كلود أبو شقرا
في منتصف القرن الأول الميلادي دخل الرسول مرقس مدينة الاسكندرية حاملا البشارة المسيحية، وكان عليه أن يحارب الديانات الفرعونية واليونانية بكل آلهتها والعبادات الرومانية واليهودية بأنبيائها وناموسها وشريعتها الإلهية… فنجح واخترقت البشارة قلوب أبناء هذه الأرض، وتسلحوا بما تحمل المسيحية من قيم وقاوموا ودفعوا دمهم شهادة إيمانهم…
أكثر من ذلك، حضنت صحراء مصر القديس أنطونيوس، أبو الرهبان، الذي ابتدع أسلوب حياة يمجد المسيح بالتجرّد الكامل عن أمور الدنيا والتقشف على أمل الذوبان في وجهه البهي وحضوره الممتلئ قداسة…
مرت السنوات والأجيال والألفيات…. فرحل من خرقوا صمت الصحراء بالصلاة والتهليل وملؤوا فراغها بحضور إلهي، وبقيت أصواتهم تنردد بين آثار الأديرة والكنائس التي جعلوا منها واحات تقي من الشرور والخطايا، فصمدت في وجه الزمن الذي يملك سلطان محو كل شيء، إلا أنه لم يقوَ على ما حفرت الأيدي المشققة والأصابع الدامية من قساوة العمل تحت وهج الرمال الخارقة، وها هي الكنائس والأديرة في الصحراء والفيوم والواحات ترتفع شاهقة، عصية على الاندثار، فاتحة قلبها منذ القرون الأولى لاحتضان كل من يشتاق إلى دفء هذا الحضور الإلهي الممجد…
في عام 2011 اكتُشفت في صحراء مصر الغربية مدينة أثرية تعود إلى القرن الرابع الميلادي، تتوسطها كنيسة، وأسفرت الحفريات التي تجري في منطقة عين السبيل في الواحة الداخلة في محافظة الوادي الجديد غربي القاهرة عن اكتشاف مبانٍ ملحقة بالكنيسة أيضاً، وتشير الدراسات الاولية الى أنها كانت مبانٍ خدمية لرهبان وزوار الكنيسة.
مهد الرهبان
خرجت الرهبنة من صحراء مصر الغربية، أسسها القديس أنطونيوس في القرن الرابع الميلادي، وحدّد معالمها، فعندما كان في التاسعة عشرة من عمره لمست قلبه كلمات الرب للشاب الغني: “إن أردتَ أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك واعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني” (متى 19 :21)، فباع ميراثه وأعطى جزءاً لاخته والباقي للفقراء، ثم قصد الصحراء الشرقية وعاش حياة زهد وتوحد تام لبلوغ الكمال، وظل يتوغل إلى عمق البرية ويحيا في تقشف صارم وصيام طويل وفي صراع ضد الشياطين. طوال حياته في الصحراء لم يعد القديس أنطونيوس إلى وادي النيل إلا مرتين، الأولى عام 311 م حين ظهر وسط المسيحيين المعذبين، بلحيته الطويلة ووجهه الذى يشع نوراً، إبان الاضطهاد على يد مكسيمينوس لتقوية إيمانهم وإزالة خوفهم، والمرة الثانية عام 338 م لمحاربة بقايا بدعة آريوس (متعلقة بطبيعة المسيح وهددت بأنقسام الكنيسة). ذاع صيت القديس أنطونيوس فتبعه كثيرون طلباً لإرشاده الروحي، هكذا بدأت المرحلة الثانية من تطور الحياة الرهبانية.
استمرّ تلاميذ القديس أنطونيوس في خلوتهم الانفرادية في المناطق المجاورة لمغارته. ومع ازدياد عددهم ظهرت الحاجة إلى إنشاء تجمعات للنساك في الصحراء، وكانت تلتف حول أحد الآباء القديسين العظام لأسباب تتعلق بالأمان الجسدي والروحي . استمرت هذه التجمعات في التزايد وغطت مساحات واسعة في الصحراء الشرقية حتى البحر الأحمر وامتدت جنوباً وغرباً، إلا أن أكبرها تلك التي أحاطت بمغارة القديس أنطونيوس وكان بلغ درجات عالية من القداسة.
