داود رمال
يوم كان اللبنانيون يحاولون تلمس الطريق الذي يوصلهم الى ضوء في آخر النفق المظلم، شكل “مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية” مساحة حوار دائم. كان السباق الى تحفيز الافرقاء على المشاركة في ندواته ومؤتمراته من خلال حرفية انتقاء العناوين والمواضيع والمتحاورين. لم يكتفِ بالملفات اللبنانية، بل طرق ابواب القضايا العربية والاقليمية
لا شك في ان لبنان يؤثر ويتأثر بما يجري في محيطه. لذا ليس مستغربا ان تبقى الانظار متجهة اليه، وتتم ملاحقة نشاطاته وما يثار من حوله من اخبار واشاعات آخرها ما قيل عن توجّه الى اقفال “مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية”، بعد تسع سنوات من نشاط دؤوب لم يتوقف على مدار السنة، ندوات وحلقات مغلقة ومؤتمرات، ناهيك بكّم من الكتب وثقت ما شهدته جدران المركز.
في حوار مع “الامن العام”، تحدث المدير العام للمركز السفير الدكتور عبدالله بوحبيب عن التجربة في حصيلة عصارة السنوات المنصرمة.
* ادى “مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية” دورا في وضع القضايا والملفات ذات الطابع الخلافي على طاولة النقاش من خلال الرأي والرأي الآخر. ما الهدف الذي كان يصبو اليه؟
ـ هذا الهدف يعود الى عصام فارس شخصيا. فهو رجل ائتلافي يسعى الى التقريب بين الناس وليس طرفا. يعشق الحوار، وطلبه الوحيد عند انشاء المركز ان يكون للجميع، والكل مرحب به فيه.
* اي خلفية انطلقتم منها لمقاربة المواضيع المطروحة للنقاش؟
ـ نحن مجموعة نفكر في ما يجب طرحه. ثمة مواضيع آنية تطرح للبحث ونضيء عليها من خلال الندوات. هناك مواضيع اساسية نعقد حولها مؤتمرا، ونستضيف شخصيات من الاطراف جميعا، ومن ثم نصدر كتابا يتضمن كل ما دار في المؤتمر. كذلك نوثق الندوات في كتاب. في البداية اثرنا القضايا اللبنانية لان الوضع العربي لم يكن كما هو حاليا، ومن ثم بدأنا طرح القضايا الاقليمية مع بدء الانتفاضات في الدول العربية. هكذا صرنا نصدر سنويا كتابين، اول للقضايا العربية وثان للشؤون اللبنانية.
* استضفتم شخصيات من خلفيات عدة مدنية وامنية وعسكرية ودينية وديبلوماسية وغيرها، ما الفائدة الوطنية المحققة؟
ـ كل الندوات كانت مساحة حوار بين المنتدين والحضور، بما يعبر عن حقيقة اللبناني ذي الشخصية الحضارية القادرة على الحوار والنجاح فيه. لا يعني ذلك اننا توصلنا الى نتائج، انما عرض وجهات النظر كان يحدد المشتركات.
* قاربتم مواضيع حساسة تتصل بالشأنين الداخلي والخارجي. هل تمكنتم من احداث خرق يؤدي الى مشتركات بين ضفتي الانقسام اللبناني؟
ـ بدأنا بآلية تثير هذه المواضيع. مثلا كنا اول مَن اثار قانون الانتخاب وكرت السبحة من بعدنا، واول من اثار موضوع الوجود المسيحي ودوره وعقدنا مؤتمرا كبيرا حوله، ومن ثم طرح آخرون الموضوع. نحن مَن اثار وضع الفلسطينيين في المخيمات على اساس انه خطر على انفسهم وعلى لبنان والمنطقة، وفي نتيجته جرى نقاش كبير على المستوى الوطني، وتم تسهيل بعض الامور والتوصيات التي خرج بها المركز وكانت ذات بعد ايجابي دفع في اتجاه جعل اللاجئين الفلسطينيين قسما من البلد، على اساس ان هذا اللاجئ اذا حصل على حقوقه المدنية لا ينتقص من السيادة انما العكس صحيح، والتقصير هو من الفلسطينيين لان ما يسيطر عليهم هو “العسكريتاريا” اكثر من سيطرة القوى المدنية. لو كانوا يريدون ذلك لكانوا بادروا هم الى محاورة اللبنانيين وطمأنتهم. اما مَن هم خارج المخيمات، فليسوا القضية لانهم رجال اعمال وميسورون ولديهم تأشيرات سفر.
