د.جــودت هوشيار
(كاتب- بغداد)
عادت الكاتبة الأميركية (هاربر لي) الى الإضواء من جديد، بعد مضي 55 عاماً على نشر روايتها الأولى “أن تقتل طائراً محاكياً” في عام 1960، واعتزالها في بلدة (مونروفيل) الصغيرة بولاية الإباما.
ففي مساء يوم 14 تموز 2015 تدفق عشاق الإدب على متاجر الكتب في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا من اجل إقتناء روايتها الثانية “فلتعين لنفسك حارساً” بعد الإعلان عن عرضها للبيع في تمام الساعة الثانية عشرة ليلاً. وفي الوقت نفسه عرضت في العديد من دول العالم، الترجمات الألمانية والإسبانية والهولندية والدنماركية والنرويجية والسويدية والفنلندية والكورية للرواية الجديدة. وقالت دار النشر (هاربر كولينز) إن عدد نسخ الطبعة الأولى الإنجليزية قد بلغ مليوني نسخة، ونفدت في فترة وجيزة. وتصدرت مبيعات الكتب في الولايات المتحدة لتصبح حدثاً أدبياً مشهوداً.
ومن أجل فهم سبب هذا الإقبال منقطع النظير على الرواية الجديدة “فلتعين لنفسك حارساً” لا بد من إلقاء بعض الضوء على السيرة الحياتية والإبداعية للكاتبة، والأهم من ذلك أن القارئ لن يفهم ولن يستطيع أن يقيًم الرواية الجديدة من دون قراءة الرواية الأولى. لأن أحداث الرواية الثانية تجري في الأمكنة نفسها، كما أن معظم الشخصيات نعرفها من الرواية الأولى وإن تغيرت حياتها في فترة زمنية لاحقة. أي أننا أمام (ثنائية روائية). والقارئ الذي سبق له قراءة الجزء الأول من هذا العمل الإبداعي الكبير، سيشعر بالصدمة حين يكتشف أن المحامي أتيكوس فينتش، الذي تصدى للتمييز العنصري في الرواية الأولى سيبدو عنصرياً في الرواية الجديدة.
ولدت نيلي هاربر لي، فى28 نيسان 1926، في بلدة مونروفيل الصغيرة الجميلة في الجنوب الغربي من ولاية الاباما في عائلة بروتستانتية متدينة. وكانت الإبنة الصغرى للمحامي (أماسا كولمان لي والسيدة فرانسيس كانينجهام). كانت نيلي الإبنة الصغرى في عائلة لها أربعة أطفال، ولد وثلاث بنات. عمل (أماسا كولمانلي) فترة موظفاً حكومياً، ثم أصدر جريدة كان هو صاحبها ورئيس تحريرها قبل أن يتفرغ لممارسة مهنة المحاماة.
كانت نيلي في الخامسة من عمرها في عام 1931 عندما جرت في بلدة سكوتسبورو (ولاية الاباما) محاكمة تسعة شبان سود بتهمة اغتصاب امرأتين من البيض، ورغم التقرير الطبي الذي أثبت أن المرأتين لم تتعرضا الى الاغتصاب، فإن المحكمة التي تشكلت من البيض حصراً، حكمت على جميع المتهمين بالإعدام باستثناء فتى قاصر كان في الثالثة عشرة من العمر. وعلى مدى السنوات الست التالية نظرت محاكم الاستئناف في الطعون المقدمة ضد الحكم الأولي، ونتيجة لذلك تم سحب معظم التهم والإفراج عن المتهمين ما عدا واحد منهم. تركت هذه المحاكمة اثراً لا يمحى في نفس الصبية نيلي.
بعدما أكملت دراستها في المدرسة الثانوية في مونروفيل التحقت بكلية هانتينجون للبنات في مونتغمري، وكانت لمدة عام رئيسة تحرير مجلة فكاهية تصدرعن الجامعة. ثم درست الحقوق في جامعة الاباما ولكنها تركت الدراسة، رغم أنها كانت طالبة واعية وناضجة التفكير. ثم قضت عدة أشهر في جامعة اكسفورد في انجلترا. لتعود بعدها للإقامة في نيويورك والعمل كموظفة حجز في شركة طيران حتى نهاية الخمسينات، وكانت لديها شقة خاصة متواضعة في نيويورك. وفي هذا الوقت نشرت عدة قصص قصيرة وكانت تسافر بين حين وآخر إلى مونروفيل لتقضي بعض الوقت في منزل العائلة، للاعتناء بوالدها المريض.