مع هذا التطور حدث توازن بين حياة التوحد وحياة التجمّع، فكان كل ناسك يقضى أيام الأسبوع بمفرده في مغارة أو صومعة ثم يجتمع النساك أيام السبت والأحد في الكنيسة للصلاة وشركة القداس والتناول وسماع دروس روحية. هكذا أعطى هذا النوع من النسك فرصة للصلوات الفردية والتأمل والتدرب على الزهد والتقشف إلى جانب الصلوات والعبادة الجماعية .
تقوم الرهبنة على ممارسة حياة الفقر والتكرّس للكنيسة ورفض الحياة المادية، فاستقبل المسيحيون المصريون فكرة التصومع بحماسة ونقلوها إلى المسيحيين في العالم. ومن الأمور التي تطورت أيضاً مبدأ “الاقباط”، فقد تبني المسيحيون الأوائل اللغة القبطية لنشر الإنجيل لدى المصريين الأصليين وأصبحت لغة الليتورجيا المسيحية في مصر وما زالت رسوم بألوان الأكاسيد “الفرسك” باقية لغاية اليوم على جدران كنائس تعود إلى تلك الحقبة مغطاة بطبقة من الجبس·
وكما عرف المصريون القدماء الموسيقى، نشأ في العصر المسيحي (القبطى) في مصر فن موسيقى كنسية يساير الأنغام المصرية القديمة، وما زالت الألحان التي تعزف في الكنيسة القبطية اليوم تحمل أسماء فرعونية مثل “اللحن السنجاري” و”اللحن الاتريبي”.
الحركة الرهبانية
يقول المؤرخ المصري عزيز عطية (1898- 1988): ” كانت الرهبنة هبة مصر للمسيحية”، تميّزت بصفات هي: رغبة في الصلاة بلا توقف ولا كلل، شوق إلى التأمل في كلمة الله، تدريب الذات على الصوم والسهر للصلاة وحياة البتولية وإخضاع رغبات الجسد والفقر الاختياري ونبذ اهتمامات العالم.
يعتبر المؤرخون أن الرهبنة كحركة دينية بدأها فعلا القديس أنطونيوس، لكن قبل ذلك بوقت طويل انطلق بعض الأشخاص إلى الحياة في البرية. يعطي “أكتا سانكتورم” مثال على ذلك من القرن الثاني الميلادي، حين قرر فرانتونيوس، أحد أثرياء الإسكندرية المسيحيين، أن يترك العالم وأقنع 70 آخرين على الذهاب معه إلى برية نيتريا حيث عاشوا حياة صلاة وتأمل.
الدافع الأساسي وراء الرهبنة القبطية يمكن أن يلخص في كلمة واحدة هى “المحبة”، فعندما يحبّ الإنسان الله من كل قلبه يشتاق أن يتوحد معه فى كل الأوقات، لن يشغله أحد أو شيء غير الله (كورنثوس الأولى 7 : 32 – 35) ، وفي هذا الحب يضحي بكل شيء لينعم بالتوحد مع الله ويصل إلى طهارة القلب التي تقوده إلى الكمال في الله. بالنسبة إلى الرهبنات الأخرى قد يكون الدافع هو التألم مع المسيح.
بعد صدور مرسوم ميلان (313 م) أخذ المسيحيون على عاتقهم إجهاد أنفسهم، فكان الرهبان يعذبون أجسادهم تحت شمس الصحراء الحارقة ويمارسون تدريبات قاسية على الزهد والتقشف، فكانوا خلفاء للشهداء، في ذلك يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: ” الشهيد يعذب لأيام حتى ينال إكليل الشهادة ولكن الراهب يتحمل كل أيام حياته قسوة وعذابات عهود التقشف والزهد التي فرضها على نفسه”.
الفيوم
تقع محافظة الفيوم في الجنوب الغربي من القاهرة وتبعد عنها 90 كم، يستمد مياهه من ترعة بحر يوسف التي تخرج من النيل عند ديروط (شمال أسيوط وأحد مراكز المحافظة) وتصب في هذا المنخفض. لذلك يمكن القول إن محافظة الفيوم واحة جميلة في صحراء مصر الغربية تتاخم وادي النيل بأرضها المنخفضة عن مستوى نهر النيل بـ 12 قدماً، أي بما يسمح لمياه النيل بأن تنتشر من خلال الترع والقنوات والخلجان لتصل إلى البحيرة التي تنخفض بدورها عن نهر النيل بما يزيد عن 200 قدم، وعن مستوى سطح البحر بمقدار 130 قدماً.
