د. فادية حطيط
تلجأ بعض الدوريات في العلوم الإنسانية إلى تخصيص محور للشهادات إضافةً إلى الدراسات العلمية المنهجية. وهناك اتفاق على أهمّية الدراسات العلمية في كشف الواقع والتنبّؤ باتجاهاته. ولكن ما هي وظيفة الشهادات الشخصيّة المتفلّتة من رقابة الأعراف المنهجية في هذه الحالة؟ وإلى أيّ مدى يمكن الركون إلى الشهادات في التعرّف إلى ظاهرة ما؟
أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن الشهادة تسدّ نقصاً في ما تقدّمه المعرفة المضبوطة بالمعايير المنهجيّة، والتي هي من شروطها الموضوعية الأولى. فالضوابط التي تتحكّم بإنتاج المعرفة تشكّل بذاتها ستاراً حاجباً أمام مشاعر الباحث وانفعالاته وموقعه. فتأتي الشهادة لكي تلتقط ما منعته أدواته الضابطة من التقاطه. وهي لا تخشى الاتّهام بالانحياز، لأنّها في الأصل تنبع من موقع المنحاز نفسه. فالشاهد يعلن: ”هذا ما أراه، وهذا ما أريد قوله“. ويبقى الحُكم متروكاً للقارئ. فما يحدّد الشهادة هو درجة إقناعها ليس إلّا.
وإلى ذلك فإن الشهادة، حين تتفلّت من عقال الضبط المنهجي، تسمح للجانب المتعلّق بتجربة الباحث الذاتية بأن تعبّر عن نفسها. وتجري العلاقة ما بين ذاتية الشاهد وذاتية القارئ من دون أيّ حواجز. ويطلب الشاهد فيها من المتلقّي أن يعترف له بمعاناته وأحقّيتها. لذلك، كثيراً ما نراها تتحوّل إلى نصّ سردي أدبي، يستخدم أدوات أسلوبية لا يستسيغها البحث العلمي.
على أيّ حال، وعلى الرغم من الاختلافات القائمة ما بين الصياغة الممنهَجَة للبحث وصياغة النصّ الأدبي، فإنّ ما يجمع بينهما هو أنهما كلاهما لا يدّعيان التوصّل إلى الحقيقة. فالواقعة التي يجري تقديم المعرفة الموضوعية والذاتية حولها لا تتماهى مع الحقيقة، وجلّ ما يمكن التوصّل إليه يندرج تحت مسمّى ”اتجاهات“.
في العموم، تزيد أهمّية الشهادات عند تسجيل لحظة عيش صعبة، حيث لا يمكن لأيّ أداة أو اختبار أن ينقلها إلى الآخر، بسبب ما فيها من مشاعر وبسبب عدم إمكانية العودة إلى الوقائع التي رافقتها.
لنأخذ مثالاً حول العلاقة ما بين الشهادات والدراسات المنهجية من كتاب ”باحثات“ السنوي، الصادر مؤخّراً عن ”تجمّع الباحثات اللبنانيات“ بعنوان ”اللاعبون في الثورات العربيّة تعبيرات وأشكال مبتكرة“. فنلاحظ أن محور الشهادات أُعطي الحيّز الأول من الكتاب وفيه ثماني شهادات تتعلّق كلّها بالثورات العربية. في حين خَصَّص القسم الأخير منه حيّزاً لرصد عيّنة من الدراسات والأبحاث والمقالات حول الموضوع نفسه. ولقد قامت فاطمة شرف الدين بمراجعة هذه العيّنة وخلصت إلى ”أن المثقّفين والمفكّرين الذين لم يخطّطوا للثورة أو يشاركوا فيها قد تبنّوها وسارعوا إلى متابعتها والكتابة عنها. كذلك مراكز الأبحاث التي لم يسبق أن تنبّأت بحدوث هذه الثورات، فهي تحاول اللحاق بالثوّار وبمَن احتلّوا الشوارع والساحات عن طريق المساهمة في رسم مستقبل تحرّكاتهم… أما الكتّاب في السياسة فقد أجمعوا على تأييد الثورات وإنما اختلفوا أحياناً في توصيفها ورسم مستقبلها“.
