عبد الله التواتي ومِشرَطُ الشاعر-الجرّاح

مرسال الأشقر (*)

عبد الله التواتي، الشاعر الجزائري، إنسان مرهف الإحساس، واقعي التفكير، عربي الانتماء، جريء marcelle ashkarالأفكار، صلب التعبير، شمولي الأبعاد؛ وهو ملمّ بمعاناة الأمة العربية، ثائر على الحروب، والجوع، والاضطهاد، والذلّ، واعٍ لما تعانيه الشعوب البائسة؛ ولذا نراه يحاول، في “بَوْحه”* الحاضر، تسليط الضوء على ما سبق، ومعالجته بمِشْرَط الشاعر-الجرّاح.

والتواتي مخلص لجذوره كإخلاصه لحبيبته. وهو، لئن لم يرَ، بعد، الوطن العربي يعيش سلامًا حقيقيًّا من خلال حكّام أوفياء، ما زال على إيمانه بالشعوب العربيّة، ونصرتُه تلك الشعوب فوق أي اعتبار. وكما مع الوطن، كذا هو مع الحبّ: معذّب في تفاؤل، إلَّم يستطعِ الالتقاء بحبيبته والاندماج بها، تألَّم في صمت، من دون أن يقطع الأمل بلقائها، ولو في حياة ثانية.

قرأت التواتي، فاستمتعت بعباراته المقتضبة التي تترك للقارئ فسحة اكتشاف ما سيتبع. في المجموعة عمق فكر وإيحاءات من فلسفة، وقد تحوّل فيها الشاعر لسان حال أي إنسان يعيش العصر في أمّة العرب، وذلك في أسلوب سهل، واضح المعالم، متين الأفكار، يشدّ القارئ إلى سبر الأغوار.

يبدو الشاعر حزينًا في “بوح في زمن اللاّبوح – 1″،  إذ تراكمَتِ الأَحزانُ على الأَحزان حتَّى/ صارَت تعُجُّ بها المِساحاتْ؛ وهو يثمِّن الصمت حين يقول ربَّما في الصَّمت حكمة؟/ ربَّما... في الصَّمت راحة...”؛ متشائم هو لما آلت إليه القصائد التي تغيّر تكوينها من معلّقات إلى حالة مخيفة، إذ هي في الصَّمت تُتلى/ علَّها تُنسي قليلاً”، وهذا الصمت، لو ترجم كلمات لدوَّى صوتًا يقول: في زمن اللاَّبَوح/ تساوى المَحيا، والمماتْ...!!”guilaf baouh

ويبدو التواتي مقهورًا في “ستّون عامًا”، فقد مرّت أعوام طويلة على نكبة فلسطين، ولا يزال العدوّ يسيطر على أراضيها. لقد “مَلَّ الانتظارُ انتظاري”، يقول، والسّنوات، كلّها، جوع، وحصار، وخطّ أحمر، وكلمة “ممنوع”أخذت مكانها في المعجم اليومي للشّعوب. “أنا الموتُ، والموتُ أنا”: لقد تصالح الشاعر مع الموت حتى أصبح توأمه، ولكن، “طفلي الصَّغيرُ يكبرُ رغمَ الأهوال”، متحدّيًا الإجرام والعذاب، متحوّلاً انتحاريًّا يزرع الرّعب أينما كان، لتحرير الوطن المنكوب.

في “أحببتكِ”، يعيش الشاعر حبًّا من طرف واحد، حبًّا يعذّبه، يمزِّقه، يجعل جسده سقيمًا. يقول: أُدركُأَنِّي تجرّأتُ…/ ركبتُ بحرًا بلا شُطآنِ، وهو لم يقبل نصيحة أحد، بل تمرّد وانساق وراء حبّه، فإذا به غارق في الألم والضّياع، حتى أَورقَ” (الحبّ) في الأَحشاء/ سَرَى كالدَّم في الشّريانِ…، ويا لروعة الصّورة في وصف الحبّ المتغلغل والمتمكّن من جسد الشاعر وفكره! كما يصف عبد الله حبيبته بعبارات منتقاة ودقيقة تجعلنا نتخيّلها تمشي وتتبختر بقدّها الممشوق.

ويشارك التواتي، في قصيدة “إلى نزار قبَّاني”، شاعر المرأة والقضيّة معاناة فلسطين المستمرّة منذ عقود؛ فيما، في قصيدة “هذه الحياة”، ما إن يداوي من هنا جرحًا في الحياة، حتى ينزف جرح آخر من هناك؛ وهو، في هذه القصيدة، يضع أمامنا خبرة عمر، في مرِّه وحلوه، وما علّمته إيّاه الأيّام لجهة أَلاَّ (يخوض) – إِذا حضرَالجاهلُ /في الكلامْ….

