الأب كميل مبارك
أوّل ما قرأت هذا العنوان تبادر إلى ذهني أمر قد لا يليق بهذا المقام ولكني حاولت أن أنحرف عنه إلى
أمر يليق، وقلت ما هي هذه السلطة ومن سلّط الناس على الناس؟ من أين أتت السلطة؟ هل تأتي من القوّة؟ هل تأتي من المال؟ هل تأتي من القانون والدساتير؟ أم هل تأتي من الله؟
إذا كانت من الله يجب أن نبحث في الكتاب المقدس عن ما يُبرّر هذا الخيار. ثم تساءلت عن كرامة الانسان، ومن ينظر إلى ما يجري في العالم اليوم يسأل عمّا إذا كانت للإنسان كرامة؟ فأتى الجواب سهلاً كرامة الانسان كلّ إنسان، إلى أي دين انتمى وإلى أي عرق انتمى، أو إلى أي لون انتمى، تأتي من كون هذا الإنسان هو صورة الله وليس هناك سبب آخر. ولأنه صورة الله أخذ هذه الكرامة وبالتالي حُقَّ له كلّ الحقوق وكل الحريات وكل الكرامات أكانت هذه الكرامات بشريّة أم نازلة من السماء.
وأعود إلى السلطة، من يقرأ الانجيل يقع في حيرة، فحينًا نرى كلامًا يقول على لسان المسيح، لا تدعو لكم على الأرض سيدًا فإن سيدكم واحد وهو في السماء. يعني هذا الكلام أن ما من سلطة من أحدعلى أحد، وهنا نبع الكرامة وهنا تتجلى الكرامة، الناس يتساوون فلا مَلِك ولا أمير ولا رئيس ولا قائد ولا غني ولا فقير، وزاد على ذلك مار بولس، ولا رجل ولا إمرأة ولا عبد ولا سيّد. لا تدعوا لكم على الارض سيّدًا، إذًا ما من سلطة من أحد على أحد على هذه الأرض. ولكننا نرى في مكان آخر المسيح يقول لبيلاطس عندما أراد هذا الاخير أن يُهدِّدَه بالموت أو يعدَه بالحياة، قال له يسوع لم يكن لك هذا السلطان ولو لم تُعطَهُ من فوق.
إذًا الله يعطي السلطة للناس على الناس ولكن ليدبِّروا شؤون الناس لا ليستبيحوا حقوق الناس ويذلوهم. أمّا في قَول يسوع: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فالتمييز الواضح بين السلطتين السلطة الإلهية والسلطة البشرية، والسلطة البشرية قال لنا أنها تأتي من الله ولكنه لم يُنكر أنَّ لقيصر سلطة في تدبير الشأن العام، أمّا الوضوح الساطع في قراءة موضوع السلطة فيأتي عند بولس الرسول في رسالته إلى أهل روما وعند بطرس أيضًا عندما قالا ما معناه: أيها الناس أطيعوا رؤساءكم ومدبريكم لأن السلطة من الله ومن يخالف السلطة يخالف الله.
لو اكتفى بولس بهذا الكلام لقضى على كل تطوّر في المجتمعات البشرية، ولقضى على كل قوى التغيير، ولقضى على كلّ فكرة من أفكار الثورة وعلى كلّ روح تحرُّر بين الشعوب. ولكنَّ بولس استدرك وقال: اطيعوا أيها النّاس رؤساءكم ومدبريكم طالما أنهم يعملون إرادة الله ويسهرون على الخير العام، ثم أضاف موضحًا بكلام معناه: إذا لم تفعل السلطة إرادة الله وتسهر على الخير العام أعفيتم من طاعتها لا بل وجب عليكم مقاومتها. وهذا هو مبدأ التحرّر وهذه هي المسيحية: ممنوع القهر وممنوع الظلم.
