“قطعة أرض فارغة” لألفرد طرزي… ذاكرة جماعية للحرب

منار علي حسن

“قطعة أرض فارغة” عنوان معرض للرسام التشكيلي الشاب  الفرد طرزي في غاليري جانين ربيز- Alfred Tarazi, East and West, 2015, mixed media on paper, stainless steel box , 150 x 150 x 13 cm , 150 x 1000 cm  (16)بيروت(22 إبريل- 23  مايو)، يتضمن  مجموعة من اللوحات ذات خصوصية في الشكل والمضمون، تغوص في عالم الفنان المتمحور حول الذاكرة الجماعية للحرب التي دمرت لبنان بين 1975 و1990، وانطبعت في وجدانه، وتركت جروحاً نازفة في قلبه عبر عنها من خلال رموز واشكال  تتعلق بكل ما يمت إلى هذه الأرض بصلة، من تمثال الشهداء في وسط بيروت، إلى الرجل الذي يتنازعه الخير والشر، إلى الوجوه المنكسرة…

  لألفرد طرزي شغف بالتصوير والنحت. أعماله مستوحاة من الصدمات التي اختبرها نتيجة الحرب في لبنان، وتظهر الصراع السياسي والجغرافي والاجتماعي. كذلك هو شغوف بالسينما إلى درجة أن لوحاته المعروضة لا يمكن مشاهدتها على غرار أي لوحة عادية، بل هي ملفوفة ضمن  علبة من الألومينوم والزجاج، يمكن مشاهدتها من خلال تحريك مقبض، فتمر المشاهد أمام المتلقي تماماً كما يشاهد فيلماً سينمائياً مقتبساً من ذكريات مؤلمة، لا يقوى الزمن  على محوها لأنها تحفر عميقاً في النفس، من الجماجم المكومة على زاوية طريق إلى  الدمار والركام، إلى خارطة لبنان إلى خارطة بيروت، ويبلغ طول بعض هذه اللوحات  عشرة أمتار.

alfred tarazi 1

الفريد طرزي

 في  المعرض أيضاً تجهيز من حديد وبحص  يرمز إلى ما ارتكبت سوليدير من خطأ عندما جرفت  حضارة بيروت ورمتها في مكب النورماندي وكل الشهداء الذي سقطوا. فضلا عن لوحات بطول ثلاثة أمتار ملفوفة ويمكن مشاهدتها من خلال مقبض، تحكي مآسي الحرب المريرة  وتدعو إلى نبذها والاتعاظ منها كي لا تتكرر.

 مدى فارغ

 يأتي هذا المعرض نتيجة عمل سنوات في اكتشاف المدى الفرغ وسبر أغواره، والعمل على مفاهيم الاحتفال والتأمل، الحزن والأمل، في محاولة من الفنان لتخيّل نهاية الحرب في لبنان، وهذه النهاية بالذات لا يمكن بلوغها إلا عندما يتوحد اللبنانيون حول تكريم الشهداء  الذين قضوا تحت القذائف وأعمال العنف التي لا نهاية لها.

يطرح المدى الفارغ سؤالين: سبب هذا الفراغ واحتمال التدخل والكتابة فيه، بالنسبة إلى ألفرد طرزي، الفراغ هو مساحة غاليري جانين ربيز  التي تعتبر أحد الأماكن الأولى المكرسة للفن في لبنان، وفيها ابتكر نصباً تذكارياً لضحايا الحرب في لبنان.  تكمن فكرة النصب التذكاري  في استثمار المساحات مع الأعمدة الحجرية ووسم عدد الوفيات الناجمة عن الحرب. رغم أنها فارغة، إلا أن هذه المساحات  تحمل في طياتها تاريخاً وذاكرة الذين دفنوا تحت الأنقاض، في وقت عالق بين الإعمار والنسيان.

