَسِّمُ فِي قَلَمِهِ الثَّالُوثَ الأَكمَلَ: المُوسِيقَى وَالصُّورَةَ وَالفِكرَة”.
غَمَسَت شَاعِرَتُنَا يَرَاعَتَهَا فِي دَوَاةِ الحَدَاثَةِ، فَمَا تَوَانَت فِي الحَلبَةِ، وَطَرَقَتِ الشِّعرَ العَمُودِيَّ مُتَنَاغِمَةً مَعَ مِيزَانِ الخَلِيلِ، فَبَرَزَت فِيهِ مَتِينَةَ السَّبكِ، شَفِيفَةَ الرُّؤَى، جَلِيَّةَ الغَرَضِ، وَسَارَت عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ مَعَ أَربَابِهِ وَأَسَاطِينِه. وَأَظُنُّهَا وَجَدَت نَفسَهَا فِيهِ أَلصَقَ وَأَكثَرَ ارتِيَاحًا.
وَعَلَى تَنَوُّعِ كِتَابَتِهَا، فَإِنَّهَا لَم تَقرُب يَومًا مِن هَذَا المُنهَمِرِ عَلَينَا، فِي عَصرِنَا المَهزُولِ شِعرِيًّا، وَالَّذِي نَفَّرَ المَلَأَ الثَّقِيفَ مِن شِعرٍ قَلَّ فِيهِ الشِّعرُ وَجَفَّ الشُّعُور. أَوَلَيسَت هِيَ القَائِلَةُ: “يَبقَى الشِّعرُ المَوزُونُ المُقَفَّى هُوَ المَلاذَ الحَقِيقِيَّ لِلشِّعرِ، لِأَنَّ قَافِيَتَهُ وَمُوسِيقَاهُ وَسِيلَةٌ أَسَاسِيَّةٌ لِحِفظِهِ وَالتَّغَنِّي بِهِ، وَبِالتَّالِي لِخُلُودِهِ إِذَا استَحَقَّ الخُلُود”.
وَلَكِنَّهَا لا تُنكِرُ الإِبدَاعَ، أَيًّا تَكُن صُورَتُهُ، وَلا تُغمِضُ الطَّرفَ عَن إِشرَاقَاتِ الآخَرِينَ، بَل كَانَت تَسكَرُ بِالجَمَالِ أَنَّى نَمَا وَلاحَ، فَتَقُولُ: “ألشِّعرُ يَدُلُّ عَلَى نَفسِهِ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ التَّنَازُعِ عَلَى التَّسمِيَاتِ، هَذِهِ الَّتِي أَرهَقَتِ الشِّعر”.
فِي نَجِيَّتِنَا زَهْوُ الشَّاعِرَةِ الوَاثِقَةِ مِن قَلَمِهَا، المُرتَاحَةِ إِلَى مَاضٍ، فِي الشِّعرِ، فِيهِ الكَرُّ، وَقَلَّمَا كَانَ فِيهِ الفَرُّ. كَلَّلَهُ الغَارُ الَّذِي إِذَا أَدرَكَهُ بَعضُ ذُبُولٍ بَدَّلَتهُ غَارًا مُغْدَودِنًا أَندَى، عَلَى جَبِينٍ كَطَلَّةِ فَجر. وَهِيَ، فِي مَجدِهَا الأَثِيلِ، مَا استَكبَرَت يَومًا، بَل رَأَت نَفسَهَا “طِفلَةً تَحبُو فِي عَالَمِ الشِّعر”. وَهَذَا، لَعَمرِي، مِن صِفَاتِ الكِبَارِ، يَرَونَ أَنَّ الشِّعرَ مَدًى لا تُدرَكُ أَطرَافُهُ، وَاتِّسَاعٌ لا يُحِيطُ بِهِ الخَيَالُ عِلمًا.
