الأب كميل مبارك
حين نبحث في حياة يسوع التاريخيَّة لا بدَّ لنا من وقفة تأمُّل، أَمام المعجزات الباهرة الخارقة الطبيعة، التي قام بها يسوع وكانت سببًا أَساسيًّا من أَسباب لحاق الناس به وسعيهم وراءه ومعرفتهم له. هذا وقد كانت المعجزات واحدة من البراهين أو الحجج التي اعتمدها المسيحيون لمدة طويلة من الزمن في دفاعهم عن حقيقة أُلوهيَّة المسيح وعن تحقيق رجاء الآباء به.
أَمَّا اليوم ومنذ يقظة العقل البشري على ذاته، ومحاولته التحرُّر من كلِّ ما هو خارق للطبيعة ولا يخضع للعلم، فقد وقف كثيرون موقفًا سلبيًّا من المعجزات واعتبروها ذات قيمة أدنى من قيمة التعاليم التي أَعطاها المسيح. أَمَّا البعض الآخر فقد اعتبرها من مكامن الضعف في النصوص المقدَّسة. وهذا ما دفع جان جاك روسو إلى القول أَسقطوا أَخبار المعجزات من الأناجيل وحينها ترون العالم بأَسره ينحني أَمام عظمة المسيح.
فما هي هذه المعجزات وما هو دورها ومغزاها وقيمتها في إعلان الملكوت أَيَّام المسيح ومعه وبه، ومن ثمَّ في زَمَن البشارة؟ علمًا أَنَّ السيِّد المسيح أَعلن عن ذاته وعن مجيء الملكوت وعن أُبوّة الله له في محطَّات أَساسيَّة من حياته العلنيَّة. أذكر منها:
– قوله «اليوم تحقَّقت هذه الكلمات»، حين قرأ الكتاب المقدّس في مجمع اليهود: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لأنَّهُ مَسَحَني لأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين وأُعلِنَ سَنَةَ رِضًا عِندَ الرَّبّ”.
– حين اعتمد بمياه الأردن على يد يوحنَّا وحلَّ الروح القدس عليه بشكل ظاهر، وسُمع صوت الآب يقول هذا هو ابني الحبيب.
– عرس قانا الجليل حيث حوّل الماء إلى خمر فآمن به تلاميذه.
– قوله لمن سأَله من تلاميذ يوحنَّا هل أنتَ المسيح أَم ننتظر آخر؟ «إذهبوا وقولوا ليوحنَّا العميان يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والموتى يقومون وطوبى لمن لا يشكُّ فيَّ”.
فلو اكتفينا بهذه المحطَّات للاحظنا أنَّ فيها تحقيقًا لكلام الأنبياء من جهة، وإظهارًا لقدرة المسيح الإلهيَّة من جهة أُخرى وذلك عبر المعجزات وكلمات الكتاب.
1- مفهوم الشعوب القديمة للمعجزات
دخلت فكرة المعجزة إلى معتقدات الناس منذ ما قبل العهد القديم مع ابراهيم، أَي قبل نشوء شعب الله والعلاقة المميّزة معه والذي سيرد الحديث عنه لاحقًا. لا شكَّ أَنَّ المعجزة تعبِّر في المطلق، عن عجز الإنسان أَمام بعض ما يجري في الحياة من مصاعب وأَحداث، لم يكن للعقل البشري أو للفطرة الإنسانيَّة، القدرة على التدخُّل بها ولا حتى على تفسيرها في معظم الأحيان.
وأمام هذا الغموض، أَلصق البشر هذا الحدث بقدرات خارقة غالبًا ما أسموها آلهة، أو أَنصاف آلهة أو أبطالاً لا يُقهرون. وقد عرفنا مثل هذه الأحداث المعجزات في أخبار القدماء وأَساطيرهم شرقًا وغربًا.
