د. ناجي نعمان
أنْ نتحاورَ، في الأديان والحضارات، أو في سواها، يَعني، أوَّلاً، أنْ يكونَ ثمَّةَ ما نَتحاورُ فيه؛ ثمَّ، ثانيًا، أنْ نُحسِنَ الإصغاءَ، واحدُنا إلى الآخَر؛ وثالثًا، أنْ نصلَ إلى نتائجَ عمليَّةٍ يَجري تطبيقُها.
***
في الأوَّلاً، أي في أنْ يكونَ ثمَّةَ ما نَتحاورُ فيه، أجدُ أنَّه، في الحوار بين الأديان، وفي ما يَتعدَّى حُدودَ التَّلاقي بين أتباع الدِّياناتِ المختلِفَةِ لجهة الأنسَنَةِ والأخلاقيَّاتِ وحُسنِ المعاملةِ والفضائلِ والتَّآخي، لا نَتائجَ تُرتَقَبُ على الصَّعيد العَقيديِّ، فالمُسلمُ سيَبقى مُسلمًا، وكَذا المسيحيُّ مسيحيًّا، وأتباعُ المذاهب على أنواعها، والدِّياناتِ الأخرى. وأمَّا الجَراءَةُ ففي أنْ يُعطى الفَردُ منَّا الحقَّ، قانونًا وشَرعًا، بأنْ يَنتقلَ من دينٍ إلى دين، ومن مذهبٍ إلى آخَر، وحتَّى إلى اللاَّدين؛ وتلك تَاللهِ، خطوةٌ ذكيَّةٌ ومُنقِذَةٌ، تَشيلُنا من التَّذاكي وتَمنعُ عنَّا السُّقوطَ في الأفخاخ.
وأمَّا في الحوار بين الحضارات، فأجدُ أنْ لا ضرورةَ لِحوارٍ بين أبناء المَشرق في هذا الخُصوص، ذلكَ أنَّهم يَنتمون، ولَو بدَرَجاتٍ، إلى مجموعةٍ من الحضارات ظهرَت منذ ما قبلَ بَني سومَر، وستظلُّ تَظهرُ إلى ما بَعدَ العُربِ. نَعَم، نحن أبناءُ فُسَيفِساءَ حضاريَّةٍ، أَشاءَ البعضُ ذلك أم لم يَشَأْ. وأتحدَّى السَّوادَ منَّا أنْ يستطيعَ إثباتَ نَقاءِ عِرقه و/أو دينه لأكثرَ من قرنَين من الزَّمن. فالتَّمازجُ حصلَ ويَحصُل، وأسألُ أنْ كيف لأبناء المَشرق أنْ يَقتَتِلوا على أُسُس العِرق والدِّين والحضارة، وهم يَنتمون إلى هذا الهَجين من الأعراق والدِّيانات والحضارات؟ هنا أيضًا، وفي غَبائنا المَعهودِ، نحن نَتذاكى، ونسقطُ في الأفخاخ، ونخسرُ حضاراتِنا على وَقع فؤوس الظَّلاميَّة التي تَسبَّبت أنظمتُنا، على الأقلّ، في التَّهيئة لِقيامَها؛ وما سُؤْلُنا، السَّاعةَ: أَتُدَمَّرُ تَدمُرُ أم لا تُدَمَّر، وأَتَبكي عليها زَنوبيا أم لا تَبكي، إلاَّ في سِياق الاستِمرار في العَبَث بالإنسان وبحضارته؟
***
وفي الثَّانيًا، أي في أنْ نُحسِنَ الإصغاءَ، واحدُنا إلى الآخَر، علينا أنْ نُفسِحَ في المجال للآخَر، أيِّ آخَر، كيما يُبديَ وِجهةَ نَظره، وأن نَتفهَّمَ هواجِسَه، قبلَ أنْ نطلُبَ منه الاستِماعَ إلى وِجهة نظرنا وتَفَهُّمَ هواجسنا.
نَعَم، علينا أنْ نُصغيَ إلى الجميع، وعلى رأسهم، اليومَ، التَّكفيريُّون، وأنْ نَبحثَ في ما جَعلَ بعضَ مُلتَزِمينَ بالدِّينِ، مُتزَمِّتينَ فيه، وأداةً طيِّعَةً مُطيعةً تَسلُكُ طريقَ الموت، وعن إيمانٍ، ولا تقبلُ لِِسُؤْلٍ جوابًا. وعلينا أنْ نستَدرِكَ عُقودًا من الفَقر والإفقار، والجَهلِ والتَّجهيل والتَّجاهل، والكَبتِ والقَمع، تَعرَّضَ لها الملايينُ، جيلاً بعدَ جيل، من قِبَل بَعضِ دِكتاتوريَّاتٍ وسُلالاتٍ حاكِمَةٍ، إلى عُقودٍ أخرى لم تُفتَحْ أمام تلك الملايينِ فيها إلاَّ حرِّيَّةُ التَّشدُّد في ممارسة الدِّين، ودائمًا في إطار الكَبت والقَمع، بحيث دُفِعَ أُناسٌ إلى البحث في الآخرَة، والأملِ بنَعيمها، على حساب لُقمَةِ عيشِ يومهم، وكرامتِهم على هذه الفانِيَة، فكانَ أنْ سَقطوا في فَخِّ تَكفير الآخَرين.