ثم نقرأ بين السطور أنَّ السيد المسيح لم يرفض أي سلطة قائمة على الارض، رفضًا للسلطة، ولكنه رفض أساليب السلطة في القمع وحجز الحريات وتسخير الناس، أكانت هذه السلطة تستند إلى الكتاب المقدس أو أي كتاب يدّعون أنه من الله أو تستند إلى إرادة البشر في القوانين الوضعية، ألم يقل للكتبة والفريسيين أيها الحيات أولاد الأفاعي؟لماذا؟ لأنكم تحمّلون الناس أحمالاً ثقيلة ولا تمسَّونها بإحدى أصابعكم واليوم لأنكم تزيدون الضرائب والرسوم ولا تراقبون الغلاء والاحتكار وتنهبون المال العام ولا تقرّون ميزانية الدولة لأكثر من عشر سنوات.
ألم يقل لهم انكم اشبه بالقبور المكلّسة، تظهرون بأحلى المظاهر وقلوبكم مليئة غدرًا وخبثًا؟ واليوم، تظهرون على شاشات التلفزيون بابتساماتكم الصفراء الكاذبة لتعدوا الناس بالخير والانماء والازدهار، وعيش الحريّة والكرامة وبأنكم تسهرون على حقوق الانسان كاملة، وبالواقع تسلبون الخير وتفاخرون بالانماء الى جماعاتكم وتحجزون حرية من لا يوافقكم الرأي والمسار أو حقوق الانسان، فهي آخر همّ يُثقل ضميركم. فالمسيح يبحث عن العدل في السلطة.
والرسالة الظاهرة في السيد المسيح المتجسّد أفقيًّا هي نشر العدل بين الناس ورفع الظلم، هذا ما قاله بلسانه عندما أخذ الكتاب ليقرأ ففتح كتاب إشعيا وقال،مسحني الله وأرسلني لأبشر المظلومين برفع الظلم والقهر وما شابه من مشاهد التعاسة التي تُذِلّ كرامة الإنسان وتنزل بها إلى أدنى دركات المخلوقات الأخرى، هذا وجهٌ من نشاط المسيح الافقي، بين الناس عدا عن الوجه الأساس وهو الفداء وخلاص البشر.
ونحن كذلك ، لا نرفض السلطة بأي شكل أتت ولا نرفض السهر على تنظيم علاقات الناس ببعضهم البعض، ومن ينظم علاقات الناس غير السلطة؟ نعم السلطة. ولكننا نرفض كل وجوه الاستغلال في أي سلطة كانت أأتت من القانون أم من القوة من الله من حيث المنطلق ثم انحرفت. لقد قال البابا القديس يوحنا بولس الثاني: كل من يريد أن يتعاطى بالشأن العام – يعني العمل في الحقل السياسي التدبيري – كل من يعمل في هذا الحقل يجب أن يتحلى بصفات ثلاث هي العلم والخبرة والاخلاق.
لم يسأل المسيح بطرس عندما سلّمه السلطة عن أي استعراض عسكري قادر أن يقوم به، ولم يسأله عن مخزونه المالي أو عن تحالفاته التي يمكن أن يقوم بها بين الناس. ولكن سأله عن النبع الأساس الذي يجب أن يكون جاريًا في قلب السلطة ألا وهو المحبة، أتحبني إرع خرافي، إرع حملاني إرع نعاجي. وكل سلطة على الأرض أيًّا تكن هذه السلطة فقدت فعل المحبّة من أعمالها وتصرفاتها وأحلامها ورؤياها المستقبلية وتدبيرها للناس، سقطت من أن تكون سلطة آتية من الله ووجب على الناس أن يثوروا عليها، ولكن كيف يثورون؟ موضوع آخر، لأن كل ما يُذلّ الانسان ممنوع حتى في الثورة على الظلم.
لقد سبق البابا يوحنا بولس الثاني بما يشبه هذا الكلام، البابا بيوس الثاني عشر عندما قال: كل قرار تأخذه السلطة يجب أن يستند إلى ركيزتين هما القانون والاخلاق، لاحظوا أيُّها الاخوةتركيزهما على الاخلاق كركيزة كي تكون السلطة علامة حضور الله بين الناس.
