مستقبلنا الذي نجهله … رغم أحلام التغيير

الباحث خالد غزال

الحديث عن المستقبل يتصل وثيقاً بمجريات الحاضر في عالمنا، الذي يشهد تحولات khaled-ghazalجذرية في كل الميادين. هذا المستقبل يبدو أنه سيكون مختلفاً عن أي شيء عرفناه في الماضي، في الكم وفي النوع، بل إن كل ما عرفته البشرية من تغيرات ثورية في مختلف المجالات لا يوازي القليل من التوقعات المستقبلية للتحولات العالمية.

يسلّط الكاتب الأميركي آل غور، الضوء على العوامل التي ستحدّد مسار مستقبل العالم والبشرية في كتابه:”المستقبل، ستة محركات للتغيير العالمي» الصادر في جزئين عن سلسلة «عالم المعرفة”، مع الإشارة الى أن آل غور سبق له أن شغل منصب نائب الرئيس الأميركي.

المحرّك الأول يتّصل بنشوء اقتصاد عالمي مترابط وفي شكل عميق، تعبّر عنه الشركات العالمية العابرة للقارات، وتدفقات رأس المال، والسعي الى توحيد السوق العالمية. من مظاهر التطوّر، أن عدداً كبيراً من شركات المشاريع الكبيرة حقّق نجاحاً عبر «استخدام شبكات عنكبوتية معقّدة من سلاسل التوريد، التي تربط المئات من الشركات الأخرى في عشرات البلدان». نتيجتان بارزتان تؤشران الى هذه التحولات، الأولى هي أن الشركات الكبرى باتت تستخدم الروبوتات التي حوّلت الوظائف البشرية من الإنسان الى العمليات الآلية وبرامج الكومبيوتر.

أما النتيجة الثانية، فهي اعتماد الاقتصادات الصناعية على اليد العاملة الخارجية في مجالات متعددة، وهو أمر يطرح مسألة تتعلق بالمهاجرين والعمالة غير الشرعية، ناهيك عن المعضلات الاجتماعية التي يثيرها هذا الاستيراد البشري ومسألة حقوق اليد العاملة، والأثر في النسيج الاجتماعي أو الفوضى التي يمكن أن يسبّبها. في كل الحالات، سيؤدي الاقتصاد العالمي الى إلغاء موقع الدولة الوطنية والقومية ومسألة الحماية لإنتاجها، الى حدّ بعيد، بالنظر الى صعوبة الوقوف في وجه الإنتاجية واكتساح الشركات للأسواق العالمية من دون قيود.guilaf moustakbal

المحرّك الثاني للمستقبل يتعلّق بما أنتجته الثورة العلمية التكنولوجية، خصوصاً ظهور شبكات اتصالات إلكترونية على نطاق الكوكب كلّه. ليس مبالغة وصف أثر هذه الثورة بأنها حوّلت العالم الى «قرية صغيرة»، ألغت مفاعيل الزمان والمكان. فالثورة الإلكترونية أدت الى أن مليارات البشر بات بإمكانهم التواصل في ما بينهم من خلال الشبكات العنكبوتية، وبات كل فرد قادراً على الوصول الى الكم الهائل من المعلومات والبيانات.

فهذا التحوّل الثوري في الاتصالات العالمية ودورها الفكري، يجعل من مقولة الوصول الى عقل عالمي مقولة قيد التحقّق. ستغير هذه الثورة من عمل وسائل إعلامية وفكرية كانت ولا تزال الى حدّ بعيد، تمارس دوراً مهماً في صناعة الحاضر.

المحرّك الثالث يتّصل بالنتائج السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والعسكرية لموازين القوى العالمية. هذا التوازن سيكون مختلفاً عما عرفه القرن العشرون في نصفه الثاني، حيث سيتحوّل ميزان القوى بين الدول في شكل كبير. سابقاً، أدت الثورة الصناعية الى هيمنة أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية على الاقتصاد العالمي، لكن ظهور «شركات الأرض» العابرة للقارات بدأت تحوّل القوة الاقتصادية من الغرب الى الشرق، وأكبر الأمثلة الدور الهائل اقتصادياً للصين، التي باتت تتفوّق على الولايات المتحدة كمركز ثقل في الاقتصاد العالمي، ناهيك عما تمثّله اليابان وحتى الهند. غيّر «ظهور العقل العالمي» الكثير من الافتراضات الاجتماعية والسياسية التي استند إليها نظام الدولة القومية.

المحرك الرابع يتناول طبيعة النمو الحاصل في السكان والمدن واستهلاك الموارد واستنزاف التربة ومنابع المياه العذبة وأنواع الكائنات الحية وتدفّقات التلوّث… هذا النمو غير المسبوق للحضارة البشرية، يتصادم عملياً مع حدود الموارد الطبيعية الرئيسية التي تعتمد عليها حياة مليارات البشر. على رغم هذه الأخطار، فإن «النمو»، بالوسائل المعتمدة، لا يزال الهدف الأساسي والمهيمن تقريباً على معظم السياسات الاقتصادية، الوطنية منها والعالمية.

المحرّك الخامس يتعلّق بما أنتجته الثورة التكنولوجية من تقنيات قوية في مجال البيولوجيا وعلوم الكيمياء الحيوية والجينية، «وعلوم المواد التي تمكّننا من إعادة تأسيس التصميم الجزيئي لجميع المواد الصلبة، وإعادة حياكة نسيج الحياة نفسها، وتغيير الشكل المادي والسمات والمميزات، وخصائص النباتات والحيوانات والبشر، واستحواذ السيطرة الفاعلة على التطوّر، وتخطّي الحواجز القديمة التي تفصل بين الأنواع، وابتكار خطوط جديدة تماماً لم يسبق تخيّلها على الإطلاق».

هكذا، للمرة الأولى في التاريخ، يخلق العالم الرقمي للبشر قدرة جديدة على تغيير تكوين الكائن البشري، وإعادة اكتشاف الحياة والموت. على رغم ما تقدّمه هذه الثورة في علوم الجينات من تفاؤل في التغلّب على الكثير من الأمراض والأوبئة، إلا أنها تثير في الوقت نفسه جدلاً أخلاقياً ودينياً يتّصل بالتحكّم في خلق كائنات بشرية أو في تغيير معالمها.

أما المحرك السادس والأخير، فهو المتّصل بالبيئة والأضرار التي تصيبها، فقد ظهرت بوضوح علاقة جذرية بين تطوّر الحضارة البشرية وبين آثارها في النظم الأيكولوجية للأرض، خصوصاً الغلاف الجوي والتوازن المناخي اللذين يعتمد عليهما ازدهار الجنس البشري. هكذا، نرى أن «القوة الناشئة والزخم المتسارع لشركة الأرض، والنمو السريع لأنماط استهلاك الموارد المدمّرة، وغياب القيادة العالمية، والحوكمة المختلّة وظيفياً للمجتمع الدولي، اجتمعت لإنتاج وابل من أشكال التلوّث التي تضرّ في شكل خطير بسلامة التوازن المناخي على كوكب الأرض».

يثير كتاب «المستقبل» شجوناً لدى المهتمين بمستقبل العالم العربي، الذي يبدو بعيداً، الى حدّ ما، من الثورة التكنولوجية والتقدّم االعلمي العالمي، ليبقى أسير تخلّفه المترجم راهناً بانبعاث مكوناته البدائية وتحوّلها حروباً أهلية طائفية وعرقية وإثنية، بما

اترك رد