أحمد فرحات
ثمّة مهاجرون لبنانيون إلى الأميركيّتَيْن، تُطرَب إلى حديثهم، وتأنَس إلى مجالسهم، ولاسيّما إذا كانوا من الرعيل المزمن في بلاد الاغتراب، ويتمتّعون بثقافة كلاسيكية عتيدة، وذاكرة مجتمعية ووطنية في الصميم، لم تغيّرها البتّة أحوال الانتماء المخلص والحضاري إلى الأوطان الجديدة، مثل الصديق أسعد زيدان (مواليد رويسة البلّوط- جبل لبنان1933) المغترب إلى البرازيل منذ أكثر من 62 عاماً، والذي تضلّع من لغتها البرتغالية، قراءة وكتابة، على نحو ”يفوق حتّى الأدباء البرازيليّين الآخرين“، كما أفادنا بذلك د. هاني هزيمة، وهو مهاجر لبناني آخر إلى البرازيل، منذ أكثر من 30 عاماً، ويدرّس الأدب المقارن في جامعاتها.
.. والصديق أسعد زيدان، الذي يحرص على زيارة لبنان صيف كلّ عام، يعمل ممثّلاً تجارياً جوّالاً في الولايات البرازيلية، ويلتقي بالتالي بمختلف فعاليات الجاليات العربية فيها، بخاصّة اللبنانية والسورية، حيث كوّن مع بعض نخبها نواة لبداية لوبي عربي مؤثّر وفاعل في تلك البلاد الواسعة. وكان الرجل، ولا يزال، يكتب في صحف المهجر العربي البرازيلي، وفي الصحف البرازيلية القومية، ومنها صحيفة ”اليوم“ الصادرة في مدينة بيليم، عاصمة ولاية بارا البرازيلية، حيث شغل منصب محرّر باب السياسة الخارجية فيها.
دخل أسعد زيدان معترك الصحافة البرازيلية من بوّابة الأدب، والبحث النقدي في الأدب المهجري العربي، في شقَّيْ بلدان القارة الأميركية، وأصدر كتباً عدّة في هذا المجال منها: ”الناس والتاريخ“، ”أدب وأدباء المهجر البرازيلي“، ”آراء مغترب في اللغة العربية“، ”ألف كلمة عربية في اللغة البرتغالية“، ”سلاطين القرن العشرين“، وغيرها من مؤلّفات، الأمر الذي جعله على صلة تفاعلية بالعديد ممَّن عاصرهم من شعراء وأدباء المهجر البرازيلي الراسخين، وفي الطليعة بينهم، الراحل الكبير الشاعر رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي). كما كانت له صداقات قويّة مع كتّاب وروائيين برازيليين كبار، من أمثال جورجي آمادو.
وأسعد زيدان في المحصلة، رجل عقلاني، وفيلسوف حوار جدّي ومسؤول، لم يفقد البتّة ثقته بتحرير الإنسان العربي، مهما استبدّت به متواليات المحن على أنواعها وأشدّها هولاً وفجائعية. وهو عن قرب، شخص اجتماعي للغاية، ودود، فكِه، ذكي، مضياف ويستعذبه كلّ مَن يجلس إليه، منذ الإطلالة الأولى.
في أثناء إهدائه لنا العديد من مؤلّفاته، وذلك على هامش زيارته الأولى (والتي تكرّرت لاحقاً) لمكاتبنا في ”مؤسّسة الفكر العربي“ في بيروت، سألت الصديق أسعد هل كتب شيئاً عن حبيب أسطفان، أو ”ميرابو الشرق“، (1888- 1946)، هذا الأديب والخطيب اللبناني العجيب، والذي فهم حركة التاريخ على أنها توتّر نفساني أيضاً؟ أجابني على الفور: ” وهل باستطاعتي تجاهل مثل هذه القامة الأدبية والسياسية العربية الاستثنائية؟ نعم كتبت عنه..على الرغم من شحّ المعلومات المتوافرة حوله. فمعروف عنه (أي حبيب أسطفان) أنه لم يكترث لتراثه المتناثر، ولا لأوراقه الأدبية والسياسية الخطيرة، والتي يؤرّخ بعضها لمرحلة مهمّة جداً من تاريخ العرب الحديث، وخصوصاً إذا ما علمنا أنه كان أحد أكبر المستشارين المقرّبين من الملك فيصل بن الحسين في دمشق، ومن أشدّ الناس عداوة، وثورة على الاستعمار الفرنسي في العشرينيّات من القرن الفائت“.
