كلود أبو شقرا
على تلة وسط برقين الواقعة إلى الغرب من مدينة جنين في الضفة الغربية، تقع كنيسة القديس جاورجيوس متحدية الزمن الذي وقف على عتبتها خاشعاً أمام حضور مقدس يملأ المكان منذ أكثر من الفي عام، حضور السيد المسيح الذي مرّ بهذا المكان، وشفا العشرة البرص، بعدما لجأوا إليه طالبين مساعدته في الشفاء.
كان أهالي البلدة احتجزوهم داخل مغارة مظلمة لا تزال قائمة لغاية اليوم، خشية انتشار العدوى، وكانوا يقدمون الطعام والشراب لهم، من خلال فتحة في أعلى المغارة، إلى أن شفاهم السيد المسيح من هذا الداء، وعادوا لممارسة حياتهم الطبيعية، كما جاء في “إنجيل لوقا”. يذكر أن المسيح مرّ على برقين أكثر من مرة وهو في طريقه من الناصرة إلى القدس، وتخليداً لهذا الحدث شيدت كنسية في القرية ما زالت آثارها باقية حتى اليوم..
بخور ومعجزات
تضمّ كنيسة مار جاورجيوس جرن معمودية يعود إلى القرن السادس للميلاد والايقونسطاس والكرسي الأسقفي يعود إلى اكثر من 1500 عام، وهو أحد اثنين في العالم، أحدهما في كنيسة برقين والآخر في حلب، يعتليه صليب وتتوسطه صورة للسيد المسيح، ويتكئ عليه رأسا.
كشفت أعمال الترميم في الكنيسة وجود جثث لثلاثة من رجال الدين ولطفل كانت مدفونة في ساحة البئر، واظهرت الفحوصات العلمية للهياكل العظمية أن عمرها حوالى 500 عام، وثلاث آبار مفتوحة على بعضها في ساحة الكنيسة، كانت تستخدم كمخابئ خلال فترة الحكم الروماني وفيها أماكن لوضع قناديل الإضاءة.
في إحدى زوايا الكنيسة خزانة زجاجية تضم أجزاء قديمة من الإنجيل، زجاجات تعود الى القرن الرابع الميلادي تحتوي زيتاً مقدساً، ملعقة أثرية وأختاما وأسرجة إنار، أيقونة أثرية للمسيح عمرها 300 عام. ويروي أبناء البلدة أن معجزات كثيرة حدثت في هذه الكنيسة من ظهورات وشفاء للمرضى، وأن رائحة البخور تفوح على مدار الساعة من الكنيسة العريقة ذات الأحجار القديمة التي تعود بالزمن إلى ألفي عام.
أوضح معين جبور (مسؤول عن استقبال الزوار في الكنيسة) أن “خلال سنوات الانتفاضة التي اندلعت عام 2000 ضعفت الحركة السياحة وقلّ زوار الكنيسة والمنطقة. في 2010 بدأت الحركة السياحية تعود الى الكنيسة، واليوم ثمة حركة دائمة، سواء سياحة من روسيا أو المانيا أو غيرها من الدول الغربية، أو رحلات مدرسية من انحاء الضفة الغربية بما فيها القدس، لكننا نحتاج الى إعادة تأهيل البنية التحتية وأهمها الطريق الذي يصل الكنيسة بالشارع الرئيسي في مدينة جنين القريبة”.
أقدم كنيسة
كنيسة القديس جاورجيوس، رابع أقدم كنيسه بعد كنائس المهد والقيامة والبشارة في الناصرة، يعود أصلها إلى الفترة الرومانية، وكانت عبارة عن مغارة يعيش فيها مرضى الجذام، وفي الفترة البيزنطية تحولت المغارة إلى كنيسة صغيرة جداً لا تتسع لعدد كبير من المصلين، وفي نهاية الفترة البيزنطية، جرى توسيعها. في ما بعد دمرت الكنيسة وأعيد بناؤها إبان الحملات الصليبية، واشتملت على غرف إضافية وساحة حول الكنيسة، وهي تعتبر طريق الوصل للحجاج المسيحيين من الناصرة إلى بيت لحم. وقد أجرت دائرة الآثار بوزارة السياحة الفلسطينية أعمال صيانة وترميم مكثفة في الكنيسة والمنطقة المحيطة بها عامي 1996 و1997.