لقد خلقنا الله أحرارًا لنحيا ملء الحياة ونعيش الفرح ولكننا ضللنا الطريق، وفقدنا الحس المشترك بين الناس الذي يقوم وينبع من كرامة الناس، هذا الحس المشترك لخصه الانجيل بكلمتين: إفرحوا مع الفرحين واحزنوا مع الحزاني، لقد فقدنا الحس المشترك وبتنا نفرح لأحزان الناس ونحزن لأفراحهم، هذا يُسمى شعبيًّا الشماتة، وليس على مستوى القاعدة فقط إنما على مستوى السلطات، أجل لقد فقدنا الحس المشترك، وبالتالي فقدنا كل ما يربط الناس ببعضهم البعض من قوى التآخي والتضامن والتآزر في سبيل الخير والسهر على بعضنا البعض، كما حدّد هذا قداسة البابا القديس عندما قال الجميع مسؤول عن الجميع، يعني لا يستطيع أحد أن يتحرّر من المسؤولية.
إذا نظرنا إلى عالم اليوم، هذا العالم المنفتح المكشوف حيث لم يعد للخصوصية مكان ولا للحميمية مقرّ، نرى أنّنا نزداد معرفة لا شكّ ولكننا نتصرّف كالمغفلين، تقول القاعدة من يزداد معرفة يتصرف كالعارفين، أنظروا كيف يتصرّف الناس حتى في أرقى الدول وأرقى المجتمعات حيث الثقافة تصل إلى مستوى القمّةيتصرفون كالمغفلين، نعم نفكّر كثيرًا، نفكّر أفرادًا، وجماعاتٍ، وفرقَ عملٍ،ولكن إلى جانب هذا التفكير الكبير نرى أن شعورنا ببعضنا البعض ومع بعضنا البعض قد خف وشحّ وانقطع.
وماذا تنفع المعرفة والتفكير عندما تنقطع أواصر الأخوّة بين النّاس وتفقد السلطة ثقة الناس ويفقد الناس محبة السلطة، وتصبح الكرامة موضع مزاد علني بين القوي والغني المالك والقاهر، والناس يتساقطون كالأغنام ولا يُدفنون. فأين سلطات العالم في الشرق وفي الغرب؟ أين العالم المتحضّر الذي يتهم نفسه، لا أقول يصف نفسه، بالديمقراطية والرقي والحضارة أين هذا الاعلام الذين يتفاخرون بأنه وصل إلى الكواكب والاقمار، يغمض عينه عن الضحايا والدمار ويصوّر حثالة الناس يتسابقون إلى الرذيلة؟ نعم يسقط آلاف القتلى والجرحى تُهدم المدن وكأنَّ شيئًا لم يكن، وإذا مُسّت شعرة واحدة من رؤسهم تقوم القيامة ولا تقعد، هذا هو التمييز بين السلطات، الذي رفضه القديس بولس وأمرنا برفض هذه السلطة وشجبها.
إن الشقاء الذي تعيشه البشرية في هذه الأيام، هو نتيجة الخطيئة الاصلية الجديدة، نعم شقاء الماضي وما قبل الطوفان كان بسبب خطيئة آدم وحواء، أما الخطيئة الاصلية اليوم فهي رفض الآخرين ونكران حقهم بالوجود واستغلال قدراتهم ومكانتهم، وما ذلك إلا بدافع من الجشع والطمع والاستعباد أو الاستبعاد. ونبحث عن أسباب الحروب! نبحث عنها في الواقع الديمغرافي والجغرافي والاقتصادي وما شابه من الأسباب، ولكنَّ السبب الوحيد جاء في الكتاب المقدس حين قال: من جرّاء كثرة الاثم تجفّ محبة الكثيرين.
لذلك نرفع صلاتنا إليك يا الله كي ترأَفَ بهذا العالم ولا تُسْلِمه إلى خطيئَته فيهلكَ في كبرياءِ جنونه، ليَنْتشِلَه حبُّك الجذَّاب من غرور ذاتِه وأباطيل مصنوعاته فيُقلِعَ عن إرادته الطائِشة ليعملَ بوصاياك النيِّرَة ويذوق منها باكورةَ الفرحِ الذي أَعْدَدْتَه لنا من الآن وإلى أبد الآبدين. آمين.