ومن أسعد زيدان وكتاباته الموثّقة، عرفت أن حبيب أسطفان يتمتّع بذاكرة خرافية، وقدرة هائلة على حفظ الكلام الشعري والأدبي، وأنه أيضاً متضلّع كبير من اللغات الفرنسية والإسبانية والبرتغالية، وإلقاء الخطب بها في المناسبات السانحة.. وربما لأجل ذلك لقّبوه ”بميرابو العرب“، أو ”ميرابو الشرق“.
ويقول أسعد إن حبيب أسطفان، بعدما احتلّ الفرنسيّون لبنان وسورية سنة 1920، غادر دمشق سراعاً إلى مصر، ومنها إلى العالم الأميركي اللاتيني، فكانت كوبا محطّته الأولى، ومن ثمّ البرازيل، فالأرجنتين، ومنها عاد إلى روما لاستكمال دراسته محصّلاً الدكتوراه في جامعتها في العلوم السياسية. وبعد روما، كانت وجهته من جديد، وبصورة نهائية: بلدان أميركا اللاتينية، محاضراً وخطيباً مميّزاً في عواصمها، معرّفاً بالعرب وقضاياهم، و”خطر الصهيونية على بلدانهم كافة، وليس على فلسطين وحدها“، كما جاء في واحدة من خطبه الرؤيوية الاستشرافية في الثلاثينيّات من القرن الفائت.
ويوم وصل حبيب أسطفان الريو دي جانيرو، وكانت يومها عاصمة البرازيل، دعوه لإلقاء محاضرة في جامعتها، فرفض الرجل، معلّلاً الأمر بأنه لا يلقي خطباً بغير لغة البلاد التي يحاضر فيها. وطلب منهم مهلة 30 يوماً لدراسة اللغة البرتغالية، كي يلقي محاضرته بها. والغريب، بل الأغرب، أنه وبعد 30 يوماً، أخذ بالفعل يحاضر بالبرتغالية، وكأنه أحد أساتذتها الكبار.
وفي أحد النوادي العربية في الساو باولو، وفي أثناء تكريم الشاعر المهجري شفيق المعلوف بعد إلقائه قصيدة جديدة له، وقف حبيب أسطفان على المنبر وقال: أنا آسف لأن شاعراً كبيراً كشفيق المعلوف يلقي قصيدة منظومة منذ عهد طويل، وأنه هو (أي حبيب أسطفان) يحفظها عن ظهر قلب منذ زمن. ثمّ ألقى القصيدة بيتاً.. بيتاً حتّى نهايتها. احتار شفيق المعلوف في أمره، ولم يفِق من حيرته وانذهاله إلّا بعدما اعترف النابغة حبيب أسطفان أنه حفظ القصيدة منذ سماعها منّه للمرّة الأولى.. ويقال إنه فعل الأمر عينه مع الشاعرَيْن رشيد سليم الخوري ورشيد أيوب.
ونستدرك فنقول إن ”ميرابو الشرق“ كان ينوي الانتقال والإقامة الدائمة في العراق قبل التفكير بتوجّهه إلى المهجر الأميركي اللاتيني، لأن ” العراق بلد غني بالثقافة والمثقّفين، وهو الوعاء الحضاري التراكمي العميق والأصيل لمنطقتنا منذ حمورابي، مروراً بالمأمون وإلى عصرنا الحديث“..على حدّ ما ساق ذلك عن لسانه، صديقه في المهجر البرازيلي جورج سعيد الشمالي، الذي أضاف ” أن مَن حال دون توطّن حبيب أسطفان العراق، هو علمه بالتنسيق الأمني الكبير بين الاستعمارين اللدودين الفرنسي والبريطاني وقتها.. وكلاهما كان يريد رأسه المزعج لهما“.
يروي لي الصديق الأديب يوسف فرنسيس، وقد التقيته مؤخّراً في دبي قبيل مغادرته النهائية إلى نيوزيلندا، أن جدّه المهاجر إلى البرازيل إبراهيم حنّا فرنسيس، كان يلتقي مراراً بحبيب أسطفان في ريو دي جانيرو، وأن الأخير كان يشكو له سوء الدهر وأحواله، نتيجة مواقفه الصارمة القاطعة ضدّ الاستعمارين الفرنسي والبريطاني.. في الوطن كما في المهجر.. وأنه، في النتيجة، ظلّ غير نادم البتّة على أيٍّ من مواقفه السياسية التي اتخذها عن قناعة تامّة. وأنه كان عروبياً حضارياً حتّى العظم، إذ الهجرة عمّقت لديه إحساسه بالهوية العربية، وذلك أكثر بكثير ممّا لو ظلّ في الوطن أسير الانقسام حوله كرجل دين مسيحي سابق، بين مؤيّد لنهجه السياسي ومعارض له.