فَيَا قَارِئًا يَهتَزُّ لِلبَدْعِ، وَيَنتَشِي مِن رَحِيقِ القَوَافِي المَجدُولَةِ، حَدِّق إِلَى وَحدَةِ السَّبْكِ فِي قَصِيدَتِهَا، وَإِلَى تَرَابُطِ المَعَانِي؛ رَ الصُّوَرَ المُوَشَّاةَ بِبَرِيقِ الفَجرِ فِي تَصَاوِيرِهَا المُنَمنَمَاتِ؛ تَبَصَّر كَيفَ تُنزِلُ الكَلِمَةَ لا غُبَارَ عَلَيهَا، وَلا إِسفَافَ فِيهَا، مُلُوكِيَّةَ المَقدَمِ؛ تَأَمَّل كَيفَ يَسمُو الغَرَضُ عَلَى بَنَانِهَا، وَتَحلَولِي الصُّوَرُ؛ اخْلُ إِلَى شِعرِهَا بِاستِغرَاقٍ، وَوَلَهٍ؛ احْيَ كُلَّ هَذَا، وَحَوِّمْ فِي خَيَالِهَا وَالمُفَلَّذَاتِ، فَتُدرِكَ كَم جَلِيلٌ ضَنَى صَنِيعِهَا فِي لَيَالِيهَا الطِّوَالِ، وَكَم مُسَهِّدَةٌ حُرُوفُهَا الصِّقَال…
هَذَا فِي مُجْمَلِ نِتَاجِهَا. وَفِي هذه القصائِدِ القليلةِ الَّتي بين يَدَيَّ، تَحدِيدًا، فَلا أَرَاهَا خَرَجَت عَلَى سَمتِهَا المَعهُودِ، عَلَى أَنَّ بينها ما جَاءَت لِمُنَاسَبَاتٍ وَأَشخَاصٍ وَمَوَدَّات. بَيدَ أَنَّهَا لَم تَترُك قَافِيَتَهَا أَسِيرَةَ اللَّحظَةِ الرَّاهِنَةِ الَّتِي سَتَطوِيهَا الأَيَّامُ حَدَثًا وَذِكرًا، فَانسَرَبَت مِنَ الخَاصِّ الضَّيِّقِ إِلَى العَامِّ المُطلَقِ بِمَا يَكتَنِزُ مِن رُؤيَةٍ عَمِيقَةٍ لِلحَيَاةِ، وَتَوَغُّلٍ فِي فَضَاءِ النَّفسِ البَشَرِيَّةِ الأَوسَعِ، وَرُؤيَا صَافِيَةٍ تَختَرِقُ الآتِي بِآرَاءَ صَائِبَةٍ فَتَضَعُ لِلكَلِمِ إِطَارَهُ البَاقِي وَلَو دَهَمَ الأُفُقَ حَلَكٌ مِن آنٍ لِآن.
هذه الشَّاعِرَةُ، كم رَأَيتُنِي أَسِيحُ فِي بَهَاءَاتِها، وَأَتَبَصَّرُ فِي إِشكَالِيَّةٍ قَسَمتِ النُّقَّادَ، وَهِيَ: هَل يُحكَمُ عَلَى العَمَلِ الإِبدَاعِيِّ بِمَعزِلٍ عَنِ المُبدِعِ، وَعَلَى أَنَّهُ مُستَغنٍ بِذَاتِهِ، كَمَا يَرَى “رُولان بَارت” وَ”ت.إس.إِليُوت” وَغَيرُهُمَا، أَم يُنظَرُ إِلَى حَيَاةِ وَمَسلَكِ هَذَا المُبدِعِ، وَتَأَثُّرِهِ الوَاعِي وَاللَّاوَاعِي بِمَخزُونِهِ الثَّقَافِيِّ المُكتَسَبِ، لِلإِضَاءَةِ عَلَى عَمَلِهِ، وَكَشفِ خَفَايَاه؟ فَأَرَى، بِحَدْسِ المُتَذَوِّقِ لِلجَمَالِ، السَّاكِنِ إِلَى تَأثِيرَاتِهِ، وَالحَافِظِ، فِي رُكنٍ مِن وَعيِهِ، صُورَةَ كَاتِبِ النَّصِّ، إِذَا أُتِيحَت، أَو صُورَتَهُ الَّتِي رَسَمَهَا البَالُ عَبرَ سِيرَتِهِ المَروِيَّةِ المُتَّفَقِ عَلَيهَا، أَرَى أَنَّ جَمَالَ الأَثَرِ يَزِيدُ إِشرَاقًا إِمَّا وَاكَبَتهُ صُورَةٌ نَقِيَّةٌ، نَيِّرَةٌ، لِصَاحِبِها، وَمَعرِفَةٌ بِانعِكَاسَاتِ المَنَابِعِ الأُخرَى عَلَيه. فَالعِطرُ طَيِّبُ الشَّمِيمِ وَهُوَ يَبلُغُكَ مِن وَرَاءِ الأَكَمَةِ، وَلَكِن، يَا طِيبَهُ إِذَا دَنَوتَ مِن مَصدَرِهِ، فَأَضَفتَ إِلَى الشَّمِّ المُنعِشِ، سِحرَ الزَّهرِ المُشرِق. وَإِذَا كَانَ الجَمَالُ، فِي بَعضِهِ، انسِجَامًا، وَتَوَاؤُمًا، فَلَكَم يَصُحُّ فِي شَاعِرَتِنَا هَذَا المَقُولُ، وَهِيَ الَّتِي تَقُولُ: “أَصبَحَت حَيَاتِي مَسكُونَةً بِالشِّعرِ، وَلا مَعنًى لَهَا مِن دُونِه”. فَجَمَالُ شِعرِهَا، مُطلَقًا، يَزِيدُ فِي الأَنفُسِ شَجًا، وَأُنسًا، وَدِفئًا، وَقَد تَرَافَقَ مَع ذِكرِهَا. وَلَرُبَّ قَصِيدَةٍ تُقرَأُ.. فَتُسكِرُ؛ فَإِذَا قِيلَ هِيَ لَهَا، يَطِيبُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوَافِيهَا، وَيَطُولُ التَّرَنُّح. فَعَرفُهَا فِي المَحَافِلِ يُضفِي إِلَى الرَّنِيمِ هَسِيسًا، وَإِلَى الجَوارِحِ دَغدَغَةً وَحَنِينًا. وَالنَّاسُ، مَن عَرَفُوهَا، تَوَافَقُوا عَلَى أَنَّ فِيهَا طِيبَةً، نَدَرَ نَسِيجُهَا، وَأَرُومَةً مِن خَالِصِ النَّقَاءِ وَالوَفَاءِ، وَقَافِيَةً تَجِدُ مَثِيلاتِهَا فِي جَعَبَاتِ النَّاظِمِينَ الكِبَار.
تَااللهِ كَمْ يَصُحُّ فِيهَا قَولُ المُتَنَبِّي: “وَفِي عُنُقِ الحَسنَاءِ يُستَحسَنُ العِقدُ”!
فَيَا غَيدَاءَ القَوَافِي… مَغبُوطَةٌ، أَنتِ، بِمَا بَلَغتِ فِي مَرَاقِي الإِبدَاعِ، وَخَالِدَةٌ بِشِعرِكِ الحَاضِرِ، زَهوًا، فِي دِيوَانِ العَرَبِ، وَالَّذِي سَيَختَرِقُ أَزمِنَةً كَثِيرَةً، وَيَنفُذُ إِلَى ذَاكِرَةِ الآتِي، لِمَا فِي نَسِيجِهِ مِن إِهَابِ الإِنسَانِ وَطَوِيَّتِهِ فِي كُلِّ عَصرٍ وَمِصْر.
وَقَالَهَا مِيشَال شِيحَا: “ألشِّعرُ حَفنَةٌ مِن خُلُودٍ تَعبُرُ المَدَى، La poésie est un peu d’éternité qui traverse l’espace”.
هذه السَّخِيَّةُ الرَّخِيَّةُ العَطاء!