نذكر على سبيل المثال لا الحصر، جلجامش وايزيس واوزيرس وادونيس وعشتروت وهركوليس وبوصيدون وكثيرين غيرهم ممّن ذكرت الكتب أَنَّهم قاموا بأعمال لا يستطيع البشر العاديُّون القيام بمثلها، كالحصول على شجرة الحياة أو النزول إلى الجحيم لإنقاذ أحد الملوك وإعادته إلى الحياة، وإلى ما هنالك من خوارق لا دخل لها بالعقل البشري، وهي الآن مصنَّفة من الأساطير.
2- المعجزات في العهد العتيق
يحفل الكتاب المقدّس في قسمه القديم، بذكر معجزات وخوارق تدعو إلى الدهشة وتلفت الانتباه، وكأنَّها علامة فارقة في حياة البشريَّة أَو في سلوك واحد من الناس. وإذا ما حاولنا استعراض المعجزات نبدأ بالطوفان مع نوح ونصل إلى يشوع بن نون الذي أوقف الشمس، مرورًا بضرب الله لفراعنة مصر بالذباب والبعوض والضفادع وتحويل الماء إلى دماء، ولا ننسى إيليَّا وابن الأرملة في صرفت صيدا الذي أعاد إليه الحياة، ويونان في بطن الحوت والأطفال الذين لم يحترقوا في آتون النار، وموسى الذي شقَّ البحر، وما إلى هنالك من خوارق فسَّرها شعب العهد القديم بسهر الله على شعبه وبقائه معه ونصرته له أَمام أَعدائه. كما فسَّر آخرون بعض المعجزات بأَنَّها إنذارات من الله لتأديب شعبه وتقويم مساره.
من الواضح أَنَّ شعب العهد القديم لم يكن يطرح المشكلة من وجهة نظر عمليَّة أو علميَّة. فالمعجزات بالنسبة له هي طريقة لإظهار مجد الله وعظمته وقدرته ورعايته وإمساكه بالكون جملة وتفصيلاً.
3- المعجزة في العهد الجديد
قام كثيرون من شرَّاح العهد الجديد ومن الباحثين المدقِّقين في نصوصه وتاريخيَّة أَحداثه، بدرس مسأَلة المعجزات التي قام بها السيِّد المسيح خاصَّة. وبعد التأمُّل في هذه الدراسات نستنتج:
– لا أَحد ينكر أَن السيِّد المسيح قام بمعجزات لا يستطيع العلم تفسيرها، أَكانت في مجال شفاء بعض الناس، أَم في مجال الخوارق الطبيعية. خاصة وأَنَّ الأناجيل تذكر غالبًا أَسماء بعض الناس، كابنة يائيروس وأَعمى أَريحا، كما تذكر تأثير هذه المعجزات على الجمهور الذي يراها بدهشة واستغراب، ممّا جعل أَعداء المسيح يخافون من أَن يتبعه كلُّ الناس لأنَّه أَقام لعازر من القبر.
– لم تكن المعجزة مطلوبة بذاتها بل لأجل أَمر آخر غالبًا ما يكون الإيمان. وأَحيانًا تصل إلى تعريف الناس بالله الذي يريد لهم الخلاص والتحرُّر من الخطيئَة، لأَنَّ الله إله الحياة، لا يريد موت الخاطئ.
– هناك تقارب بين غاية معجزات العهد القديم ومثيلاتها في العهد الجديد. فكلُّها تعبِّر عن أَنَّ الله سيِّد الكون وضابط الكلِّ، خاصة تلك التي تبيّن سلطة يسوع المسيح على عناصر الطبيعة كالبحر والعاصفة، تمامًا كما موسى الذي أَخرج المياه من الصخرة وشقَّ البحر بعصاه. وإذا ما ذكرنا تكثير الخبز والسمك، نذكر إزاء ذلك المنَّ والسلوى في صحراء سيناء للدلالة على أَنَّ الله لا يترك شعبه.
– نستنتج كذلك أَنَّ المعجزات حدث تنبيهي يوقظ عقل السامع والرائي على حقيقة ما يجري أَمام ناظريه. وهذا ما استفاد منه الرسل حين بشَّروا بالمسيح، فأَعطوا الناس صورة فاعل المعجزات الذي شفى المرضى وأَطعم الجياع وأَقام الموتى، قبل أَن يعطوهم حقائق أَكثر جرأَة مثل: المسيح هو ابن الله الذي تجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، والذي مات وقام لأجل خلاص الناس وقيامتهم، هم أَيضًا، إلى الحياة الأبديَّة.
