الفاتيكان: مرسلات المحبة “شهيدات” واجهن مصيرهن بشجاعة وقوة
كلود أبو شقرا
بدأت تباشير صباح الرابع من آذار، تهلّ على مركز المسنين في حي الشيخ عثمان في عدن العاصمة المؤقتة لحكومة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، وراهبات الأم تريزا الخمس اللواتي يدرنه في حركة دائمة ذهاباً وجيئة، العمل كثير والمسنون نزلاء الدار ينتظرون بعيون تائقة وقلوب ملؤها الامتنان ان تأتيهن الراهبات بما يسدّ رمقهن من الحب قبل الطعام… لم يكن المشهد داخل المركز هو نفسه خارج أسواره… المدينة في غليان، العنف والإرهاب يعششان في الزوايا، أزيز الرصاص ورائحة الموت تنبعث في كل مكان… وكان السياج الذي بنته الراهبات بقلوبهن سداً منيعاً فصل الحياة داخل المركز عن خارجه، وبدت كأنها واحة سلام وسط نيران الحروب المستعرة… فجأة ومن دون سابق إنذار، دخل المركز دوامة العنف، ولعلع الرصاص في أرجائه، وسيطرت الفوضى، فتحولت الحياة بلحظة إلى موت ودمار، وسالت دماء الراهبات…
شجاعة فائقة
رغم حطورة الوضع في اليمن، ورغم التهديدات التي كانت راهبات الأم تريزا تتلقاها باستمرار، إلا أنهن أصرين على البقاء في المنطقة لخدمة 60 مسناً، يعاونهن عمال ومتطوعون وكاهن ساليزياني هندي، حتى الرمق الأخير، ولم يخشين الإسلاميين المتشددين أو الموت، بل واجهنهم بصدورهن وهن يتمتمن بعبارات المحبة والغفران لقاتليهن.
الراهبات الأربع اللواتي قُتلن في الهجوم، إحداهن من الهند، اثنتان من رواندا والرابعة من كينيا. أما الراهبة الخامسة وهي هندية الجنسية فتمكنت من الفرار ولجأت إلى سلطنة عمان حيث المقر الإقليمي لراهبات مرسلات المحبة، فيما اختفى الكاهن.
لم تثنِ هذه الجريمة المروّعة راهبات جمعية “مرسلات المحبة” عن استمرار رسالتهن في عدن، بل تمسكن ببقائهن وصممن أكثر من اي وقت مضى على مساعدة الفقراء والمحتاجين، ومن بقي حياً.
وفق ساعة هذا العالم قد يكون استشهاد راهبات الأم تريزا في أوائل آذار وإعلان البابا فرنسيس مرسوم تقديس الأم تريزا منتصف آذار صدفة، لكن وفق الساعة السماوية يرتبط الحدثان ببعضهما البعض، فقد أزهرت شهادة الراهبات الأربع في السماء هالات نور من شموس أربع غطت بدفئها الكون وما بعده، وتعانقن ومؤسستهن الأم تريزا في عرس سماوي، ستشهد الأرض فصلا منه خلال احتفال الفاتيكان بتقديس الأم تريزا.
وكانت الام تيريزا أسست الجمعية عام 1950 في كلكوتا. حازت جائزة نوبل للسلام عام 1979. تضم الجمعية نحو 4500 راهبة ينتشرن في أنحاء العالم،. ويشتهرن بعدم التراجع امام المخاطر، وهن حاضرات في العراق وغزة.
مجزرة بشعة
كان كل شيء يسير بوتيرة طبيعية في مركز المسنين، فيما الحياة تسير ببطء في مدينة عدن، بين أزيز الرصاص وغبار الدمار والعنف والإرهاب، تعمل الراهبات بحركة لا تهدأ ولا تكل يحضرن الطعام للمسنين، يلبين حاجاتهم، يواسينهم بابتسامة ويوزعن حبتهن عليهم… الحراس في الخارج تشخص عيونهم إلى محيط المركز يرصدون الحركة في الشارع وعلى أهبة الاستعداد لدرء أي خطر يمكن ان يهدد سكون الحياة في المركز…
فجأة توقفت سيارة أمام المركز وترجل منها مسلحون ملثمون وفاجأوا الحراس برصاص في صدورهم فأردوهم وعيونهم شاخصة إلى داخل الدار. لم تنتبه الراهبات إلى ما حصل في الخارج، لانهماكهن بترتيب شؤون المسنين الذين هم في غالبيتهم من المسلمين… تسارعت الخطى في الخارج وبدأ ضجيج الموت يحيط بهن وهن غافلات عنه، إلى أن اقتحم المسلحون الباب ودخلوا وعيونهم تتطاير شرراً…
قابلتهم الراهبات بابتسامتهن المعهودة وبعيونهن المشعة نوراً ومحبة، وقف المسلحون برهة وهم في ذهول، لم تهلع الراهبات منهم، لم يهربن، لم يصرخن، بقيت نظرتهن المشعة ترمق هؤلاء الظلاميين… مرت لحظات كأنها دهر، احتار المسلحون المتشددون والمدججون بالسلاح من القوة التي تتحلى بها الراهبات العزّل الواقفات أمامهم كسد منيع لا لحماية أنفسهن بل لحماية المسننين في الدار.
