الناجون (١٩١٤ – ١٩١٨) لرمزي توفيق سلامة

ريتا نعوم

“نحن الناجين من إبادة ارتكبت بوعي كامل من أعضاء السلطة الثلاثية التركية (بيد أنور باشا طلعت guilaf najounباشا وجمال باشا) واستغلتها القوى العظمى خلال الحرب الكبرى، إبادة حجبها التاريخ، يقع علينا، وعلى أبنائنا من بعدنا واجب حفر هذه الحقبة في الذاكرة الوطنية”. ولهذه الغاية تحديدًا، حاك رمزي توفيق سلامة رواية “الناجون (١٩١٤ – ١٩١٨)” الصادرة عن دار سائر المشرق.

رواية تاريخية أدبية مزجت بين الحب والألم، البطولة والموت، الاستشهاد والنضال، الأمل والظلم، الجوع والرجاء، الحرب والحرية. الناجون يصف فصلًا من فصول عذاب دام أربعة قرون، عاش فيه اللبنانيون تحت ظلم العثمانيين. رواية تتناول حقبة الحرب العالمية الأولى، المرحلة الأشد ظلمًا وقسوةً تحت وطأة هذا الاحتلال، وما أسفرت من أزمات سياسية واجتماعية وخاصة المجاعة الكبرى التي كادت أن تبيد جميع سكان جبل لبنان.

خاطئ من ظن أن الإبادة وسياسات التتريك والتجويع طالت اللبنانيين المسيحيين أو أهل الجبل فقط. ربما كان انتقام الحكومة العثمانية أشدّ قسوة على المسيحيين كونهم تمتعوا باستقلال ذاتي في جبل لبنان وافقت عليه السلطنة العثمانية مرغمةً تحت ضغط الحكومة الفرنسية، “أم المسيحيين الحنون” والضامن لوجودهم في لبنان. لكن لم يبعد هذا الواقع كأس العذاب عن المسلمين. فالفقر والجوع لا يعرف لغة الطوائف، وسياسة التتريك لم تميز بين مسيحيي ومسلمي لبنان الذين وصفوا وعوملوا كمواطنين من الدرجة الثانية. وما لبث المسلمون والشعوب العربية عمومًا أن نقموا على الأتراك بعدما هتفوا لهم سابقًا. عاش المسيحيون، اللبنانيون وغير اللبنانيين، والمسلمون اللبنانيون والعرب “درب الصليب” نفسه: عانوا المجاعة، والتعذيب والإعدام والقمع معًا.

يحمل الكتاب في طياته العديد من المعاني والرسائل التي تتخطى مجرد التذكير بارتكابات السلطات العثمانية بحق اللبنانيين كافة.

اخترق الكاتب جدران التمييز بين مسلم ومسيحي، بين غني وفقير ليسلّط الضوء على ما هو أهم: المواطنية والحب. ومن هنا تنبع شخصية “بولس”، المحام الذي تخرج من فرنسا وبنى صداقات متينة مع شخصيات من مختلف الأديان والجنسيات، والذي قرّر أن يناضل ويقاتل في سبيل بلده وليس طائفته. هذه الشخصية الغنية التي تنتمي إلى عائلة مرموقة، وقعت في حب فتاة تنحدر من عائلة متواضعة وفقيرة لكنها غنية بأخلاقها وعنفوانها وهذه القيم ترخص أمامها كل الماديات.

رسالة أخرى يحاول الكاتب إيصالها من خلال هذه الرواية ولعلّها الأهم كونها الأكثر ارتباطًا بحاضرنا وهي أهمية الاعتماد على النفس، أي تخلي المواطنين عن التبعية لدول الخارج، وللزّعماء الطامعين بالسلطة والغير آبهين لمصير الشعب، كما جاء في الرواية: “هؤلاء المسؤولين كما يعتبرون أنفسهم لا يحلمون سوى بالمجد على حساب ضحايا طموحاتهم”. كما أن عند العلاقات الدولية ومصالح الدول الكبرى تترك الشعوب لمصيرها. “أسياد اللعبة” لا ينظرون إلى الشعوب إلا بنظرة مكيافيلية، فيستخدمونها كأداة لتحقيق مصالحهم. وهذا ما تجلّى في سياسة الأتراك مع العرب وسياسة الفرنسيين مع المسيحيين. وهذه دعوة من الكاتب لجميع الشعوب، وخاصةً أبناء بلاده، إلى أن يصطفوا معًا ويعملوا لمصلحة البلد. فلبنان عبر التاريخ غيّر أسياده فقط آملًا في الحصول يومًا ما على الاستقلال الحقيقي. وما زالت شؤونه الداخلية رهينة الأوضاع والمساومات الإقليمية والدولية.

المؤلّف يأتي بمنظور جديد لكتابة فصل من تاريخ لبنان. فمن خلال رواية استعرض أهم المحطات الدولية والداخلية في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ لبنان. وفي ظل الخلاف السائد حول كتابة تاريخ لبنان الحديث وخاصةً أحداث الحرب الأهلية التي وقعت عام ١٩٧٥، ربما تكون هذه الوسيلة الأفضل لنقل الوقائع وتخليدها دون الانخراط في التجاذبات السياسية. فتصبح كتابة تاريخ لبنان عبر الناس الذين عاشوه وليس عبر الأحزاب والشخصيات السياسية التي تحاول كل منها إظهار نفسها بأبهى الصور ملقيةً اللوم على الطّرف الآخر.  فمثلما “التاريخ يكتب بدماء الضحايا” عليه أن يخلّد بقلم الناجين.

اترك رد