– لم يَقُم المسيح بمعجزة لصالحه الشخصي كما كانت تُصْنَع الخوارق عند الشعوب القديمة لكي تزيد من شأن هذا الإله أَو ذاك، بل كانت معجزاته كلُّها لصالح الناس، وغالبًا ما كان يطلب أَلاّ يعلن عنها مباشرة.
– غالبًا ما رفض المسيح القيام بمعجزة بناءً لطلب أَو إلحاح أَو تجربة، بل معظم دوافع معجزاته كانت مرتبطة بإيمان الناس وتوقهم إلى الخلاص عن طريق الله، لأنَّهم يئسوا من قدرة الناس الزائفة. وهنا نذكر رفضه الوقوع في تجربة استعراض القدرة الخارقة حين جَرَّبه الشيطان. وحين طلب اليهود منه النزول عن الصليب إذا كان ابن الله.
– إنّ المعجزات التي تصل إلى حدِّ خرق القانون الطبيعي والانتظام العام، كإعادة الحياة إلى مَن مات، مثل لعازار وابنة يائيروس. أو تلك التي جعلت من الماء خمرًا، والأرغفة الخمسة والسمكتين آلاف الأرغفة وآلاف الأَسماك. فهي إن اعتبرت خرقًا لقوانين الطبيعة بالنسبة للعقل البشري فهذا لا يُنقص من قيمة المعجزة لسببين:
أوَّلهما أَنَّ من خصائص المعجزة أن لا تكون طبيعية وخاضعة للنظام العام. وثانيهما إنَّ الله الذي وضع القانون الطبيعي والإنتظام العام في الكون، له وحده حق التدخّل في هذين الأمرين، لأنَّه وحده القادر على ضبط هذا التدخُّل. أمَّا تدخُّل الإنسان فلا أَحد يعرف إلى أَين يؤدِّي، لأَنَّه أَعجز من أن يضبط النتائج كلَّها، كما حصل في فَتْقِ الذرَّة وابتكار الأَسلحة النوويَّة أَو كما يحصل في الإستنساخ اليوم.
– ضرورة تمييز معجزات الشفاء الجسدي والنفسي، عن طرد الشياطين والأرواح النجسة التي تتحكَّم بالإنسان وتجعله يتصرَّف بما لا يدلّ على سلامة في نفسه وعقله. وقد تُؤَدِّي تصرُّفاته إلى إشكالات في جسده شكلاً وصحَّة. وحين يشفي المسيح من هذه المصيبة، إنَّما يأمر الأرواح فتترك الإنسان فيعود بعدها لحالته السليمة، فيبدو للناظر وكأنَّ في المسألة شفاءً جسديًّا. أمَّا دلالة هذه المعجزة فهي إظهار قدرة الله على كلِّ قوَّة أُخرى تحاول تخريب عقول ونفوس وأجساد أَحبِّ مخلوقاته إليه. ولكي تظهر أنَّ كلَّ المخلوقات، ما يُرى منها وما لا يُرى، هي خاضعة لقدرته.
4- المعجزات والعلم
حين يتدخَّل العلم ليشرح معجزة معيَّنة مثل جسد مار شربل الذي لم يلحق به الاهتراء والتفكُّك فالإنحلال، أو مثل عودة الحياة الى من مات منذ أيَّام، أو شفاء مريض بين ليلة وضحاها من مرض عضال لا دواء له، فلا يتدخَّل لكي ينفي المعجزة أو يُثبتها، بل لكي يصل بعد القيام بما يلزم من تحاليل كيميائية أَو شعاعيَّة أَو ما شابه، إلى نتيجة علميَّة مفادها أَنَّ الأَمر خارج عن نطاق التفسير العلمي المعروف حتَّى اليوم. وهذا يعني بكلام آخر، أَنَّ هناك قوَّة قد قامت بهذا الأَمر دون اللجوء إلى ما يمكن أَن يعطيه العلم، الذي لا يملك ما يمكن أن يحقِّق الأَمر الذي تمَّ.
