غِلالَةٌ بَيْضَاءُ عَلَى حُدُوْدِ السَّمَاء! 

maurice najjar

مُورِيس وَدِيع النَجَّار

(أديب وشاعر-لبنان)

(مِيشَا… فِي عُمْرِ الوَرْدِ، تَرَكَتْ رَغَدَ العَيْشِ، وَنَجَاحَ الدِرَاسَةِ الجَامِعِيَّةِ، لِتَكُوْنَ… رَاهِبَة!)

قَبْلَ أَنْ تَخْطَفَهَا قَدَاسَةُ المِحْرَابِ، وَعَبَقُ الصَّلاةِ، وَرَائِحَةُ البَخُوْرِ، كَانَتْ بَيْنَنَا..

قَبْلَ أَنْ يَجْذِبَهَا الصَّمْتُ الخَافِقُ بِنَبْضِ الأُلُوْهَةِ، إِلَى حَيْثُ الحُبُّ مِلْءُ الوُجُوْدِ، وَالنَّقَاءُ رِدَاءٌ لا لَبُوْسَ بَعْدَهُ، وَنِدَاءُ البَاطِنِ مِنْ عَلُ، وَهَمْسُ اللهِ قَرِيْبٌ، قَرِيْب، كَانَتْ بَيْنَنَا..

قَبْلَ أَنْ تَصُمَّ أُذُنَيْهَا عَنْ نَغَمَاتِ الدُّنْيَا، وَصَرِيْرِ الشَّهْوَةِ فِي الحَوَاسِّ، لِتَسْكُنَ إِلَى حَفِيْفِ السَّمَاءِ، وَوَشْوَشَاتِ العُلَى، كَانَتْ بَيْنَنَا..

قَبْلَ أَنْ يَحْدُوَهَا وَجْدٌ لا يُوَازِيهِ وَجْدٌ، إِلَى حَالٍ تَكْشِفُ لَهَا، فِي مَا تَرَى العَيْنُ، مَا لا تَرَاهُ، وَحَيْثُ تَلْمُسُ، فِي رَهْبَةِ اللَّيْلِ، وَضَوْضَاءِ النَّهَارِ، فِي زُرْقَةِ الجَلَدِ، وَخُضْرَةِ الأَرْضِ، فِي نَأْمَةِ الطِفْلِ، وَسَعْيِ النِّمَالِ.. حُضُوْرَ اللهِ الطَّاغِي، وَلَمَسَاتِهِ المُحْيِيَةَ، كَانَتْ بَيْنَنَا..

كَانَتْ بَيْنَنَا!. فَتَاةً كَالوَرْدَةِ خُلُقًا، وَإِهَابا.

وَكَانَتْ عَلَى بَسَاطَةٍ، وَنَبَاهَةٍ، وَطِيْبَة.

شُجُوْنُهَا الدِّرَاسَةُ، وَالأَصْدِقَاءُ، وَالرِّيَاضَةُ، وَالصَّلاة.

وَكَانَتْ غِبْطَتُهَا الكُبْرَى فِي رِعَايَةِ الأَطْفَالِ، وَالحَدَبِ عَلَيْهِم، وَكَانَتِ السَّعَادَةُ تَبْرُقُ، جَلِيَّةً، فِي مُقْلَتَيْهَا حِيْنَ يَتَحَلَّقُوْنَ حَوْلَهَا، نَحَلاتٍ طَنَّانَةً عَلَى رَيْحَانَةٍ نَدِيَّةٍ، شَذِيَّة.

وَكَانَت قِبْلَةَ العَيْلَةِ المُؤْمِنَةِ، الهَانِئَةِ، وَهِيَ صَغِيْرَةُ العُشِّ الوَادِعِ، وَمُدَلَّلَتُهُ.

وَكَابْنَةٍ لِصَدِيْقٍ، وَأَخٍ، كَانَتْ، لَهَا، عِنْدِي، مَنْزِلَةٌ مُمَيَّزَةٌ، وَمَحَبَّةٌ طَافِحَةٌ، يُغَذِّيْهَا مَا هِيَ عَلَيْهِ مِن دَعَةٍ فِي الرُّوْحِ، وَبَدِيْهَةٍ لافِتَةٍ، وَمَرَحٍ خَجُوْلٍ، مُحَبَّب..

وَإذْ، بِتَدْبِيرٍ إِلَهِيٍّ، وَإِشْرَاقَةٍ عَلَوِيَّةٍ لِنَفْسِهَا البَرِيْئَةِ، تَشُدُّهَا قُوَّةٌ إِلَى دُنْيَا مِنْ طُهْرٍ، وَاكتِفَاءٍ، وَصَفَاء.

