” الشجرة القزمة” لرامونا صفير… فصول حياة  سطرها الألم بحبر الرجاء

ramona 1

رامونا صفير

 كلود أبو شقرا

ما إن دخلت الزمان والمكان حتى أثقلت بأمراض وعاهات وإعاقات جسدية تتآكلها مع الزمان، إنها رامونا صفير الفيلسوفة ببساطة أفكارها النابعة من تجاربها اليومية مع الألم والمعاناة، المؤمنة بقوة بأن الله يعطي الحياة اليومية البسيطة والمعقدة معنى وهدفاً وقيمة… الكاتبة التي دونت تجربتها في كتاب “الشجرة القزمة” الصادر حديثاً عن “دار سائر المشرق”. 

 “ها هي الفأس على أصول الشجر. فكلّ شجرة لا تعطي ثمراً جيداً تقطع وترمى في النار” (متى  3 : 10) هذه الآية من الكتاب وغيرها من الآيات حول الشجرة، أقلقت رامونا صفير وكانت المنطلق لها لحياة جديدة مثمرة،   رافضة بحزم أن تكون ضحية الظروف وأن تعيش على  هامش الحياة تتفرج على الأيام وهي تمضي مثقلة   بالأحزان…

 كانت في عامها الرابع عشر عندما أقلقتها الفأس المسلطة على جذع الشجرة التي لا تثمر ثماراً جيدة، فدخلت في تماس مع فن تقزيم الأشجار (بونساي bonsai)، المعروف  منذ آلاف السنين في الصين في معابد الرهبان البوذيين، ثم انتقل هذا الفن إلى اليابان وأوروبا… أصبحت  هذه الشجرة محط الأنظار لأنها مختلفة عن الشجرات الطبيعية، ويحرك اختلافها مشاعر كثيرة ومتنوعة سلباً وإيجاباً، وتبقى على ثقة بأن البستاني يعرف ماذا فعل. رامونا هي “الشجرة القزمة” التي آمنت بالبستاني… قزّم جسدها، أوجعها، لكنه صنع منها جوهرة فريدة سيدوم شعاعها طويلاً، وطويلاً جداً.

:تعيش رامونا حياتها في تحد قوي وصلب مع المرض، لم تستسلم للآلام، تعيش كل لحظة برغبة كبيرة  للحياة. جسدها المريض لم ينكسر أبدأً…  عملت في حياكة الصوف وتعلمت من والدتها استخدام ماكينة الخياطة وبدأت تبتكر تصاميم انطلاقاً من تفصيلات من محلات متخصصة تكيّفها لحاجتها وأذواقها بطريقة تخفي تشوهات جسدها، وتشتري أحذية وتعيد تصنيعها بحسب ذوقها…

guilaf shajara

ولجت مجال الرسم، ومعه  اكتشفت تفاعلها مع مزج الألوان، وتحايلت على ضعف حركة ذراعيها ويديها لترسم خطوطاً تشكل مشاهد وصوراً ملونة، ودربت أصابعها على التحكّم بالريشة. تعلمت الرسم على الزجاج ورسمت مشاهد من الطبيعة اللبنانية .

لم تسمح لأفكار المرض والإعاقة والتشويه والموت بالتسرب إلى نفسها، قررت أن جسدها وحده مشوه ومريض وأن نفسها سليمة. صادقت الكتب وعلمتها المطالعة فكر الآخر وأنها آخر مختلف، وتأملت ونقلت  لأهلها ما تعلمت.

عدم خجل والديها بها  ومحبة افراد عائلتها، أمداها بقوة ساعدتها على الاستمرار في مسيرتها نحو التغيير.  تواصلت مع الناس على اختلاف اهتماماتهم، وانتقلت للسكن في بيت المعوقين وعاشت تجاربهم وطلبت من الله ألا يسمح بأن تنكسر نفسها… تجربتها الفريدة وعشقها للحياة لمسا الآخرين بشعاعهما الدافئ الذي يعري النفس البشرية ويعطي دروساً في العيش لا يمكن تعلمها في الكتب،  فآمن آخرون بها من بينهم المونسينيور يوحنا كوكباني الذي شجعها على الكتابة، ونشر مقالاتها في مجلة الرعية،  فلفتت بأسلوبها البسيط والمختصر والشفاف.

تشعر رامونا  بحاجة ماسة لجعل الله بينها وبين الآخرين، ويساعدها روح الله لتكون صادقة مع ذاتها ومع الآخرين. لا تمل من تحويل وضعها إلى طاقة إيجابية، صحيح أن الجلوس في السرير مؤلم جداً، لكنها تعتبره سفينة  عبرها تسافر حول العالم، وهي تشاهد التلفزيون.

أقامت رامونا علاقة جميلة مع الأيام، فهي تحمل إليها باستمرار مفاجآت تدفعها قدماً إلى الأمام، ففي عام 1991 أهدتها راهبة فرنسية مقعدا كهربائياً متحركاً، وقد فتح لها هذا المقعد طرقاً كانت مغلقة، خرجت إلى الشارع ورافقت والدتها في الزيارات وتجولت في الأزقة.

في صيف 1997، على اثر تدهور في حالتها الصحية،  صارت تتنفس بواسطة ثقب في القصبة الهوائية مزودة بآلة تتنفس عنها عندما تغفو وتزودها بالأوكسجين. مرة جديدة، صرخت إلى الله أن يشفيها من المرض والإعاقة، واكتشفت أن دعوتها أن تحب الله وقريبها أيا كانت ظروف حياتها في هذا العالم. مرة جديدة نادت الله طالبة منه أن يخلصها من ضعفها ويضاعف قدرتها على احتمال الضيق. مرت سنوات وهي تجاهد لتبقى  على قناعتها بأن الله اختارها لتحيا بجسد مكسور.

بثقة وإيمان ورجاء تمنت الخروج من دوامة الألم، وعندما تستيقظ في صباح كل يوم جديد، تختار أحد أمرين: أن تستمر في النوم وتتألم أو تجلس وتتألم… كثر الحزن  عليها حتى الموت وعزاؤها أن القيامة آتية…

رامونا صفير، كتاب  مفتوح لا تنتهي فصوله، فريد من نوعه، ينبض بمشاعر وأحاسيس تدخل إلى عمق الوجدان، من كل ألم تستخلص عبرة، وفي كل مرة تصبح حياتها مهددة، تتسلح بالإيمان وتقف في وجه قرارات الأطباء الذين  أجمعوا، كثر من مرة، بأنها لن تعيش كثيراً، مع ذلك مستمرة لغاية اليوم في مغامرة الحياة برجاء وتفاؤل وإبداع.

في تقديمها للكتاب كتبت الشاعرة نهاد الحايك: “اكتشفت في تفاصيل حياتها عمق عناية الله بها، فكتبت عنها لاعتقادها بأن الآخرين قد يجدون ما يحاكي تجربتها من أوجه ضعف في حياتهم فيسمحون لله بأن يستخدمها للخير. شهادة صادقة ومؤثرة متخمة بجراح الألم والأسئلة ومحلقة بانطلاقة الروح والفكر وحتى مطعمة أحياناً بالظرف والفكاهة، أسلوبها مباشر واضح شفاف، كلماتها تشهد لقوة الإرادة التي تغلب السقوط، بالرجاء الذي يغلب الموت، بالمحبة التي تثمر عطايا كثيرة”.

اترك رد