أما السينما، فهي، بالنسبة إلى الفرد طرزي، مصدر وحي، تمنحه إمكانية ربط تسلسل الصور واستفزاز المشاهد عبر سيل من الأحاسيس. ربما تتطلب  اللوحة مزيداَ من ضبط النفس من هنا تركيزه على الصورة، ضمن إطار واحد، بهدف التكامل والتناغم بين التشكيل والسينما، منى هنا يمكن القول إنه رسام السينما التي تضيف ما ينقصه في الرسم: الصوت، فضلا عن إنشاء منصات جديدة لإثارة مواجهات بين الوسائط المختلفة والأفكار الجديدة.alfred tarazy

هذه الممارسة الفنية بالذات، تفتح آفاقاً أمام الفنان لصياغة تعليمية من خلال الأفكار التي يطرحها، فهو، منذ سنوات، يركز عمله على كتابة التاريخ المعاصر للبنان، ولا شك في أن المسألة بالنسبة إليه هي إمكانية التعايش بين القصص المتضاربة أحياناً، وبين الخصوم أحياناً أخرى.

  مناقشات وصدمات

 لا يتوقف عمل ألفرد طرزي عند حدود اللوحة أو المدى الفارغ  في الغاليري، بل يتجاوزه إلى المناقشات التي  تثيرها اللوحات مع الجمهور،  وتبدو له، في كل مرة، حقيقة أن الحرب  حاضرة في الذاكرة وفي التاريخ على الدوام ومع تعاقب الأجيال.

لدى عرضه مجموعة من لوحاته في فيينا، وهو كثيراً ما يعرض هناك، لاحظ طرزي أن المدرسة النمساوية ما زالت تعيش ذكرى الحرب العالمية الثانية، وتنتقل هذه الذكرى من جيل إلى جيل. من هنا تبدو سمة  ألفرد طرزي الأساسية استرجاع الأفكار والوساوس إلى ما لا نهاية، كيف لا وهو يعيش في منطقة الشرق الأوسط المتفجرة، حيث يكتب التاريخ بعنف يومياً أمام أعين الناس، وهذه القصة بالنسبة إلية تستعصي على الفهم، فيما باتت الأولوية البقاء على قيد الحياة خلال رسم شرق أوسط جديد.

هذه الفترة بالذات يعمل طرزي على استكشافها لفهم مصادر الشر في هذه المنطقة، في ظل حاجة إلى مشروع مستقبل مستقرّ.

تتعدد وسائل التعبير الفني لدى ألفرد طرزي من الميكسد ميديا، إلى الرسم، التصوير الفوتوغرافي، النحت، الكولاج وصولا إلى الطباعة الرقمية…  يجمع بينها هدف مشترك هو تحليل الحرب في لبنان وإعادة روايتها كي لا تنمحي ذكراها من الوجدان ولو مرت سنوات طويلة عليها، فضلا عن أنها المحرّض في محاولة إعادة الاتصال مع الأوقات السوداء في لبنان.alfred tarazy 1

أثارت المعضلات بعد الحرب في لبنان وعي الفنان حول الصدمات الناتجة عنها على الصعد السياسية والجغرافية والاجتماعية، في محاولة منه لفهم الصراع، وقد عبر عن ذلك في الفن التصويري الرقمي، الذي يعيد رسم حالات سابقة وظروف تجعل المتلقي في مواجهة مع الماضي وإعادة تقييم علاقته به.

الظلام والضوء، الثابت والمتحرك، الأفقي والعمودي، ثنائيات تحدد العمل الفني الذي يعكس شخصية ألفرد طرزي بشكل واضح،  ويجعل من أدائه التشكيلي وسيلة حية وفاعلة وناشطة لتسليط الضوء على هذه الحرب المعقدة التي ضربت  بلد الأرز وتضرب الشرق الأوسط راهناً، من خلال رموز غامضة، تحمل في طياتها صوراً عن مواكب الموتى، المفقودين، قصصاً عنيفة وقاسية نشرت في الصحف وطواها النسيان فترة طويلة.