في المقابل، نجد أن الشهادات في الكتاب نفسه، الصادرة من تجربة العيش المباشر لهذه الثورات، ذهبت في منحى معاكس. فهي على العموم عبّرت عن بعض المرارة وخيبة الأمل ممّا حصل. الشهادة الأولى بعنوان ”ثورة الصورة… المهمّ أن لا تسقط الكاميرا، عندها فقط، ينتهي الحلم“، تتكلّم فيها الكاتبة عليا إبراهيم عن النضال في الثورة السورية من خلال حمل الكاميرا والتصوير، وتنقل مشاهداتها لناشطين تعرفهم، واحدة تلتقط صورة دبابة وهي تقصف، فتحملها وتسرع بها هاربةً إلى بيروت، وآخر يستخدم كاميرات خفيّة بشكل أقلام أو نظّارات يتمّ شراؤها من بيروت. ولكنّ عليا إبراهيم تعيد مراجعة هذه الفكرة فترى أن الاعتماد على الصورة ”بشكل كامل لتقييم الوضع خاطئ اليوم، وبمستوى الخطأ نفسه قبل الثورة، يوم كانت الصورة تدلّ على أن شؤون سوريا بخير“، وتُنبِئنا بأنه في موازاة تراجع الدور الخَبَري للصورة، بات هناك تقدّم لدور آخر قد يكون أكثر أهمّية هو دور الكاميرا التوثيقيّة والسينمائية….لتخلص في ختام المقالة(الشهادة) إلى أن ما حقّقته الثورة فعلاً ليس الصورة (التي لم يفعل العالم شيئاً أمامها) بل تغيّر النظرة نفسها، بحيث باتت أكثر جرأة ومصداقية.
الشهادة الثانية هي بعنوان ”الاستشفاء من شراسة السرطان بمطلع الربيع العربي“ وتقدّم فيها كاتبتها فوزية أبو خالد تجربتها في لحظة اندلاع الربيع العربي في تونس ثمّ في مصر، وتزامُن ذلك مع إصابتها بالسرطان ومقاومتها له. فما كان منها إلّا أن لجأت إلى الاستشفاء بالكتابة لمقاومة هذا الزائر الخبيث. وتَستخدم هذه الشهادةُ استراتيجيّةً روائية تقوم على التوازي ما بين سيرة الفرد وسيرة المجتمع، فتربط الكاتبة ما بين ألم جسدها وألم المجتمعات العربية، في منحى ذوَبانيّ، بما يشير إلى الانسحاق الذي تسبّبه الأنظمة الدكتاتورية على مواطنيها، وإلى درجة استلاب المواطن العاجز عن التغيير.
الشهادة الثالثة هي من سوريا. تقدّم كاتبتها خولة دنيا مطالعةً حول مشاركة النساء في الحرب الدائرة في سوريا، واستخدامهنّ، كما استخدام الأطفال، من قِبل النظام ومن قِبل الثورة، ”لإثبات وجهات النظر لدى المتصارعين من الرجال“. لكنّها تلاحظ أن النساء كانت لهنّ حكايتهنّ الخاصّة. فدخلن في الهمّ اليومي المباشر بكلّ أشكاله وتبعاته، من الإغاثة إلى التمريض، إلى النزوح، إلى العمل في مجالات التعليم البديل، وورشات تمكين المرأة، والدعم النفسي.
الشهادة الرابعة بعنوان ”نور طفلة لاجئة بيتها مغسل الموتى…تشبهني أو تشبه سوريا“ وتقدّم فيها هند رجوب تجربة شخصية عاشتها بسبب التهجير إلى لبنان. وتسرد قصّة طفلة عمرها ثماني سنوات في مغسل موتى وكان عليها مع أهلها ان يتركوا المغسل كلّما توفي أحد من القرية حتّى إتمام مراسم الدفن ثمّ يعودون إليه. وهي لم تستطع كسورية لاجئة في لبنان أن تحمي الأطفال بعد عامين من العمل في لبنان، بسبب ما تلاحظه من كثرة الكراهية في هذا البلد.