يذكر أن الكنيسة بنيت في زمن الملك قسطنطين وأمه الملكة هيلانة الرومانيين الّذين اعتنقا الدين المسيحي وجعلاه الديانة الرسمية لدولتهم، وأمرا ببناء الكنائس للتعبد والتقرب من الله، وكان من ضمنها كنيسة القديس جاورجيوس، فتم توسيع الموقع القديم فيها وبنيت غرفة إضافية قبل 1600عام.
يشير نايف قحاز، وكيل الكنيسة منذ 30 سنة، إلى أن الحجاج والسياح كالسفراء والقناصل من أنحاء العالم يأتون لزيارة الكنيسة، بشكل شبه يومي، متجاهلين الدعاية الإسرائيلية التي تصوّر الأراضي الفلسطينية، على أنها ساحة حرب، وتشكل خطراً كبيراً على السياح الأجانب.
يجزم بأن القاطنين بجوار الكنيسة، يسمعون أصوات ألحان وتراتيل دينية، ويشمّون رائحة البخور تنبعث من الكنيسة، خلال ساعات الليل، من دون أن يكون في داخلها أحـد.
ورغم صغر مساحة الكنيسة التي تحتوي قاعة صغيرة، إلا أنها تضم في تجاويفها المغارة القديمة التي وضع بداخلها الهيكل المخصص للكاهن القائم مكان السيد المسيح، وهو هيكل عظيم تتم الذبيحة الإلهية فيه، ويمنع دخول النساء إليه بسبب طهارة المكان.
شهدت الكنيسة ترميمات أحدثها عام 2007، اكتشف خلالها بئر روماني ارتفاعه سبعة أمتار يصل إلى ثلاثة غرف تحت الأرض، وكان يستعمل لتنقل الرهبان خلال فترة الاضطهاد الروماني.
استراحة للمسيح
تقع بلدة برقين غرب مدينة جنين، على جبال وتلال متفرقة، وتجمع في تضاريسها بين ثلاث بيئات مختلفة: الأراضي السهلية، والجبال المرتفعة نسبياً مقارنة بالمدينة، والوديان. وترتفع حوالي 270 متراً عن سطح البحر، وهي التجمع الأقرب إلى جنين، إذ تبعد عنها مسافة كيلومترين، باتجاه الغرب. ترتبط بالمدينة بطرق رئيسة وفرعية، تحدها شمالاً قرية كفرذان، ومن الجنوب سهل عرابة، ومن الشرق جنين ومخيمها، فيما تقع قرية البارد (الهاشمية) وكفرقود في ناحيتها الغربية. تحيط بها أحزمة خضراء من أشجار الزيتون، التي تعود إلى العهد الروماني، ويطلق عليها الأهالي “الزيتون الرومي”.
تعتمد البلدة على القطاع الزراعي بنسبة كبيرة، وتقدر مساحة الأراضي التي يزرعها السكان في سهل مرج ابن عامر بنحو 18 ألف دونم، إضافة إلى 8 آلاف أخرى في سهل عرابة، وتبلغ مساحة الأراضي المزروعة بأشجار الزيتون وغيرها من الأشجار الرعوية 10 آلاف دونم.
يقع وادي برقين إلى الغرب من مدينة جنين على بعد كيلومترين، ويمر من الجهة الشمالية شارع برقين جنين وشارع حيفا جنين، ومن الجهة الغربية جبل الجابريات وخزان المياه التابع لبلدية جنين. أما من الجهة الشرقية فيوجد مخيم جنين، ومن الغرب وادي الخوري الذي يفصله عن قرية برقين التي تبعد حوالي كيلومترين تقريبا. تبلغ مساحة وادي برقين كيلو متر مربع واحد تقريبا. وهو ذو طبيعة جبلية حيث يقع على تلة صغيرة أسفل جبل عال ويتبع له من الجهة الشمالية بعض المناطق الزراعية السهلية وهي جزء من مرج بن عامر المشهور بخضرته. أما بقية الأراضي التابعة له فهي جبلية صخرية فيها بعض أشجار الزيتون واللوز.
تعود تسمية البلدة حسب بعض المصادر إلى زمن المسيح، فحين خرج من الناصرة متوجّهاً نحو مدينة بيت لحم مرّ على موقعٍ وجد فيه كهفاً يأوي مصابين بمرض البرص فشفاهم، وسمّي الموقع “بورصين” وتحوّل بعد ذلك إلى بورقين ومن ثم استقر على برقين. وربما تكون تسمية برقين قد أتت من الجذر السامي المشترك “برك” بمعنى الاستراحة.
عُرفت البلدة بأكثريتها المسيحية في القرون السابقة، لكن لأسباب اقتصادية اضطر كثر منهم للهجرة الداخلية أو إلى الخارج؛ وتشير تقديرات إلى بقاء أقلية منهم في البلدة حالياً.