***
وفي الثَّالِثًا، أي في أنْ نَصِلَ في حواراتنا إلى نتائجَ عَمليَّةٍ يَجري تطبيقُها، أختصرُ فأقولُ إنَّ ما نَقومُ به من حواراتٍ، وعلى أهمِّيَّته العِلميَّة، لا يَعدو كونَه يَجري بين أصحابِ فِكْرٍ وفِكَر، ممَّن تَستبعدُهم السُّلطاتُ النَّافِذَةُ بعامَّةٍ، وتَبقى مُقرَّراتُهم، بالتَّالي، إنْ هُمُ اتَّفقوا على مُقرَّراتٍ، مُجرَّدَ حِبرٍ على ورق.
***
في المُحَصَّلَةِ، نحنُ، السَّاعةَ، وعلى أرض هذا المَشرق الذي أنتجَ الدِّياناتِ السَّماويَّةَ الثَّلاث، يُكفِّرُ بعضُنا البعضَ الآخَر، ونَتقاتلُ كما لم يَتقاتَلْ مِن قَبلُ بَشَر، فيما العصرُ عصرُ تَفكيرٍ لا تَكفير.
وأقولُ، كما لَطالما رَدَّدتُ، أنْ لا كافِرَ إلاَّ المُكَفِّرُ، كما لا مُشرِكَ بالله إلاَّ مَن يَعتقِدُ أنَّ اللهَ الَّذي يَعبُدُ، في المُطلَق، هو غيرُ الله الَّذي يَعبُدُه سِواه. وأُُضيف: إنَّما الفَقرُ فَقرُ الفِكر وفِكرُ الفَقر؛ ولا أحَدَ يَحتَكِرُ الحقيقةَ، لا أحد؛ وكَذا لا أحدَ يَحتَكرُ اللهَ، لا أحَد؛ ولا حقَّ لأحَدٍ بالكَلام عنه، وبِاسمِه، لا أحَد؛ ثمَّ إنَّه، تَعالى، لا يَقِفُ مع بَشَريٍّ دونَ الآخَر، أو ضِدَّ هذا لحِساب ذاك!
أَلا فَلْنُدْرِكْ أنَّه، أيًّا كانَ مدى حُبِّنا اللهَ، فإنَّ اللهَ، بالتَّأكيد، يُحبُّنا أكثر، وهو يُريدُنا أنْ نَتَحابَّ بِاسمِه، لا أنْ نَتقاتَلَ، تَحقيقًا لِمَآربنا الخاصَّة، مُستَخدِمينَ اسمَه. ثمَّ إنَّ الأديانَ للإنسان، وليس الإنسانُ للأديان؛ والإنسانُ كانَ قبلَ الأديان، وسيَظلُّ بعدَها. وقد آنَ أوانُ الاستِعاضَة من العُهود الإلهيَّة والأسطوريَّة باللاَّعَهد الجديد: العَهدِ الإنسانيّ!
***
في مَشهَدٍ تِلفازيٍّ زانِيَةٌ “مُفتَرَضَةٌ” تُساقُ للرَّجْم، وتُرجَمُ على يَد مَن شَرَّعوا النَّحرَ والحَرقَ والسَّبيَ والمَبيعَ في سوق النِّخاسَة، فيما ألفيَّتان مَضَتا على “مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيئَةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَر”؛ ويا لَمأساتِك يا ابنَ البَشَر! وأَسألُ: أَيأتي زمنٌ يَنسى فيه بعضُ المُسلِمين الآيتَين الكريمتَين ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾؟ (التَّكوير 9، 8)؛ وإِلامَ استِرجاعُ الجاهليَّة بإِفراطٍ في الجَهل، وإِبدالُ فروسيَّة أبناء خِيام الأمسِ بحَقارة قاطِني ناطِحاتِ اليوم؟ وأَنَقبَلُ، بعدَ فَجر الإسلام، وصَدرِه، أنْ يأتيَ زمنُ نَحرِ الإسلام؟ أَلا فَلْنُعْتِقِ الأديانَ، وَلْنُنْصِفِ الإنسانَ، فقد أهنَّاها الأديانَ، حتَّى لَهَرَبَ اللهُ منَّا، وهَزَّأناهُ الإنسانَ، حتَّى لاستَطابَ المِسكينُ المَماتَ!
ألفارِقُ بين الشُّعوب إنَّما يَكمُنُ، اليومَ، بعامَّةٍ وأساسيًّا، بينَ الذَّكاء الغَربيِّ “المُتَغابي”، والغَباءِ الشَّرقيِّ “المُتَذاكي”. فمتى نُصبحُ أذكياءَ؟ متى نَستَعيضُ من “التَّذاكي” بالذَّكاء؟ متى نَدَعُ الآخَرَ يَعيش، ونَعيش؟!
ثمَّ إنَّ الحياةَ قصيرةٌ، ومنها لا يَأخُذُ المَرءُ شيئًا، فحتَّى الخشَبَةُ هي الَّتي تأخُذُه. نَعَم، لا يَأخُذُ المَرءُ من الحياة سوى وَقفةِ عِزٍّ حين يَعِزُّ العِزُّ!
*****
(*) محاضرة ألقاها د. ناجي نعمان في المؤتمر العالمي الخامس عشر لـ “المنظمة العالمية لحوار الأديان والحضارات”.