هذا وحين يقول العلم إنَّ الأَمر لا يمكن أنْ يشرح علميًّا بحسب معطيات العلم الحاليَّة، فهذا لا ينفي وجود المعجزة بحجَّة أَنَّ العلم قد يتوصَّل غدًا إلى اكتشاف ماذا جرى. ذاك أَنَّ المعجزة لها ارتباط بالإيمان وليس فقط بالإمكانات العلميَّة. وقد يقوم العلم بأُمور لا يستطيع الإيمان أَن يقوم بها، إلاّ إذا كان لهذه الأُمور رسالة إيمانيَّة معيَّنة. فهل الإيمان يوصل إنسانًا إلى المريخ والكواكب الأُخرى؟ أَقول لا، إلاّ إذا كانت عمليَّة الإيصال تحمل رسالة إيمانيَّة معيَّنة.
المهمّ أن نعرف أَنَّ للعلم مجالاً للعمل لا يتعارض مع الإيمان، بل ربَّما يؤدِّي إليه إنْ لم يكن مباشرة فبِطرق غير مباشرة.
5- موقف الكنيسة من المعجزات اليوم
حين أَرسل السيِّد المسيح تلاميذه ليبشِّروا أَهل المسكونة بما قال وفعل، قال لهم من جملة ما قال: باسمي تطردون الشياطين، وإنْ شرِبتم سمًّا مميتًا فلا يؤذيكم وتمسكون الحيَّاة، وتضعون أَيديكم على المرضى فيشفون. وهكذا رافقت المعجزات مسيرة الكنيسة التبشيريَّة منذ الرسل، على ما جاء في كتاب أعمال الرسل، وحتى اليوم.
وما زالت أخبار الشفاءات والمعجزات والخوارق تأتينا من هنا وهناك، من عنّايا مار شربل ومن لورد السيدة العذراء، وكذلك من بشوات أو مديغورييه، ومن كاشيا القديسة ريتا ومن سان جيوفاني روتوندو حيث تكثر معجزات بادري بيُّو، ونكتفي بهذا القدر لنقول: يعلن الشعب المؤمن عن المعجزات قبل أَن تعلن الكنيسة موقفها. وهذا ليس لأَنَّ الكنيسة لا تريد أَن تعلن موقفًا، بل لتسمح للوقت بأَن يساعد على تثبيت المعجزة أَو إزالة الأَوهام من رؤوس الناس. فليس كلُّ شائعة حقيقة، وليس كلُّ ما يتراءى ظهورًا حقيقيًّا. فالمعجزات الشفائيَّة تتثبَّت بتقارير الأطبَّاء السابقة للشفاء واللاحقة له. كما تتثبَّت بالشهود الذين يعرفون عن كثب، واقع المصاب قبل شفائه وفيه، ربَّما، وبعده. وعند ذلك تعلن الكنيسة صحَّة المعجزة أَو تنكرها.
أَمَّا التقويَّات الشعبيَّة التي ترى في كثير من الأُمور العاديَّة، حالة خارقة، كالزيت أَو البخور أَو الجراح التي تظهر على أَيدي بعض الناس وجباههم، فهي بحاجة إلى دراسة ميدانيَّة دقيقة وطويلة. وقد تمرُّ سنوات وسنوات ولا تعلن الكنيسة حقيقة الأَمر أَو بطلانه. ذاك أَنَّ في كلِّ إعلانٍ خاطئ، إمكانيَّة تشكيك في كثير من المعجزات الصحيحة. لذلك فالتريُّث لا يعني الرّفض كما لا يعني التأكيد.
أمَّا أنتَ أَخي المؤمن، فكلمتي لكَ أَمام مثل هذه الحالات، هي دعوة للتأمُّل بهدوء الإيمان. فلا تمنع مَنْ يُؤمن بمعجزة، عن سلامة قلب، عن فعله. ولا تصدِّق كلَّ شائعة أَو كلَّ ظاهرة،. فهناك أُمور جميلة قد يستعملها الشيطان ليضلِّل بعض المؤمنين إذا استطاع.