* هل زودتم المؤسسات المعنية، رسمية وغير رسمية، والبعثات الديبلوماسية نتائج ما توصلتم اليه حول كل موضوع تم طرحه؟ هل تمت الاستفادة من ذلك في صوغ توجهات وقرارات وطنية؟
ـ نحن نعمد الى ارسال الكتب التي نصدرها الى المسؤولين جميعا، لا سيما رئيس الحكومة والوزراء. كنا نرسل كتبا الى البعثات الديبلوماسية، لكن وزارة الخارجية اعترضت على ذلك فاوقفناه. علما ان هذه الكتب تباع باسعار رمزية في المكتبات اللبنانية حتى تكون في متناول الجميع، خصوصا الاساتذة والطلاب كونهم في حاجة الى الاطلاع عليها لمعرفة الحوار وكيفية ادارته.
* هل لاحظتم في محطات معينة انه يؤخذ بما توصلتم اليه من خلال مقاربتكم المواضيع اللبنانية والاقليمية والدولية؟
ـ في بعض الاحيان كان يؤخذ بها. للمناسبة نحن لا نصدر توصيات عن الندوات انما عن المؤتمرات. مثلا طرحنا موضوع الحياد والديموقراطية التوافقية، والكتب التي اصدرناها وسّعت كثيرا آفاق مَن قرأها.
* ما المساحة التي انتزعها المركز على مسرح الاحداث من خلال المواضيع التي طرحها، خصوصا انه يؤخذ على مراكز الدراسات المحلية انها لا تلعب الدور الذي تقوم به مراكز مماثلة في دول العالم؟
ـ اوضح شهادة حول ما نقوم به ان احد السفراء اللبنانيين المخضرمين قال لي بأن الحوار يحصل في مركزكم، وليس في مكان آخر. نجحنا في ادارة حوار بناء بين الجميع. المشكلة عندنا في لبنان، ان مراكز البحوث والفكر كثيرة، لكن كل مركز مرتبط بادارات خارجية. مثلا تريد جهة ما دراسة عن موضوع معين، يقوم مركز ما باعداد هذه الدراسة. لماذا؟ لانه لا توجد عادة تبرع في لبنان في هذا المجال. اما نحن فقد اعفانا الرئيس عصام فارس من هذا الامر، ولسنا في حاجة الى القيام بدراسات لاي مؤسسة اجنبية رسمية اوغير رسمية حتى نحصل على المال ونؤمن استمرارنا. هناك شخصيات كثيرة في لبنان في امكانها ان تقوم بما قام به الرئيس فارس، لكنها ليست جميعها تملك شخصية الرئيس فارس الذي لا يسأل عما نعمل. السقف الذي وضعه هو الحفاظ على جو الوحدة الوطنية والحوار الشامل، وان لا نكون طرفا، بل منفتحين على الجميع. قوة المركز لا تأتي من الدعم المالي الذي وفره لنا الرئيس فارس فحسب، انما من الدعم المعنوي ايضا.
* ما حقيقة ان المركز لن يستمر في اداء دوره، وان مصيره الى الاقفال؟
ـ ليس هناك قرار بالاقفال التام والنهائي. نحن مستمرون الى نهاية السنة الجارية، وسأجتمع مع الرئيس عصام فارس للتداول في امكان استمرار المركز مستقبليا. ليس هناك شيء اسمه اقفال. لكن ثمة بحث في ما يجب فعله كي نستمر.
* كيف تنظر الى مستقبل الوضع الداخلي في ظل العجز عن اتمام الاستحقاقات الدستورية، وفي مقدمها انتخاب رئيس الجمهورية؟
ـ انا اقارب الموضوع عبر النظر الى تاريخ لبنان منذ عام 1956، وهو تاريخ بدء النفوذ الاميركي في المنطقة. قبله كان النفوذ بريطانيا – فرنسيا. منذ ذلك الوقت الى اليوم، نجد ان لبنان نعم بعشر سنوات من الاستقرار، اي في عهد فؤاد شهاب والسنوات الثلاث الاولى من عهد شارل حلو، حيث كانت هناك حرية حقيقية، بدليل ان مَن عارض فؤاد شهاب استطاع اسقاطه رغم الحديث عما سمي المكتب الثاني. كان الامن متوافرا الى جانب الحرية، وهذا امر نادر في العالم العربي. قبل هذه السنوات العشر بسنتين، لم تكن الاحوال مستقرة ما بين عامي 1956 و1958، وبعدها كان عدم استقرار وحرب الى ان اتانا السلام السوري الذي وفر استقرارا امنيا وليس سياسيا لمدة خمسة عشر عاما (1990 ـ 2005). من عام 2005 الى اليوم نعيش في ظل عدم استقرار. عندما ننظر الى لبنان، والمنطقة ككل، اقول ان لدينا نعمة لا نعرف كيف نحافظ عليها. يظهر من تصرفنا اننا لم نتعلم ولم نتعظ من تجارب الماضي. لكن لم يفت الوقت، وفي الامكان التقاط الفرصة. ثمة عدم استقرار امني وسياسي بسبب الاتكال على الخارج بنسبة كبيرة، اضافة الى عدم وجود كل القيادات اللبنانية في الداخل لا يعكس استقرارا، تماما كما لم يعطنا استقرارا سياسيا في زمن السلام السوري في لبنان بسبب تغييب القوى المسيحية. عدم وجود الرئيس سعد الحريري في لبنان، على سبيل المثال، يؤثر على مجرى الاحداث والحوار القائم. ويا للاسف، بدلا من ان نعمل على تقوية النظام التعددي القائم على المشاركة في لبنان، ترانا نختلف عليه وعلى تطبيقه. علما ان تقوية التعددية تساعد على حل المشكلات في العالم العربي. ليس مقبولا كلبنانيين ان نوصل الاشقاء العرب الى القول ان الصيغة اللبنانية “غير ماشية”. هذا امر خطير، لان هناك دولا عربية لا تمشي الا بالتعددية. هذه التعددية ليست بالضرورة اسلامية – مسيحية، او سنية – شيعية. في بعض الاوقات قد تكون قبلية (نموذج ليبيا)، او عرقية. التعددية في العالم العربي تشمل الجميع. نحن لا نستفيد من صيغتنا ولا نفيد العالم العربي. لذلك يجب ان نحكم ضميرنا ونعمل على نجاح التعددية والديموقراطية اللبنانية، حتى تكون مثالا ايجابيا للدول العربية.