ويردف الصديق فرنسيس قائلاً ” إن حبيب اسطفان تحوّل في الغربة إلى خطيب مفوّه، ليس في السياسة والاجتماع والأدب فقط، وإنما في فلسفة التنوير أيضاً، تلك التي تأخذ جانب الفرد الرائي المقتدر في مواجهة المجتمع، وخصوصاً إذا كان هذا المجتمع من النوع الذي يُضيّع الفرد المتنوّر، ويصهره في بوتقة التخلّف والعجز“.
تجدر الإشارة إلى أنّ حبيب أسطفان هو خرّيج جامعة ”انتشار الإيمان“ (روما 1912). وكان قد بدأ حياته كاهناً باسم ”الخوري يوسف“، خادم كاتدرائيّة مار جرجس المارونيّة في بيروت. وبسبب مِن مواقفه السياسية الحاسمة ضدّ السلطنة العثمانية، وخصوصاً بعد إطلاقه قصيدته الشهيرة: ”جلاء التُّرك“ في العام 1918، لم تستطع الكنيسة تحمّل جرأة هذا الكاهن/ الأديب، فكان أن وضعت حدّاً نهائياً بينه وبين المسيرة الكهنوتيّة من خلال مرجعه الديني المباشر المطران مبارك.
كان الرجل إذاً شجاعاً، يستمدّ موجوديّة شجاعته من آلة النقد الجاهزة فيه على الدوام. وكان يجعل من لغة الخطاب الذي يتنكّبه، إن بالعربية أو بالبرتغالية أو بالفرنسية أوالإسبانية، مواداً لؤلؤية نابضة بثورة العقل على اللامعقول، وفي كلّ شيء، وخصوصاً في مسائل السياسة، واحتلال الأوطان، والتخلّص من عقدة الخصاء الحضاري. وكم هو عظيم دور العقل عندما يتّخذ أيضاً دور الضمير.
من جهة أخرى، كان حبيب أسطفان يسطع بكلّ تلكم الطاقة من الحرّية التي تجدّد نفسها فيه، وكذلك في المحيط المباشر الذي يتأثّر فيه ويؤثّر، وعلى قاعدة حب الآخر في المدى الإنساني الأبعد، ونبذ فلسفة توماس هوبس القائلة بأن ”الإنسان هو ذئب الإنسان“. ودائماً كان ”أمير المنابر“ يحمل على مناكبه تراثاً عروبياً منفتحاً على مسرى الحضارات كلّها، يمتشق من خلاله طموح المتنبي بأمّة تتعالى على الصغائر والانقسامات، وفلسفة ابن رشد التي تسعى، في جانب منها، لجمع كلّ شيء في مفهوم واحد يكثّفه بالآتي: ” إذا اتحد الإنسان عن طريق عقله الفردي بالعقل الفعّال، أصبح شبيهاً بالخوارق“.
وعلى ما أظنّ وأذكر، فإن الصديق أسعد زيدان كان يطرب لمثل هذا الكلام عن حبيب أسطفان، وينصهر بلبّه فيه، وأنا أسرده له بعامية سريعة ومقتضبة.. كيف لا وجوهر هذا المهجريّ اللبنانيّ الاستثنائيّ ( أي حبيب أسطفان) يعتمل فيه هو كمهاجر إلى البلاد الواحدة التي ينتميان إليها؟!. بدا لي زيدان وكأنه يُمسك بالمخفي من شخصية أسطفان وجوهرها الذي تبدّى ويتبدّى في النصّ الذي كتبه عنه، ونشره في أحد كتبه، وتحوّل بالتالي إلى ذاكرة قائمة فيه، باتت أشبه بمدار شمس مستقرّة بمتغيّراتها.
في أواخر حياة حبيب أسطفان، كان داء الوهن والتخثّر قد أصاب ذاكرته، وتمكّن من ظاهرة تنويره الفردي.. ساعد على ذلك أيضاً ما يقال بأنه كان قد غرق في حياة الميسر والمسكر، وقضى خواتيم أيامه في مدينة ”باترو بوليس“ الجبلية في ولاية الريو دي جانيرو، حيث مات ودفن فيها. ولا يزال اسمه كقبره مُهملاً مغموراً.
هكذا إذاً، الغياب يُستثار بفعل الوجود، ويُستثار الوجود بفعل الغياب.. والآخرون هم دائماً مبلْوِرون لوجودنا، ولمعنانا فيهم وفينا.
*****
(*) مؤسّسة الفكر العربي- نشرة أفق.