الشهادة الخامسة أتت من مصر بعنوان ”ثورة الشباب…والنساء، مصر 25 يناير 2011“، وفيها تتكلّم الكاتبة عن التغيير المؤقّت الذي حصل في الثورة حيث سقطت كلّ الحواجز الطبقية والدينية والجندرية والسياسية إلى حين، بسبب إرث المشكلات الاجتماعية الناتجة عن الفقر والجهل… فبقي التمييز ضدّ المرأة والأقلّيات الدينية والعرقية. وتنهي الكاتبة شهادتها بالتأكيد على أن الثورة مستمرّة بالشباب والنساء لأنهما الفئتان الأكثر تهميشاً.
”مطامعهم من الثورة كانت أكبر من احتياجنا لها!“، هذا كان عنوان الشهادة السادسة للكاتبة نادية الكوكباني، وقد نقلت فيها تجربتها في المشاركة في صنع الثورة في اليمن. تتكلّم فيها على كيفية استغلال الثورة من قِبل مَن يفترض أنّهم صانعوها، بحيث أصبح للساحة زنزانة وسجّان وحماية ممّن كانوا سبباً في قيام ثورة الشعب. مسار مؤلم جعل الكاتبة تُصاب بخيبة أمل شديدة، فتعود أدراجها إلى المنزل لتمارس مهنة التدريس الجامعي وهواية الكتابة التي تعشقها، ولتكون أمّاً لأبنائها فقط.
والشهادة السابعة من تونس بعنوان ”قصيدة إرادة الحياة، لأبي القاسم الشابي“ كتبها حمّادي المسعودي. ويشرح فيها المعنى الأساسي للقصيدة الذي ينقض أطروحةً كانت سائدة مفادها أنّ مَن يصنع التاريخ والتغيير هُم الحكّام وأولياء الأمور في البلدان العربية والإسلامية وليس الشعب، وذلك بسبب بثّ روح التواكل والإيمان بقضاء الله وقدره. وقد غدا البيت الأول شعاراً مكتوباً في مظاهرات الشعوب العربية كافة. ويختم الكاتب بأن الشعب التونسي كان حرّاً طليقاً أثناء ثورته ولكن يمكن أن يكون قد ”أخطأ سواء السبيل عندما وهب ثمرة نضاله إلى أناسٍ لم يكونوا أهلاً له…“.
الشهادة الأخيرة من لبنان، كتبها سليم معوّض بعنوان ”ثورة التناقضات في بلاد الأرز“. فيرى أنها تعبّر عن تغيير آتٍ من الخارج، وأنها تمثّل ردّة فعل من فريق على فريق. ويؤلم الكاتب أن معظم الذين نادوا بثورة الأرز ركبوا موجة زمن ما بعد ثورات ”الربيع العربي“ التي أتت بعد ”ثورة الأرز“، لتراهم يوقّعون عقود عمل مع مؤسّسات أجنبية غير حكومية هادفة إلى تحصين التغيير الذي أفرزته تلك الثورات، ونسوا إجراء مراجعة ذاتية وجماعية. لذا عادت نخب سياسية تقليدية لتزيح الشباب وتبقى هي في الواجهة.
وبشكل عام يلاحظ المرء لهجة المرارة التي سادت الشهادات. ولئن كان بعض كتّابها قد حافظ على فكرة الأمل لأن ”اليأس خيانة“، فإنّ البعض الآخر لم يستطع سوى الانكفاء والعودة إلى جدران الكتابة والشفاء بواسطتها. في المقابل رأينا أن الباحثين والكتّاب والمثقّفين كانوا أكثر تفاؤلاً وثقة؛ فهل كان هؤلاء بعيدين عن الواقع وكتبوا من أبراجهم العاجية سعياً لرسم مستقبل يشاركون في صنعه تعويضاً عن قصورهم في صنع الحاضر؟ أو أن الشاهدين غرقوا في مساراتهم الشخصية ولم يروا سوى الشجرة في حين غابت عنهم الغابة؟
*****
(*) أستاذة في الجامعة اللبنانية
(*) نشرة أفق