تحقيق: حسنا جعيتاني
يشكل دير قزحيا في وادي قاديشا لجهة إهدن محجة للسواح والمؤمنين في الوقت نفسه إذ إن هذا المعلم الديني التاريخي الاثري يحوي ثروة تراثية بمغارته ومحابسه ومطبعته التي شكلت الركيزة الاساسية في النهضة الطباعية في لبنان والشرق.
قزحيا أو “الكنز الحي” دير تخاله للوهلة الاولى معلق بين الارض والسماء في منطقة تعتبر الاساس الاول لانطلاق الموارنة في لبنان وتوسعهم وهروبهم من الاضطهادات على انواعها.
هو من أقدم الأديرة اللبنانية ومن أرجائه تشع روح القداسة ويعبق بخور النساك والمحابيس الذين لا يزالون حتى الساعة يعيشون في محابسه على طريقة النساك الاوائل ولا يظهرون امام الناس الا في المناسبات الدينية الكبيرة.
يرجح المؤرخون والباحثون تأسيس هذا الدير، ودخول النساك اليه، في أوائل القرن الرابع، وقد تعرض مرات عدة للنهب والحرق والتدمير، ومع ذلك، بقيت منه آثار شاهدة منذ القرن السابع وحتى الان، وتشير المخطوطات الى انه بني عبر حفر كنيسة داخل الصخور مجاورة لمغارة يقال انها تمتد من قزحيا الى اهدن، الا ان احدا من المغامرين لم يتمكن من استكشافها حتى الساعة، فيما لا يزال يؤمها العديد من المؤمنين لما لها من صيت واسع في الشفاء من الامراض العقلية، حيث في الماضي القريب كان يوضع من به مس من الجنون داخلها مكبل اليدين والرجلين بسلاسل معدنية وسط حرق البخور والصلوات على نية الشفاء الذي تم لعدد لا بأس به من المرضى سجلت شفاءاتهم على اوراق معروضة داخل المغارة.
كان الدير، منذ القديم، ركيزة الحياة النسكية في الكنيسة المارونية، ومدرسة للتنشئة الرهبانية اذ استهوت محابسه، وخصوصا محبسة مار بيشاي، النساك الراغبين في عيش الانفراد والزهد وهو بمنزلة أول كرسي أسقفي ماروني.
ولا يخلو الدير يوما من مواطنين جاءوا إما إيفاء لنذر او للتقرب من الله والاعتراف لدى النساك او رهبان الدير واما لعمادة او زواج بحيث يختار العديد من الاهالي اقامة افراحهم في رحاب الدير الواسع.
وفي الدير أيضا مطبعة هي الاولى في الشرق وعبرها تم حفظ اللغة العربية من التتريك ثم تم تجديدها سنة 1871.
وفي العام 1998 أدرج الدير كجزء من الوادي المقدس على “قائمة التراث العالمي” وكان قبلها مدرجا على لائحة التراث الوطني.
ويرأس الدير اليوم الاب مخايل فنيانوس الذي يقول ان هذا الوادي، بوفرة مياهه، وكثرة خضاره، ورهبة سكينته، ومهابة ديره، دير مار أنطونيوس الكبير، يعكس غنى نعم الله “كَنز الحياة” الأساسيِ ومعطيها بسخاء لأجيال من النساك والرهبان والمؤمنين والمصلين سكنوا هذا المكان وترددوا إليه ولجأوا فيه إلى شفاعة القديس أنطونيوس الكبير، بدءا من القرن الخامس للميلاد.
وفي العام 2008، تم افتتاح نزل صغير يتألف من ثلاثة طوابق تحت مسمى “واحة قزحيا” وهو اشبه ببيت للزوار بامكان من ينشد الراحة او الخلوة او استكشاف الدير والوادي المحيط النزول به لقاء مبلغ رمزي شرط ان يلتزم بالشروط الخاصة الموضوعة من اجل الحفاظ على سكينة الدير ورمزيته الدينية.
يقع الدير وسط مساحة شاسعة من الخضار تحيطه التلال والمحابس المنتشرة على مشارفه والتي يعتبر اشهرها محبسة بولا التي أسسها سنة 1716 الأب عبدالله قرا علي، وتردد عليها القديس شربل مخلوف قبل دخول الرهبانية لزيارة خاليه الحبيسين أغوسطين ودانيال الشدياق.
وتشير المعلومات التاريخية الى انه من دير قزحيا، نمت الرهبانية وتكاثر عددها، ومنه انتشرت في كل لبنان. وأصبح الدير نقطة الارتكاز والمرجع الاساس، حتى إن اسمه طغى على الرهبانية فعرفت بـ”رهبنة قزحيا”.
وحلت بالدير نكبات من الطبيعة، ونكبات من جور المضطهدين الذين هجروا الرهبان مرات عديدة من الدير، وفي أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، قام الدير بايواء جميع الوافدين إليه وإعالتهم، فتراكمت عليه، ديون جراء ذلك تم إيفاؤها، اما سنة 1926 فقد قرر الرهبان هدم الدير القديم، الا انهم ابقوا على الكنيسة والقبو الكبير الذي تحول اليوم الى متحف يضم المطبعة واواني كنسية الى مخطوطات وفخاريات وصولجان هدية من ملك فرنسا لويس التاسع الى ثياب كهنوتية مطرزة بخيوط ذهبية كما اضافوا طابقين جديدين لسكن الرهبان.
ويعتبر دير قزحيا اليوم من أعرق الأديرة في لبنان ويشكل مزارا لكل من يرغب أن يتعرف على طريق القداسة التي سار عليها بطاركة وقديسيون ورجال دين.
(الوكالة الوطنية للإعلام)