وَإِذْ بِرُوَائِهَا مِنْ نَسِيْجِ الفِرْدَوْسِ، وَأَرَاهَا عَلَى حُدُوْدِ السَّمَاءِ كَأَنْ فِي غِلالَةٍ بَيْضَاءَ، وَيَلُفُّهَا سَدِيْمٌ أَبْيَض.

وَبَهَرَتْ بَصِيْرَتِي، وَبَصَرِي، المُتَآلِفَيْنِ مَعَ أَنْوَارٍ غَسَقِيَّةٍ، فِيْهَا الوَهَجُ المَخْنُوْقُ بِالدُّكْنَةِ، وَفِيْهَا الخُفُوْت.

وَكُنْتُ، كُلَّمَا أَلْمَحُهَا، يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّ عَيْنَيْهَا شَاخِصَتَانِ، ثَابِتَتَانِ، قَرَارُهُمَا نَاءٍ، نَاء..

وَأَظُنُّنِي وَجَدْتُ، وَرَاءَ ابْتِسَامَتِهَا المَلائِكِيَّةِ، الهَادِئَةِ، السَّامِيَةِ، كَآبَةً شَفِيْفَةً، أَخَالُهَا، فِي عُمْقِ فَرَحِهَا الصِّرْفِ، نَخْزَةً مِمَّا يَتَرَاءَى لَهَا مِنْ كَدَرٍ، وَنُكْرٍ، وَفَقْرٍ، وَظُلْمٍ، وَمَرَارَةٍ، فِي عَالَمِ مَنْ خَلَقَهُ اللهُ عَلَى صُورَتِهِ، وَمِثَالِهِ، فَمَا كَانَ، فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ، جَدِيْرًا بِالصُّوْرَةِ، وَلا خَلِيْقًا بِالمِثَال.

هَذِهِ الفَتَاةُ الَّتِي كَانَتْ تَضِجُّ بِالحَيَاةِ، وَتُشَارِكُ القَوْمَ نِقَاشَاتِهِم الَّتِي تَتَجَاوَزُ عُمْرَهَا، أَحْيَانًا، فَتَبُزُّ الكَثِيْرِيْنَ بِرُؤْيَتِهَا الصَّافِيَةِ، وَغِنَى تَفْكِيْرِهَا، وَالَّتِي إِذَا انْخَرَطَتْ فِي حَلَقَةِ الفَرَحِ كَانَتْ مَعَ الفَرِحِيْنَ قَلْبًا وَقَالَبًا، أَرَاهَا، اليَوْمَ، أَقْرَبَ إِلَى الصَّمْتِ العَمِيْقِ، وَالتَّأَمُّلِ، وَالانْخِطَافِ، وَكَأَنَّ سَعِيد تَقِيِّ الدِّين عَنَاهَا فِي قَوْلِهِ: “حِيْنَ يَرْتَفِعُ الإِحْسَاسُ إِلَى صَعِيْدٍ يُطِلُّ مِنْهُ عَلَى الله، يَتَأَلَّهُ الإِحْسَاسُ، وَيَخْلَعُ الشُّعُوْرُ عَنْ نَفْسِهِ أَرْدِيَةَ الكَلِمَات”.

مِيْشَا، أُخْتَاه!

كَيْفَ لِي أَنْ أُقَوِّمَ تَجْرِبَتَكِ، وَأَنَا مَنْ أَنَاخَنِي الدَّهْرُ بِوَسَاوِسِهِ، فَصِرْتُ، فِي قَبْضَتِهِ الرَّهِيْبَةِ، شِلْوًا تَتَجَاذَبُهُ أَمْوَاجُ الشَكِّ، وَاليَقِيْن؟!

كَيْفَ لِي! وَأَنَا القَابِعُ فِي عَتَمَاتِي، أَنْ أُدْرِكَ صَفَاءَكِ الخَالِصَ وَأَنْتِ فِي بُحَيْرَةِ النُّوْر؟!

لَيْتَ لِي مِنْ إيْمَانِكِ الغَامِرِ شَأْوًا قَلِيْلاَ، لأُمَزِّقَ عَنِّي سِرْبَالَ الظُّنُوْنِ، وَأَطِيْرَ إِلَى لأْلاَءِ رَبِّي، نَقِيًّا، قَوِيًّا، ثَبْتَ الجَنَان..

أُخْتَاه!

عَفْوَكِ.. مِنْ نَجْوَى قَلْبِي، أُسِرُّهَا أَمَامَكِ، فَإنَّهُ أَسِيرٌ، مَغْلُوْبٌ، وَلَكِنَّهُ يَعْشَقُ الإِنْعِتَاق..

أُخْتَاه!