 شاهد وذكرى

 لا ينصب  الفنان نفسه مؤرخاً للحرب اللبنانية، مؤكداً انه غير مخوّل القيام بذلك، بل  يقصد أن يكون شاهداً  يتذكر ويجمع القصص على منصة واحدة أو بالأحرى على مساحة واحدة، كي لا يخفت الألم في النفوس أو يزول، لأنه وحده الكفيل، إذا بقي، بمنع تكرار المأساة.

من الواضح أن الفرد طرزي لم يعش طفولته فقد سرقتها الحرب منه، هو الذي ولد في خضم اشتعالها، لكن ما هو أقلّ وضوحاً أن تسعينيات القرن العشرين أنتجت صمتاً ثقيلاً “يصم الأذان” أكثر من  دوي الأسلحة، وكان في سني مراهقته، فعمد بعد ذلك إلى إزالة الغموض لفهم الأحداث والمنحى الذي اتخذته، لكنه شعر في الوقت نفسه أن إعادة كتابتها يستلزم منه التحرر من وسيلة تعبير محددة وتسخير الوسائط المتاحة، لجعل المتلقي يتفاعل أمام ما يراه من تراكم المآسي في كل عمل واستردادها من خانة النسيان. لكن يبقى الظلام مخيماً عليها، فحيث الواقع حاضر بقوة لا مجال للخيال ليفعل فعله ويجمل أو يبتكر عالماً آخر. alfred tarazy 2

ليست الصور التي تمر أمام المشاهد من وراء زجاج  علب الألومينيوم إدانة أو تحرضاً إنما هي لفهم ما حدث ويحدث وتحذير من الوقوع في فخ الحرب، وليصبح المشاهد طرفاً فاعلا في صناعة التاريخ  وهذا ما لم يفعله اللبنانيون للأسف.

بدأ ألفريد طرزي العمل على ذاكرة الحرب منذ 2005، بعدما لاحظ أن  الأحزاب التي شاركت في الحرب تدأب على نشر صور مقاتليها الذي سقطوا في أرض المعركة وتقيم احتفالات لذكراهم بينما الأشخاص العاديين الذين سقطوا من دون أن يكون لهم أي ذنب، لا يأتي أحد على ذكرهم، لذا أخذ على عاتقه أن يذكر بهؤلاء الذي قضوا تحت الأنقاض أو فقدوا، وغابوا في طيات الإهمال.

الصور والمشاهد في أعمال  طرزي لا تتكامل ولا تتقاطع ولا تندمج، في ما خلا تلك التي تمثل ثنائية  الخير والشر لدى الإنسان،  وتسجل ظاهرة  عبادة بعض الشهداء في حين لا يذكر آخرون لأنهم مدنيون لا ينتمون إلى هذا الحزب أو ذاك… وتتوقف عند تقاطع العمران والركام في بيروت، مظاهر الحداد والاحوال الاسياسية، الفن الهابط وأحوال اجتماعية يغرق بعضها في المادية والمصالح… إلى ما هنالك من قصص مخبأة في  زوايا البيوت والأزقة ولا تجد من  يخبر عنها.

 نبذة

ولد الفرد طرزي عام 1980. درس التصميم الغرافيكي في الجامعة الأميركية في بيروت، ويركز عمله على الذاكرة والحرب الأهلية اللبنانية. منذ عام 2000، شارك في معارض جماعية في لبنان والكويت ودبي ولشبونة  وباريس وأبوظبي وسنغافورة. وهو عضو في ورشة عمل Hapsitus ( فريق متعدد التخصصات) أسسها  المهندس نديم كرم ويديرها، وتحرّض على الشعور الجماعي، يشارك فيها نشطاء في حقول  الثقافة المتعددة وتهدف إلى تغيير أنماط التفكير في بيئتهم.

****

(*) جريدة الجريدة. 

 

اترك رد