مازن ح. عبّود
(كاتب-لبنان)
لفتة مهداة الى روح السيدة روزه اليازجي ام البطريرك يوحنّا والمطران بولس المغيّب ومن خلالها الى كل ام في سوريا وفي كل مكان انتظرت عودة ابنتها او زوجها او ابنها المخطوف ولم يعد، فتعبت واستلقت ورقدت على امل ان تحظى برؤيا وجهه في دنيا الراحة.
واني في هذه اللحظات أتذكر كيف كانت عيناها تتراقص فرحا وكبرا لدى مشاركتها في اول قداس لابنها البطريرك في بيروت، وهو محاطا بابنها الأصغر المطران بولس. واتصور مدى الأسى والحزن في العينين نفسهما حين بلغها خبر خطف ولدها. لا اعرف ما إذا كان مسموحا للأحبار ان يظهروا حزنهم واساهم وقد أضحوا للكنيسة وذلك بالرغم من انهم مازالوا بشرا.
رحلت روز اليازجي في ذكرى تغييب ابنها بولس الثالثة، رحلت وهي مازالت تبحث عنه في كل مكان، في دهاليز حلب وحمص وأنطاكية وكل المشرق، تبحث عن ذاك الذي ولدته راميا وكبر للكنيسة بولسا. رحلت بصمت. انطفأت بحسرة ورجاء ككل ام ثكلى، بعد ان ضجرت من عدالة البشر ومكائدهم. مضت الى الديار، وضعت امامه قلبها واشواك وردتها. ظنته انه توارى بداية، فانتظرته أكثر من ألف يوم وخمسين يوما، ولم يأت. داست على التسعين من السنين وعبرت، وقد تركت لكنيستها بطريركا نجلّ ومطرانا مضى قيل بانه مضى مفتشا عن السلام مع رفيقه يوحنّا ولم يعودا، وراهبة تزرع روح السماء في بوار الارض، وابنة تنطر ارث العائلة.
إني بالمناسبة أتقدم بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن اسرة الموقع من صاحب الغبطة والمطران المغيّب والمطران الواعد سلوان وسائر افراد العائلة باحر التعازي، مرددا واياهم: “المسيح قام”، واكتفي بنشر كلمة المطران سلوان-متروبوليت بوينس آيرس وسائر الأرجنتين في عمته وام ابيه بالروح المطران بولس، راجيا ان تبلغ كلماته الرائعة قلوبكم وتفعل فعلها بكم حبا ورجاء ووفاء وايمانا:
“ســرُّ الأمّ ولادةٌ
“لتكنْ مشيئةُ الربّ” (أع 21، 14)
سرّ الأمّ هو الولادة؛ وردةٌ لا تذبل؛ فعلٌ خلاّق، مستمرّ، لا ينقطع.
سرّ ابتدأ بـمَن “أنحى” (مُنَحْ) بالكلمة الخالقة، “مكتوبة” في حشا وردة، كلمة جابلة تعبّر عن الكَنَه، عن تتابع القصد والمعنى في الخلق، وعن توأم التأملّ والعمل في الحياة. هو سرّ غايته (القصد) “فاديةٌ”، مَن يفدي عزيزاً عليه بروحه. سرّ يتجلّى معناه بعيش فريد مستديم، سرّ “الهانئ”، مَن يعيش بفرح وسعادة وطمأنينة. سرّ مقيم في توأم التأمّل والعمل؛ فهو سرّ “رنوة”، مَن أدام النظرَ إلى الحُسن والجمال مع سكون في الطَّرْف، وهو أيضاً سرّ “الرامي”، مَن أصاب كلا القصد والمعنى، أي من بَلَغَ الحُسنَ والجمالَ.
هذه كانت معاني أسماء الولادة الأولى وقد تلتْها ولادة ثانية ارتسمت فيها أسماؤهم بمعانيها “الأخيرة”، فتحقّقت فيها الغاية (فاديا)، إذ كشفتْ سرّ حنان الله (يوحنّا)، وسرّ الأم العابدة والخادمة للربّ (مريم)، وأخيراً، سرّ جديد بالكليّة، سرّ الـصغير إلى درجة التواري العجيب و”الاختفاء” الكليّ (بولس). هي معاني أسماء الولادة الثانية، ولادة ترسم معالم أيقونة البشارة كلّها، سرّ الأناجيل الأربعة، أو قلْ، سرّ إنجيل حيّ في صيرورة.