وذات يوم من شهر كانون الأول 1956، تلقت من صديقيها- مايكل براون، ووليام براون – مغلفاً فيه صك بمبلغ يعادل اجمالي راتبها السنوي مع رسالة يقولان فيها: ” لديك اجازة لمدة سنة كاملة، تستطيعين خلالها أن تكتبي ما تشائين. عيد ميلاد سعيد”.
في هذا الوقت كان ابن بلدتها وصديق طفولتها ترومان كابوتي قد أصبح كاتباً معروفاً. فقال لها والدها ذات مرة: “لعلك تدركين أنه لا يمكن لبلدة صغيرة مثل مونروفيل أن تخرج كاتبين مشهورين في آن واحد. لم تضيّع هاربر لي فرصة التفرغ لمدة سنة، كتبت خلالها روايتها الأولى ” أن تقتل طائراً محاكياً” وتعالج فيها قضية الفصل العنصري التي عاصرتها في طفولتها ببلدتها (مونروفيل).
أحدثت الرواية ضجة عند نشرها في عام 1960، أي في الوقت المطلوب تماماً، عندما أصبحت هذه القضية الشغل الشاغل للرأي العام الأميركي.. وهذا أمر نادر الحدوث بالنسبة لعمل أدبي.
لقي الكتاب ترحيبا حاراً من ألمع نقاد الأدب، وبقى 848 أسبوعاً على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. وحازت هاربر لي في عام 1961 عن هذه الرواية على أعلى جائزة أدبية في أميركا وهي جائزة (بوليتزر).
في العام التالي (1962) حقق الفيلم المقتبس من الرواية نجاحاً مذهلاً. وبعد عرض الفيلم هرع حشد من الشبان للالتحاق بكليات الحقوق في الجامعات الأميركية، فقد أرادوا أن يصبحوا بعد التخرج على غرار الرجل الشهم والنبيل المحامي أتيكوس فينتش (بطل الفيلم). وأصبح اسم أتيكوس النادر شائعاً في أميركا منذ ذلك الحين. وفاز الفيلم بثلاث جوائز أوسكار بضمنها جائزة أفضل ممثل حصل عليها غريغوري بيك عن دوره في الفيلم حيث جسد شخصية المحامي أتيكوس فينتش.
يعد هذا الفيلم واحداً من أعظم الأفلام في تأريخ السينما. كما احتل غريغوري بيك – عن دوره في تجسيد شخصية اتيكوس فينتش – الموقع الأول في اللائحة التي اعدها معهد السينما الأميركي عن أفضل الممثلين الذين قاموا بأدوار البطولة في السينما الأميركية .
صرحت هاربر لي في عام 1964، بأنها لم تكن تتوقع لروايتها النجاح، قائلة: “كنت آمل لها موتاً سريعاً ورحيماً على يد النقاد، لكن في الوقت ذاته تمنيت أن تعجب شخصًا ما، بشكل كاف حتى يشجعني، تمنيت القليل ونلت الكثير جداً، وبشكل ما كان هذا مرعباً ، مثل ذلك الموت السريع والرحيم الذي توقعت.