عانت برقين كغيرها من مدن وبلدات الضفة الغربية من الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967، وقد صادرت سلطات الاحتلال جزءاً من أراضيها وأقامت عليها مستوطنة بروكين، وهي قرية تعاونية أنشأت عام 1982. وكان للبلدة شأن كبير في المقاومة الفلسطينية، كما حدث خلال الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، وبعد انتفاضة الأقصى عام 2000.
ظلت برقين قرية صغيرة طيلة الفترة العثمانية، وألحقت بسنجق نابلس ضمن ولاية بيروت في أواخر القرن التاسع عشر. وعندما سقطت فلسطين بيد الجيش البريطاني عام 1917، ألحقت القرية بقضاء جنين ، واستمر العمل بهذا التقسيم الإداري حتى النكبة عام 1948.
خاضت برقين مع غيرها من قرى جنين معركة الدفاع عن وجودها ضد المنظمات الصهيونية المسلحة، التي استولت سنة 1948 على قرى زرعين والمزار، ونورس، وصندلة والجملة، والمقيبلة، وفقوعة، وعرانة، وحاولت الاستيلاء على مدينة جنين، فطوقها 4 آلاف صهيوني في 3 حزيران 1948، واستولوا على معظم أحياء المدينة، وتحصن العرب في عمارة الشرطة في المدخل الغربي لجنين. حتى وصلت نجدة للمحاصرين قوامها 500 جندي عراقي بقيادة عمر علي وحوالي 800 من المقاومين الفلسطينيين من المدينة.
وبعد معارك دامية خارج البلدة وفي شوارعها وأزقتها شارك فيها سكان المنطقة وقراها المجاورة تقدم العرب لاسترداد قراهم المحيطة بالمدينة، وكانت معركة جنين التي وقعت في 3 حزيران 1948 فاستشهد منهم العشرات بالإضافة إلى الجرحى، وأدت في آخر المطاف إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من جنين في 4 حزيران 1948 وتكبيدها خسائر جسيمة بلغت 1241 قتيلاً ومفقوداً.
دخلت جنين وقراها بما فيها برقين مع باقي الضفة الغربية في اتحاد مع المملكة الأردنية الهاشمية (1951)، وأصبحت جنين عام 1964 مركزاً للواء جنين التابع لمحافظة نابلس،و كانت برقين حتى تلك الأيام قرية صغيرة. بقيت جنين تحت الحكم الأردني حتى احتلالها في حرب 1967 أو النكسة.
رزحت برقين تحت الاحتلال الإسرائيلي وألحقت بمنطقة جنين التي يحكمها حاكم عسكري إسرائيلي مباشرة. استمر هذا الوضع حتى قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1995، وأصبحت ه برقين بلدة منذ عام 1999، وتتبع لمحافظة جنين، ووقعت معظم أراضي المحافظة ضمن تصنيف (أ) و(ب) حسب اتفاق أوسلو.
عام 2013 افتتحت “جمعية دار العلم الطلابي” في جنين مركز التراث الفلسطيني في برقين بدعم من القنصلية العامة البريطانية في القدس، بهدف تنشيط الشباب وتفعيل دورهم في المجالات الثقافية والتطوعية، والترويج للسياحة المحلية والدولية في البلدة، فضلاً عن توفير فرص العمل للسكان المحليين، ولا سيما النساء، إذ يساعدهن المركز في عرض منتجاتهن من المطرزات والأعمال اليدوية والمنتجات الغذائية وتسويقها.
اليوم، يطمح سكان برقين إلى وضع بلدتهم على خارطة السياحة العالمية من خلال مشاريع لتطوير البنية التحتية ومبان تاريخية مع وجود واحدة من أقدم كنائس العالم في البلدة.
وقال محمد الصباح رئيس بلدية برقين: “لدينا مشاريع طموحة لإعادة تأهيل المرافق في البلدة التي تؤهلها لاستقبال السياح الذين يأتون لزيارة كنيسة برقين التاريخية التي تعود إلى أكثر من الفي عام”. أضاف :”شاركنا في العام الماضي بمؤتمر دولي في إيطاليا قدمنا خلاله تعريفا بالبلدة وبالكنيسة وتاريخها”.
كلام الصور
1- واجهة كنيسة برقين
2- لوحة على باب الكنيسة
3- قلب الكنيسة
4- أحد مذابح الكنيسة
5- ترميم أحد مداخل الكنيسة
6- بلدة برقين