انتابت الرعدة المسلحين إزاء مشهد الراهبات وهن يسيجن الدار بسياج ليس من صنع البشر بل من صنع من نادى بالعطاء المجاني اللامحدود، وارتعدوا من فيض المحبة والتسامح المشع من عيونهن، فأشاحوا وجوههم عنهن، لبرهة من ثم استداروا وصوّبوا أسلحتهم نحوهن وأردوهن قتلى بوحشية لا مثيل لها، فقد استفزهم موقفهن الشجاع إلى درجة أخرجتهم من صوابهم، فجن جنونهم، وربطوا أقدام الموظفين وقتلوهم بطريقه بشعة أمام المسنين الذين كانوا ينظرون إليهم وهم يقتلون من دون رحمة، بعد ذلك أطلقوا النار على المسنين فقتل 16 شخصاً….
وبعد ساعة ونصف الساعة من أعمال القتل، وبعدما أجهزوا على كل من في الدار، خرجوا مهرولين، هاربين بجنون، تلاحقهم عيون الراهبات الهادئة والمشعة بنور الغفران، وتتردد في صدورهم صدى الجريمة الوحشية التي ارتكبوها. وحدها رئيسة الدير التي احتبأت، نجت من هذه المجزرة الوحشية.
أثرت هذه الجريمة البشعة على المسنين الذين بقوا أحياء، وهم يعانون وضعاً مأساوياً إذ تفتقر الدار إلى الرعاية والاهتمام، بعد مقتل فريق العمل الذي كان يتناوب على مدار الساعة في تقديم الوجبات والعلاج اللازم للعجزة والمسنين.
فور وقوع الجريمة، دان مصدر مسؤول في الرئاسة اليمنية، العمل الإرهابي والإجرامي الشنيع الذي استهدف دار المسنين، محملا “داعش” مسؤولية الجريمة، وقال: “العصابات التي أقدمت على مثل هذه الجريمة، لا يمكن وصفها بالبشرية؛ لأنها بفعلها السافر والمشين تجاه العجزة والمسنين ومن يعمل في خدمتهم، توحي بدرجة الدناءة والانحطاط الأخلاقي والإنساني الذي لا يتجرأ أو مجرد التفكير على مثل ذلك العمل إلا أناس غير أسوياء، لا يحملون ذرة من مشاعر البشر والأخلاق وتعاليم الدين الكريم”. كذلك تعهد محافظ عدن اللواء عيدروس الزبيدي ألا تمرّ هذه الجريمة من دون عقاب رادع وقصاص مستحق، بحق الإرهابيين.
رجح الأب توماس سيباستيان (مساعد النائب الرسولي في جنوب شبه الجزيرة العربية) وجود أعداء للمسيحيين لا يريدون أي حضور للراهبات في اليمن، مع أن المرسلين والمرسلات والراهبات والكهنة لا يسببون أي مشكلة بالنسبة إلى السلطات المحلية أو الثوار الذين يقاتلون ضد حكومة صنعاء.
وفي معرض حديثه عن الكاهن الساليزياني المفقود، والذي يُرجح أنه اختُطف، قال إن هذا الرجل قديس والكاهن الوحيد الموجود في تلك الأنحاء من اليمن، وكان يساعد الراهبات ويحتفل بالقداس ويعتني بالمحتاجين. وكان قيّما على ثلاث كنائس في المنطقة أُقفلت جراء الحرب.