ما الذي يميز هذه الرواية الرائعة، التي يتوهم البعض أنها رواية للأطفال، لأننا نرى فيها عالمنا بعيون الأطفال. وهي ليست رواية سيرة ذاتية، بل تصوّر بعمق، وبأسلوب أدبي جميل، محاكمة فتى زنجي بريء متهم باغتصاب امرأة بيضاء. وتروي إحدى مآسي الفصل العنصري في ولاية الاباما. وكان للرواية تأثير هائل في الرأي العام الأميركي وأصبحت أداة في النضال ضد شتى أشكال التمييز العنصري، وما زالت تحظى منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا بمقروئية عالية في كل أنحاء العالم…
كان المجتمع الأميركي في الثلاثينات من القرن الماضي يقسم الناس الى بيض وسود أي الى أخيار وأشرار، لكن محاكمة توم روبنسون التي نراها في الرواية بعيون الإطفال – وخاصة الطفلة جان لويز – شكلت نقطة تحول في النظر الى قضية التمييز العنصري. رؤية الإطفال لسير المحاكمة، تعكس بجلاء موقف المؤلفة من هذه القضية. كان الجميع على قناعة تامة، أن الدفاع عن الفتى الأسود توم روبنسون قضية خاسرة مسبقاً. وكان بطل الرواية، المحامي (اتيكوس فينتش) يعرف هذا. ولكنه مع ذلك صمم على القيام بواجبه الأخلاقي والدفاع عن العدالة بدفاعه عن توم، ورد الاعتبار إليه.
قتل توم بينما كان يحاول الفرار. ولكن الفكرة التي نراها مجسدة في الرواية هي أن الناس، عموماً، أخيار وإن كان بينهم قلة نادرة من الأشرار. وهذه الفكرة هي التي تسبغ على كلمات أتيكوس قوة مؤثرة: ” الشجاعة – هي أن تعلم مسبقاً أنك ستخسر، ومع ذلك تصمم على أداء واجبك حتى النهاية.لأن النصر ممكن أحياناً، رغم أن ذلك يحدث نادراً”.
يًعبر اسم الرواية ” أن تقتل طائراً محاكياً ” عن فكرتها الرئيسية. الطائر المحاكي – على درجة من الوَداعة لا مثيل لها، لا ينقر الثمار في الحديقة، ولا يبني عشاً على شجرة، وهو غريد متميّز بقدرته البارعة على محاكاة أصوات الطيور الأخرى، وادخال السرور إلى قلب الإنسان بغنائه الشجي، لذا فإن قتل هذا الطائر الفريد – خطيئة. أتيكوس فينتش حاول إنقاذ حياة الطائر المحاكي – توم روبنسون البريء، والدفاع عن حقه في الحياة وعن كرامته، والتصدي للكراهية والتمييز بين البشر، والدعوة الى المحبة والعدالة.
الرواية حركت الرأي العام الأميركي “للوقوف بوجه كل أشكال التفرقة العنصرية . وصدرت في طبعات جديدة متلاحقة بين فترة وأخرى. وما زالت منذ ذلك الحين تلقى رواجاً عظيماً في شتى بلدان العالم، حيث بيع منها منذ صدورها لأول مرة وحتى الآن حوالى ثلاثين مليون نسخة . وحسب استبيان أجرته مجلة (المكتبة) الأميركية بين القراء تبين أن ” أن تقتل طائراً محاكياً ” هي أفضل رواية في القرن العشرين”.
نالت هاربرلي شهرة غير متوقعة وصاخبة الى درجة أنها هربت منها الى بلدتها الأم مونروفيل في ولاية الاباما، والتي وصفتها بشكل رائع في روايتها، حيث عاشت فيها معظم حياتها.
وكان الناس يعتقدون أنها توفيت منذ زمن طويل ولكن كاتب سيرتها الذاتية تشارلز شيلدز قال في مقابلة صحافية عام 2006 إنها على قيد الحياة وتشارك بنشاط في الأعمال الخيرية لكنها ترفض لقاء الصحافيين، ولا تشارك في الحياة العامة ولم تجر أي مقابلة صحافية منذ عام 1965. وطوال أكثر من نصف قرن لم تكتب هاربر أي اعمال ابداعية جديدة، ما عدا بعض المقالات في اوائل الستينات. ولهذا فوجئ الجميع بالإعلان عن ظهور رواية ثانية لها تحت عنوان” فلتعين لنفسك حارساً”. ويرى معظم النقاد أنها ليست رواية جديدة تماماً، لأنها كتبت في عام 1957. وهي على الأرجح مسودة الرواية الأولى. ولكن من يقرأ الرواية الجديدة بإمعان سيكتشف أنها جزء مكمل لرواية “أن تقتل طائراً محاكياً”.