إِحسَاسٌ، هي، مُتَوَقِّدٌ أَبَدًا، وَعَاطِفَةٌ مَشبُوبَةٌ مَدَى الثَّوَانِي، وَتَوَحُّدٌ زَادَ فِي حِدَّتِهِ قَضَاءُ الدَّهرِ بِأَصعَبِ نَوَازِلِهِ، يَومَ ضَرَبَ فِي سُوَيدَائِها، وَخَطَفَ حَبَّةَ قَلبِها وَهِيَ فِي رَبِيعِ شَبَابِهَا المُزهِرِ المُثمِرِ، فَأَصبَحتِ وَالشِّعرَ وَاحِدًا، وتَنَاغَمت مَعَ يَقِينِها أَنَّ” الشِّعرَ دَفقَةُ إِحسَاسٍ وَعَاطِفَةٌ، وَتَوَحُّدٌ فِي البَالِ يَمتَزِجُ بِنَكهَةِ السُّؤَال”.
فَيَا شَاعِرَةً لَم يَعرِف خَيَالُهَا الجَفَافَ، وَلا شَحَبَت تَحتَ بَنَانِهَا الصَّحَائِفُ، وَ”جَرَّةُ الدَّقِيقِ لَم تَفرَغ، وَقَارُورَةُ الزَّيتِ لَمْ تَنقُص”* فِي بَيتِهَا الأَدَبِيِّ المُتَكَامِلِ عُمقًا وَجَمَالًا…
وَيَا مُغَرِّدَةً فِي أَعرَاسِ القَوَافِي حِينَ يَستَخِفُّكِ طَرَبُهَا، أَو تَدعُوكِ مَنَابِرُهَا…
وَيَا مبدعةً أَتحَفَتنَا بِالمُرَصَّعَاتِ فِي زَمَنٍ شِعرِيٍّ أَعجَفَ، كَثُرَ فِيهِ السَّقَطُ، وَقَلَّتِ الفَرَائِدُ، وَغَصَّتِ الرُّفُوفُ بِمَرذُولِ القَوَافِي، حَتَّى رَدَّدنَا مَعَ عَلِيّ بنِ الجَهْمِ:
“وَمَا كُلُّ مَنْ قَادَ الجِيَادَ يَسُوْسُهَا وَلا كُلُّ مَنْ أَجْرَى يُقَالُ لَهُ مُجْرِي”.
وَيَا مَن قُلتِ يَومًا: “أَنَا مِن هَذَا الوَطَنِ بِكُلِّ امتِدَادِهِ فِي التَّارِيخِ وَالحَضَارَةِ، وَبِكُلِّ تُرَاثِهِ وَثَقَافَتِهِ، وَبِرِسَالَتِهِ إِلَى الإِنسَانِيَّة. مِنهُ تَغَذَّت رُوحِي قَبلَ أَن يَتَغَذَّى جَسَدِي”…
لَن يَنسَاكِ وَطَنُكِ وَأَنتِ قِلادَةُ دُرٍّ فِي جِيدِهِ، وَنُجُومٌ نَيِّرَاتٌ فِي مَكتَبَاتِهِ، وَمَفخَرَةٌ فِي دِيوَانِهِ العَرِيق…
سَنَفتَقِدُكِ في الغِيابِ الطَّويلِ، ولكنْ…
سَيَبقَى لنا صَرِيرُ شَبَاتِكِ، فَهُوَ مِن تَجَلِّي الرُّوحِ تَمَثَّلَ حُرُوفًا، حَفِيفُهَا مِن نَجَاوَى النَّوَارِسِ لِلصَّوَارِي، وَوَلَهِ الشِّرَاعِ المُتَهَادِي إِلَى الشَّاطِئِ الذَّهَب…
إِنَّ لَكِ الكَثِيرَ عَلَى الشِّعرِ، وَلَكِ عَلَينَا، مِن طِيبِكِ الأَندَى، دَوَامُ السِّحْر.
أَلا بُورِكَت دَوَاةٌ كم غَذَت يَرَاعَكِ، فَمِدَادُكِ نُوْرٌ، وَنَوْرٌ، وَعَبِير!
رَحِمَكِ اللهُ، رَحِمَكِ اللهُ!
****
(*) الكِتَابُ المُقَدَّسُ، العَهْدُ القَدِيْمُ، 3 مُلُوْك، الفَصْل 17.