ونجد عبد الله، في قصيدته “سَلْ مُرَّ الدّمع”، مواطنًا عربيًّا مكسورًا منسحقًا في تراب الوطن المعذّب، إذ يقول: أَنا الآخَرُ المَسحوقُ يا وطني؛ وأمّا قصيدة “لمن أشكو”، ففيها سؤال كبير، مقلق، يغلّفه الدّمع، حول جوع أبناء العالم العربي الغني بالنفط، ذاك الأسود الذي يسيطر عليه العابثون؛ فلنسمعِ الصّرخة القويّة والجريئة في قوله: “ودمي… ودمي يثورُ/ يغلي في الشَّرايينْ…/ أَما الحُكَّامُ، فلا أَدري...”.

وللشعر من الشاعر تمجيد في قصيدة “يا قبس النّور”؛ يقول: يا قبَسَ النُّورِ أَنتَ…/ يا كلَّ الزُّهورِالمُنعِشاتِ…/ لا شيءَ غيرَكَ يُسْعِدُنا/ يُخرِجُنا من المتاهاتِ/ يجْعلُنا صفًّا واحدًا؛ وهذا، لَعَمري، تصريح واضح بأنّه لم يبق للمثقّف سوى قلمه وفكره، يتحف بهما الشعوب العربيّة بالقصائد النيّرات التي تساعدها على الابتعاد عن اليأس، وتعيد إليها الأمل في الوحدة، والتي، من دونها، ستبقى تلك الشعوب، وبكلّ أسف وخجل: بهائمَ ترْعَى في الفَلَواتِ…

والتواتي متفائل في قصديته “تعالي”، حيث يدعو الحبيبة التي أصبحت وطنه، إلى العيش في إطار الحبّ ليس إلاّ، فما العُمر… ما الجنَّة…/ إِنْ لم يكُن الحبيبُ/ بأَحضانِ الحبيبْ…؛ وتلك دعوة واضحة إلى الابتعاد عن كلّ ما يحزن ويؤلم، والسّعي إلى الجنّة عبر لقاء الحبيب؛ وهو يختم قصيدته الفرحة هذه بقوله: تعالَي... تعالَي/بِلا تَرَدُّدٍ/ بلا ارتخاءْ/ فذا العالمُ الَّذي نحيا... نعيشُ/ ليستِ الأَعمارُ فيه إِلاَّ هباءْ، حاثًّا إيّانا على استثمار العمر الرّاحل دونما استئذان، في الحبّ والسلام.

ويقول الشاعر، بالانتقال إلى قصيدته “وراء القضبان” التي تجسّد مدينته المنكوبة، مدينة كلّ عربي، تلك التي يعيش أهلها في الصّمت المفروض عليهم من قبل العدو، يقول بصوت عال: “أَخشى أَنْ تموتي في صمتِ/ويموتَ الصَّامتون في صمتِ...!!”

وترتفع نبرة عبد الله إلى أقصاها في قصيدته “سجِّل: لم يرحلِ العربي”، فيكتب بكلمات من الدّم والعنفوان ملحمة الشعب العربي الذي سيبقى، على الرّغم من كلّ التحدّيات، صفعاتٍ في وجوه العِدَى / طعناتٍ في صدور العِدَى، ولا يقبل مقولة أنّ العربي قد مات أو انتحر، بل ما زالتِ النَّفسُ أَبِيَّةٌ”، وكلّه إيمان وأمل بأن يبقى النضال قائمًا حتَّى… ينالَ القضيَّة…

وأمّا في الجزء الثاني من الديوان، المعنون “بوح في زمن اللاّبوح – 2″، فنقع على مجموعة من القصائد المتنوّعة الموضوعات: فمن وصف لمعاناة شعب ذي قضيّة محقّة، إلى دفاع شرس عن الحبّ والحبيبة، إلى حرّ مقتنع ببراءته وهو في السجن، إلى كلمات في قضايا الشعر والفنّ الهابط والجوع والحروب والمشاكل الحياتيّة القاهرة… وقد حاول الشاعر عرضها ومعالجتها بأسلوب منمَّق، مهذَّب، مرن.

أخيرًا، أظنّ أنّ كلّ من يقرأ الديوان الذي بين الأيدي سيشارك عبد الله التواتي في قوله: في زمن اللاَّبَوح بُحْتُ.../ ما أَثْنَتْني الأَهوالُ أَو خفْتُ.../ ليُدركَ الظِّلُّ أَنَّني.../ ما قبلْتُ التَّطبيعَ يومًا.../ ولا ارتضَيْتُ....

******

 (*)عبد الله التَّواتي، الشاعر الجزائري – ديوان “بوح في زمن اللاّبوح” الصادر عن مؤسسة ناجي نعمان للثقافة بالمجّان، جونية، لبنان. 

(*) أمينة سرّ مؤسَّسة ناجي نعمان الثَّقافة بالمجَّان

اترك رد