لكنّ سرّ الأمّ الأعظم يكمن في الولادة الثالثة، بـمَن كوّنتْ في الولادتَين الأولى والثانية وبما تكوّنتْ عليه. إنّها الولادة الأخيرة التي استغرق تكوينها في “الحشا” من يوم الإثنين في 22 نيسان 2013 إلى يوم الخميس في 7 نيسان 2016، أي ما يوازي طبيعياً توالي الحبل بالأربعة من جديد!
سرّ هذه الولادة الأخيرة فاق بما لا يُقاس ما سبقها، لأنّه تمّ في كيانها، في قلبها، على شفتَيها، في دمعتها، في صمتها، في سكونها، في لهجها، في انتظارها وفي شوقها. كشفتْ في هذه الولادة سرّ عطاء مستديم كليّ، دون رجعة، حتّى الرمق الأخير، “حتّى الموت”. سرّ عانق تحسّر بولس الرسول على رفاقه في قيصرية فيلبّس وهو على أهبّة الصعود إلى أورشليم -“ماذا تفعلون؟ تبكون وتكسرون قلبي، لأنّي مستعدّ ليس أن أُربط فقط، بل أن أموت أيضاً في أورشليم لأجل اسم الربّ يسوع” -، بجوابها الوجدانيّ الفريد، على مثال العذراء مريم: “لتكنْ مشيئةُ الربّ” (راجع أع 21، 10-14).
لقد اختصرت هذه الأمّ في وجدانها معاناة الشرق بأسره، لا بل معاناة كلّ إنسان مجروح يفتقد فلذة كبد. مثالها في مواجهة مشيئة الربّ الأخيرة المعلنة في “اختفاء” الصغير (بولس) جعل منها، بسبب صلاتها المستمرّة، منارة شامخة، ولو بدتْ أنّها كانت منكسرة الخاطر. ففي هذا الشوط الأخير، في سعيها الأخير، أذهلتْ صلاتُها الملائكة، وحازتْ، بصلابة شكيمتها، إكليلاً مرصّعاً بكمال الوصيّتَين العظميَين: محبّة الله ومحبّة القريب. فالمخاض الأخير نقّى قلبها من كلّ زؤان، فهجرها الخوف من الموت وكلّ ما خالف ناموس المحبّة. بات قلبُها رحمَ صلاةٍ ساجدةٍ خاشعةٍ دامعةٍ عابدةٍ يريد أن يضمّ الحبيب قبل أن توافيها المنيّة.
ذهبتْ عن هذه الفانية ولم تعلم أنّ “بولس حيٌّ”! بحثوا عنه في كلّ مكان ولم يجدوه. مَن نظر إليها أدرك أنّ بولس معها، راتعاً على شفاهها وفي قلبها. صار كلَّ صلاتها. لقد وَلَدَها وَلَدُها بهذه المعيّة الصلاتيّة الوجدانيّة. صارا وحدة لا تنفصم. جلّ الأمر أنّه فتح لها منفذ عبور حجمه صغير جدّاً بحجم تواضع اختفائه، لكنّه كان كافياً لتنفذ منه هي شامخة مجيدة، عبر خبرة انتظار السنوات الثلاث الأخيرة، على مثال خبرة انتظار العذراء الثلاثيّ الأيّام، إلى رحاب القيامة والمجد. لقد خلعت أقفال اليأس، والكفر، والضغينة، والألم، إلى غير رجعة، باسم كلّ متألّم ومع كلّ واحد منهم، أينما كانوا. ظهر رقادها الآن برهاناً ناصعاً أنّ الغلبة ممكنة على كلّ أشكال الموت، وأنّ المستحيل عند الناس ممكن لدى الله.
مخاض الرجاء في هذا العالم يولد المحبّة الكليّة، والأمانة في هذا الدهر مآلها تحقيق الرجاء. والربّ صادق في وعده وأمين في مكافأة المتّكلين عليه!
فماذا إذن الآن: أَنودّعها أم نزّفها؟ هي بشرى في هذا المخاض الأليم، وضياء سميح يمسح الدمعة عن كلّ وجه! هلّا إذن والقلب متّسع، نقول معها: المسيح قام! وبولس حيّ!
+سلوان
متروبوليت بوينس آيرس وسائر الأرجنتين