* هل من مخاوف اكبر مما هو قائم جراء الازمات المحيطة بلبنان؟ هل صحيح ما يروج له عن رسم خرائط جديدة؟
ـ اذا اخذنا ثلاث دول عربية حصلت فيها انتفاضات. تونس التي احسنت قواها العمل سويا لانتاج ديموقراطيتها رغم الخوف الكبير عليها، مصر حيث العسكر عاد للامساك بالسلطة، سوريا التي تخوض حاليا حربا طويلة لان النظام والمعارضة لا يعرفان معنى كلمة تسوية ولا احد يستطيع ان ينتصر على الآخر، يجب ان يعلم اللبنانيون جميعا من الطوائف جميعا ان ما من امكان للقول ان الامور تسوى كاملة في لبنان من دون تحقيق حد ادنى من الاستقرار في سوريا. ما يحصل هناك يؤثر علينا. هذه حال كل البلدان ذات الحدود المشتركة.
* هل لا يزال لبنان يتمتع بمظلة دولية حامية لوجوده واستقراره، على قاعدة ان له وضعا خاصا؟
ـ نحن نحبذ استعمال مقولة المظلة الدولية لتبرير الاتكال على الخارج. كوني عملت سفيرا وفي البنك الدولي، اعرف ان المظلة الدولية لا تعني شيئا، انما تعتمد على الواقع الداخلي. عندما تجد الدول المعنية بلبنان ان ثمة استقرارا فيه، تواظب على التحذير من زعزعة هذا الاستقرار. هذا لا يعني ان ايا من هذه الدول سيرسل جيشا للحفاظ على هذا الاستقرار. اذا اراد افرقاء لبنانيون زعزعته يستطيعون ذلك. من هنا اقول اننا نحن نفرض المظلة على العالم. مصلحة الجميع، لا سيما الخارج، الحفاظ على الاستقرار في لبنان.
* ما تأثير الملفات الخارجية، لا سيما الاتفاق النووي الايراني، على قضايا المنطقة ومنها لبنان؟
ـ يجب عدم تعليق آمال كبيرة على توقيع هذا الاتفاق بين ايران والدول الخمس زائدا واحدة. قد يؤدي لاحقا الى كبح اكثر لملفات المنطقة نتيجة اعتراض دول اقليمية عليه. القوى الاقليمية هي الاساس في ايجاد الحلول لقضايا المنطقة. حتى وان توافرت ارادة دولية لفرض الحلول، تبقى هذه الارادة عاجزة اذا لم تلاقها ارادة اقليمية، بسبب محدودية استخدام القوة. للدول الاقليمية قوتها التي تستطيع افشال اي حل لا تريده. لذا اعتقد ان كل ملف داخلي لدولة في المنطقة، ومنها لبنان، لا يحل الا من الداخل.
* ماذا عن خطر الارهاب، وما السبيل الى مواجهته لبنانيا عبر المؤسسات الرسمية العسكرية والامنية؟
ـ الجميع ضد التنظيمات التكفيرية الارهابية، وكذلك القوى الدولية. هذه التنظيمات غير مقبولة، وهي تستفيد من الخلافات المذهبية. مخطىء مَن يعتقد بان جبه الارهاب يتم عسكريا وامنيا فقط، لان دور المؤسسات العسكرية والامنية تنفيذ القرار السياسي في هذه المواجهة.
*****
(*) مجلة الأمن العام يوليو 2015