“لا تخف ايها القطيع الصغير” عنوان المحاضرة التي ألقاها المونسنيور بولس الفغالي، ضمن الحلقة الثانية في مدرسة الخوري يواكيم مبارك في دير سيدة قنوبين، استهلّها بالإشارة إلى كتابات الرحالة الأجانب الذين زاروا الوادي المقدس، وسجلوا انطباعاتهم عن بطاركة قنوبين . وحدد خصائص الروحانية المارونية بالايمان، والفقر، والصليب، والتعبد لمريم العذراء، والارتباط بكرسي بطرس الروماني، مما جاء فيها:
الغلبة لمن يؤمن بيسوع ، بهذا الكلام حدّث يوحنا الرسول ابناءه . تريدون ان تنتصروا ؟ آمنوا. والايمان هو ثبات في الله مهما كانت الظروف . هذه هي الروحانية المارونية التي دفعت بالرهبان والمؤمنين أن يتركوا سهول سورية الخصبة ويصعدوا إلى الجبال ، وألا يخسروا ايمانهم ، كما خسر الملايين في هذا الشرق من الهند إلى السودان…
روح الفقر صفة أساسية في المسيحية، والذين زاروا جبل لبنان يعرفون أن الموارنة كانوا فقراء أو بالأحرى كانوا ينظمون حياتهم بحيث يستطيعون الصلاة : “أعطنا خبزنا كفاف يومنا ” . وهذا التخلّي عن كل شيء يتسم بالفرح . علّمنا يسوع : “انتبهوا تحفّظوا من كل طمع ، فما حياة الإنسان بكثرة أمواله “. كلنا يعرف كيف أن المال يبعد الأخ عن أخيه ، والراهب عن إخوته وكذلك الكاهن ، هذا عدا روح الحسد الذي يملأ القلوب ويطلق الألسنة في كل جهة . أما روح الفقر فعلّمت المؤمنين في هذا الجبل ، التعاون والمشاركة والثقة المتبادلة . تلك كانت حياة الكنيسة الأولى : كل شيء كان مشتركاً بينهم ….
من أراد ان يتبعني يحمل صليبه . حين أطلق يسوع رسله، أفهمهم ماذا ينتظرهم من صعوبات، ” من لا يحمل صليبه ويتبعني لا يستحقني”، هذا ما اختاره الموارنة حين أتوا إلى هذا الجبل والتجأوا إلى هذا الوادي . كم كانوا ارتاحوا لو أنهم جاروا الغلاطيين الذين سمعوا من اليهود وأمّنوا على حياتهم ، وراحوا ينسون عالم الشرق فجعلوا المصلوب فوق الصليب ، ورفضوا أن ينزلوه ليكون حاضراً أمامهم . بالنسبة إلى الموارنة الذين عرفوا الصعوبات على هذا الجبل . لم يعتبروا الصليب جهالة، ولكن بما أنهم تأكدوا أن هذا الصليب خلّصهم ، نالوا قوّة الله …
مريم حارسة كل مقام بطريركي : سيدة يانوح في جرد العاقورة ، وسيدة ميفوق في أعالي جبيل ، وسيدة قنوبين في الوادي المقدس ، وأخيراً سيدة الديمان وبكركي . واذا زرنا الرعايا والأديار، لا يمكن إحصاء الكنائس على اسم السيدة، كل مارونيّ ، كما كل مسيحي في هذا الشرق ، يرضع حبّ مريم مع حليب أمه… أاين هي صورة مريم ؟ على الكتب . فوق السرير، وحين يهاجر المارونيّ يأخذ معه أول ما يأخذ صورة مريم العذراء . هي الرفيقة التي لا نتخلّى عنها . هي الأم التي يسعنا حضنها فنحسّ بالحنان والمحبة …
المارونية الآتية أساساً من سورية ، من مارون على مستوى الروح ومن سمعان العموديّ وتلاميذه وخصوصاً ابراهيم ، على مستوى التبشير، فنقلوا الجبل اللبنانيّ من الوثنية إلى المسيحية ـ نتذكّر أن معبد أفقا لبث حاضراً حتى القرن العاشر ـ هذه المارونية طبعت بطابعها الجبل . والموارنة انعزلوا في الجبل الحصين وكانت قلاعهم الهامّة: اهدن وحدث الجبة وغيرهما التي اقتحمها المماليك وهدموها . رفض الموارنة ان يرتبطوا ببيزنطية ، لا سيما وأن بطرك انطاكية لجأ إلى هناك ليحمي نفسه تاركاً شعبه وحده . ورفضوا أيضاً الارتباط بالسريان الخاضعين لحكم الخلفاء فيمضي بطريركهم ويأخذ السماح منهم ليمارس خدمته مع شعبه . وحاولوا قدر الامكان أن يبعدوا عنهم الغازي العثماني . يدفعون ما عليهم من المال ويعيشون في جبلهم أحراراً . وتطلّعوا الى رومة، إلى البابا الذي هو اسقف العالم الكاثوليكي كلّه . انفتحوا على رومة وأعلنوا : ” ايمان بطرس إيماننا”. حاولوا أن يعيشوا مثل الجماعة المسيحية الأولى التي كانت ترافق الرسل وبطرس أوّلهم …
المسيحيون في كورنتوس أم في لبنان أم في أي موضع من العالم أضاعوا البساطة والتواضع ، أضاعوا روح الاتفاق . أين روح المحبة التي كانت علامة المسيحيين الأوائل التي جعلت الناس يقولون: ” انظروا كم يحب بعضهم بعضاً!” ما الذي دمّر رومة الامبراطورية ؟ الحروب والانقسامات بين الزعماء ، خصوصاً حين صار أكثر من زعيم يتقاسمون الحكم ، بل يتناتشون الحكم . كان الموارنة حول بطركهم واساقفتهم العائشين معاً كما في الأديار . يقومون صباحاً ويصلّون معاً فيكونون مثالاً للرعايا . والرعية أيضاً بعد الصلاة والقداس الصباحي، يمضي الفلاح الى أرضه ويعود حوالي الظهر . وبعد الظهر يغوص في قراءة الكتاب المقدس . فبعد مائدة الطعام والشراب، هي مائدة الكلمة التي هي لهم النور والحياة . نور الطريق بالرغم من الظلمة التي يجعلها الحاكم العثماني في هذه الأقطار التي تسندها دول أوروبا وتسمّيها “الرجل المريض”، وحياة مليئة بالبركة بالرغم من الموت الذي يخيّم في كل مكان بسبب جور الحكام …
هؤلاء هم الموارنة الذين تحمّلوا كل شيء للحفاظ على إيمانهم . وما خلفوا يوماً لأنهم أقلية وسط أكثرية . هل نحتاج إلى خمير كثير لتخمّر العجنة كلها ؟ والموارنة الذين وصل بطريركهم بعد مطاف طويل إلى وادي قنوبين، اختاروا أن يحملوا الصليب ويسيروا وراء الرب يسوع .
وثائقي حول معالم الوادي.
بعد المحاضرة عرض فيلم وثائقي يتناول معالم الوادي المقدس الروحية، بنص علمي تاريخي للمطران ناصر الجميّل، إحراج ميلاد طوق، بدعم من نوفل الشدراوي، رئيس “رابطة قنوبين للرسالة والتراث”، ضمن مشروع المسح الثقافي الشامل لتراث الوادي المقدس ، الذي تحققه الرابطة .
كلام الصورة
1 ـ المونسنيور بولس الفغالي محاضراً .