يَوْمَ رَأَيْنَاكِ تَنْكَفِئِيْنَ عَنْ بَهْرَجِ الدُّنْيَا، وَفَرَحِهَا الوَاهِي، لَمْ تُدْرِكْ بَصِيْرَتُنَا الحَسِيْرَةُ فَهْمَ قَرَارِكِ الصَّعْب. فَكَيْفَ لِمَن أُشْرِعَت لَهَا الحَيَاةُ عَلَى مِصْرَاعَيْهَا، أَنْ تَخْلَعَ ثَوْبَهَا القَشِيْبَ لِتَتَسَرْبَلَ بِالمُسُوْحِ الخَشِنَةِ، وَتَنْهَى النَّفْسَ، وَأَهْوَاءَهَا، عَنْ لَيِّنِ العَيْشِ، وَطَرَاوَةِ الجَنَى؟!.

كَيْفَ لِمَنْ وَسِعَت دُرُوْبُهَا، وَانْقَشَعَ أُفُقُهَا عَنْ مُرُوْجٍ غَنَّاءَ تَرْفُلُ بِالنَّوْرِ، وَالأَقَاحِ، أَنْ تَنْثَنِيَ، طَوْعًا، إِلَى المَسْلَكِ الصَّعْبِ، وَالغَوْرِ الدَّاكِن؟!

عَفْوَكِ، أُخْتَاه!

هَذَا مَا تَرَاهُ مَدَارِكُنَا، وَقَدْ كَلَّت عَنْ كَشْفِ السُّجُفِ، فَانكَفَأَت، تُعَلِّلُ النَّفْسَ بِلَذَاذَاتٍ، طَالَمَا انْفَرَجَت عَنْ خَوَاءٍ فِي الرُّوْحِ، وَجَفَافٍ فِي القَلْب.

أَجْمِلْ بِكِ، يَا أُخْتَاه!

مَشَيْتِ فِي دُرُوْبِ النَّاسِ الغَبْرَاءِ، تَحْمِلِيْنَ زَادَكِ، مِنْ أَهْرَاءِ الإِنْجِيْلِ، مَؤُوْنَةً لِسَفَرٍ طَوِيْلٍ، مَا أَرْهَبَكِ حَلَكٌ، وَلا أَغْوَتْكِ وَاحَاتُ الوَهْمِ تَتَرَاءَى كُلَّمَا وَهَنَتِ المَفَاصِلُ، وَتَسَرَّبَ العَرَقُ إِلَى الأَهْدَابِ المَنْهُوْكَة. تَلْمَحِيْنَ فِي الأُفُق ِالبَعِيْدِ ابْتِسَامَةً، وَوَجْهًا مُنْيِرًا يَدْعُوْكِ إِلَى حَيْثُ لا بَكَاءٌ وَلا أَلَم..

طُوْبَاكِ!

لَقَدْ أَدْرَكْتِ مَا قَالَهُ القِدِّيْسُ أُغُوسطِينُوس: “يَا إِلَهِي لَقَد خَلَقْتَنَا مُتَّجِهِيْنَ إِلَيْكَ، وَلِذَلِكَ لَنْ يَجِدَ قَلْبُنَا رَاحَةً إِلاَّ إِذَا ارْتَاحَ فِيْك”. فَوَجَدْتِهِ لأِنَّكِ جَدَّيْتِ السَّعْيَ إِلَيْهِ، وَسَعْيُهُ مُضْنٍ، وَبَابُهُ ضَيِّق. وَيَوْمًا قَالَ الفَيْلَسُوْفُ بَاسْكَال: “لَوْ لَمْ تَكُنْ وَجَدْتَنِي لَمَا كُنْتَ تُفَتِّشُ عَنِّي”،

«Tu ne me chercherais pas si tu ne m’avais déjà trouvé».

لَقَد اصْطَفَاكِ إِكْسِيْرُ النِّعْمَةِ، فَعَبَبْتِهِ، حَتَّى الثُّمَالَةِ، وَعَبَرْتِ إِلَى رَوْضَةٍ مَا غَشَاهَا الهَشِيْمُ، وَتَرَكْتِ نَزَقَ النَّفْسِ، وَضَعْفَ الجَسَدِ، وَتَطَهَّرْتِ بِالحُبِّ الَّذِي لا يَعْرِفُ الوَنَى..

طُوْبَاكِ!. فِي فَيْضِ الرِّضَى، وَفِي سَلامِكِ المَكْنُوْن..

طُوْبَاكِ!. وَأَنْتِ تَرُوْدِيْنَ البَهَاءَ، فَتَتَدَاعَى، أَمَامَكِ، صَغَارَاتُ الدُّنْيَا، وَالمُنَى الزَّائِفَات..

فَيَا وَالِجَةً قَلْبَ اللهِ.. صَلاةً لَنَا، نَحْنُ التَّائِقِيْنَ، بِضَعْفٍ، إِلَى هَنَاءِ رِحَابِهِ، الدَّائِرِيْنَ، بِوَجَلٍ، عَلَى حَوَافِي نَعِيْمِه!

maurice 1

اترك رد