في الفصل الأول من “فلتعين لنفسك حارساً” نرى جان لويز شابة تبلغ من العمر 26 عاماً – تصل بالقطار الى مسقط رأسها مدينة (ميكومب)، من اجل التأثير في والدها – اتيكوس فينتش، الذي يرفض أن يتقاعد على الرغم من تقدمه في السن. صديقها هنري كلينتون – شاب يسعى لخطبتها – يستقبلها في محطة القطار. “عانقها بقوة بين ذراعيه المفتولتين ووضعها أمامه. أخذ يقبلها في البداية في شفتيها، ثم بلطف في خدها. قالت جان لويز وهي تحاول إغاظته، إنها لا تمانع أن يكون صديقاً لها، ولكنها لا توافق على الاقتران به . كانت تحبه تقريباً. “كلا هذا غير ممكن – فكرت بينها وبين نفسها – أنتِ إما مغرمة به أو غير مغرمة. الحب – الشيء الوحيد الواضح في هذا العالم. بالطبع هناك أنواع مختلفة من الحب، ولكن مهما كان شكله. فإن الحب إما أن يكون أو لا يكون”.
هنري كلينتون إحدى الشخصيات الجديدة في “فلتعين لنفسك حارساً”، في حين اختفت من الرواية بعض الشخصيات الإخرى. فعلى سبيل المثال (جيم)، شقيق جان لويز، وهو أحد الأبطال في رواية “أن تقتل طائراً محاكياً” مات مبكرا في الرواية الجديدة، ومع ذلك فإن أقوى صدمة للقراء هي التغيير الذي جرى في شخصية البطل الرئيس في الروايتين (اتيكوس فينتش) البالغ من العمر 72عاماً، الذي أحبه القراء في الرواية الأولى، لأنه كان انساناً مبدئياً ومثالياّ، يؤمن ايماناً راسخاً بالعدل والإنصاف. أما في الرواية الثانية “فلتعين لنفسك حارساً” فإنه يبدو عنصرياً. فهو يقول مثلاً “الزنوج المحليون كشعب ما زالوا في مرحلة الطفولة”. أو أنه يسأل ابنته: “هل أنتِ على استعداد لقبولهم في عالمك”. وجان لويز العائدة من نيويورك الى الجنوب تجد أن وجهات نظر والدها وصديقها هنري كلينتون حول مشكلة العنصرية تختلف اختلافاً كبيراً عن وجهة نظرها .
“فلتعين لنفسك حارساً” عنوان مقتبس من أحد نصوص الكتاب المقدس، بمعنى “أن كل إنسان هو حارس ضميره ، ولا يوجد أي ضمير جمعي” وهذا ما قاله احد أبطال الرواية (جيم) لجان لويز. والذي يلخص معنى الرواية تماماً.
وقد نشرت صحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية الفصل الأول من الرواية الثانية. وحسب الحجوزات المسبقة في شركة (امازون) تصدرت “فلتعين لنفسك حارساً” مبيعات الكتب. وفي بلدتها الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها 5300 نسمة فإن متجر الكتب فيها تلقى طلبات لحجز 7000 نسخة منها. ولأول مرة منذ سنوات طويلة أجرت هاربر لي لقاءً صحافيا وسمحت بتصويرها وتلقي التهاني.
في عام 2007 اصيبت هاربر لي يجلطة في الدماغ، وشقيقتها الكبرى اليسا التي كانت تدير شؤونها توفيت في نهاية عام 2014 عن عمر ناهز 103 سنة، بعدها لم تتواصل هاربر لي مع العالم الخارجي. واعلنت بلدية مونروفيل عن وفاتها في 19 شباط 2016.
رحلت الروائية التي اسرت قلوب الملايين من قراء رائعتها “أن تقتل طائراً محاكياً”. وما يزال الجدل محتدماً في الأوساط الأدبية في أميركا وأوروبا واليابان ودول أخرى حول الرواية الثانية. هل هي مسودة الرواية الأولى، أم تكملة لها، ولماذا دب الخلاف بينها وبين صديقها وابن بلدتها الكاتب ترومان كابوتي بعد فوزها بجائزة (بوليتزر) في عام 1961. وماذا يقول القراء العاديون في انحاء العالم عن الرواية الثانية. هذه مسائل يضيق عنها المجال هنا، وقد نعود اليها في مقال قادم.