شهادة مستمرة
وصلت أصداء هذه الجريمة المروعة إلى البابا فرنسيسن الذي أعرب عن الصدمة والحزن واصفاً الهجوم على دار للمسنين في عدن بـ “الشيطاني”. وقال الكارينال بيترو بارولين، أمين سر حاضرة الفاتيكان، إن الحبر الأعظم يصلي من اجل ان توقظ هذه المجزرة الضمائر وتلامس القلوب وتدفع جميع الأطراف إلى التخلي عن السلاح وسلوك طريق الحوار.
أضاف أن البابا يدعو الاطراف المشاركين في هذا النزاع الى التخلي عن العنف وتجديد التزامهم في سبيل شعب اليمن، ولاسيما الفئات المحتاجة التي أتت هؤلاء الراهبات ومساعدوهن لخدمتها”.
وصف الكاردينال الراهبات بأنهن “شهيدات”، وقال: “رغم التهديدات التي تلقينها خلال الأسابيع الماضية، إلا أنهن تابعن رسالتهن في خدمة الآخرين، حتى على حساب حياتهن الخاصة”.
أما المونسينيور بول هيندر، النائب الرسولي لجنوب شبه الجزيرة العربية، فعزا مقتل الراهبات في مدينة عدن اليمنية إلى “أسباب دينية”.
أضاف: “كنا نعلم صعوبة الوضع العام، وأن الأخوات كنّ يعملن وسط المخاطر، ومع ذلك قررن المكوث، لأن ذلك من ضمن رسالتهن. كان من الواضح أن المنطقة غير آمنة، حتى لو لم تكن ثمة دلائل واضحة على ذلك”.
يذكر أنه في تموز من عام 1998 قتلت ثلاث راهبات من جمعية مرسلات المحبة التي أسستها الطوباوية الأم تريزا، في اليمن على يد مسلح، في أعقاب مغادرتهن مستشفى في مدينة الحديدة. وقالت السلطات في صنعاء آنذاك إن منفذ الهجوم “سعودي غير متزن”، والراهبات هنّ الأخت ليليا والأخت أنيتا من الجنسية الهندية، والأخت ميشال من الجنسية الفلبينية.
البطريرك الراعي: “دم الشهداء بذار المسيحيين”
خلال ترؤسه قداس الأخويات في لبنان، في بازيليك سيدة لبنان – حريصا، تطرق البطريرك مار بشارة بطرس الراعي إلى الجريمة البشعة التي أودت بحياة الراهبات الأربع في اليمن، ومما قال في وعظته:
(…) معلوم أن للراهبات مرسلات المحبة أربعة أديار في اليمن: ففي سنة 1973 افتتحن الدير الأول في منطقة الحديدة، وبعد سنة أسسن الدير الثاني في منطقة تعز، والثالث سنة 1976 في العاصمة صنعاء، والرابع في عدن سنة 1992. في جميع هذه الأديار كما في سواها في لبنان وسوريا وغيرها، تتكرس الراهبات لخدمة المسنين والمسنات والمساجين والمعوقين من كبار وصغار.
(… ) إن استشهاد الراهبات يزيد أخواتهن قناعة واندفاعا رساليا للبقاء في تلك البلاد، التي لا تعرف اليوم إلا لغة الحرب والسلاح والقتل والدمار، وهي بأمس الحاجة إلى لغة إنجيل المحبة والسلام وقدسية الحياة البشرية. ليست لغة الإنجيل “العين بالعين والسن بالسن” (متى 5: 28)، بل لغة المغفرة والصلاة. ونحن نؤمن أن بلدان هذا المشرق التي على أرضها تجلى سر الله الواحد والثالوث، سر الله المحبة والرحمة، والتي منها أعلن إنجيل يسوع المسيح لخلاص كل إنسان، هي اليوم، أكثر من أي يوم مضى بأمس الحاجة إلى الوجود المسيحي الشاهد والفاعل، “كخميرة في العجين، وملح في الطعام” (متى5: 13؛ 13: 33).
وكون “دم الشهداء بذار المسيحيين”، على ما ردد آباء الكنيسة فإن جمعية الراهبات مرسلات المحبة، كما الكنيسة وسائر مؤسساتها، ستنمو أكثر فأكثر، لأن بدم الشهداء يتواصل سر المسيح الكلي الذي هو الكنيسة المشبه “بحبة الحنطة التي، إذا ما وقعت في الأرض وماتت، أعطت ثمرا كثيرا” (يو 12: 24).