في القرن الأول تمركزت المسيحية في الإسكندرية دون سائر الأقاليم المصرية، حتى جاء القرن الثاني الميلادي فانتشرت الكرازة في باقى البلاد المصرية وعلى الأخص في إقليم الفيوم، حيث توجد دلائل تاريخية وأثرية تبين انتشار المسيحية بين أبنائه من بينها:
العثورعلى: برديات مسيحية، منها جزء من بردية إنجيل القديس يوحنا يرجع تاريخها إلى النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، وهي أقدم وثيقة عرفت لغاية اليوم ومحفوظة في مكتبة Rylands – Monchester، أجزاء من إنجيل غير معروف (محفوظ فى المتحف البريطاني)، يرجع تاريخه إلى 125– 165م، مجموعة من البرديات Chester Beatty يرجع تاريخها إلى القرن الثاني الميلادي. يقول عنها الدكتور هنرى رياض (مدير عام الآثار المصرية سابقاً): “خرج أكثر من ثلث أوراق البردى اليونانية الموجودة فى العالم من إقليم الفيوم، بالإضافة إلى برديات باللغة اللاتينية والهيراطيقية والديموطيقية والفارسية والأمهرية والسريانية”.
على الرغم من الاضطهادات انتشرت المسيحية وثبتت، ليس فى الإسكندرية فحسب بل في الفيوم والأشمونيين وغيرها،.
وفي القرن الرابع ميلادي نشأت الأديرة في الفيوم، نظراً إلى تمتع هذه المنطقة بميزات جعلت منها مكاناً صالحاً لنشأة الأديرة حيث الصحاري التي يسكنها المتعبدون. كان القديس أنطونيوس يتردد على أديرة الفيوم ليقوى من عزيمة الرهبان، وأوكل رئاسة هذه الأديرة إلى القديس ببنوده، من أهمها: دير النقلون، دير القلمون (دير الأنبا صموئيل المعترف)، دير الأنبا اسحق الدفراوي في اللاهون، دير الأخوة في سيلا، دير السيدة العذراء في سيلا أيضاً، دير الصليب في فانو Fanu، دير الأمير تادرس، ديرالرسل في قفلة الزيتون…
كانت صحراء الفيوم عموماً وجبل القلمون خصوصاً، موطناً للنساك والجماعات الرهبانية منذ النصف الثاني من القرن الثالث (ابتداء من 250 م).
من الأمور الدالة على وجود المسيحية في إقليم الفيوم منذ القرون الأول، المخطوطات التي اكتشفت عام 1910 وتعرف بـ “مجموعة مورجان” المشهورة، تحوي أقوالاً للآباء، عظات، سير قديسين، وتفسيرات للكتاب المقدس باللغة القبطية…
الواحات
تقع الواحات المصرية جنوب الصحراء الغربية وتمثل أكثر من 42 % من مساحة مصر. دخلت المسيحية الواحات مع دخولها مصر، وتذكر مصادر تاريخية أن القديس مرقس الرسول زارها، وكان لطبيعة المنطقة حيث الصحراء الممتدة والجبال المحيطة بالوادي أثر في انتشار الرهبنة والكنائس والأديرة فجذبت محبي النسك. من أبرز الآثار المسحية الموجودة فيها:
– دير الملاك غبريال: من الأديرة الصغيرة ويؤرخ للرهبنة في القرنين السابع والثامن ميلادي، يضم كنيسة وقلالي للرهبان وتنتشر على الجدران نصوص يونانية وقبطية تؤرخ لهذه الفترة وما بعدها.
– نصوص جبل الطير التي كتبها رهبان متوحدون كانوا يسكنون الواحات في القرنين الرابع والخامس أهمها نص قبطي مكوّن من 16 سطراً من لونين (أكاسيد حديد أحمر وأصفر)، يذكر فيه أسماء قديسي المنطقة وشهدائها…
– كنيسة شمس الدين: تعدّ من أقدم الكنائس في مصر وترجع إلى نهاية القرن الثالث الميلادي.
– دير الأب متى ويعرف بدير العذارى السبع ويحوي كنيسة طولها 12 متراً وعرضها ستة أمتار.
كلام الصور
1- أثار الكنيسة المكتشفة في صحراء مصر الغربية.
2- أثار أحد الأديرة في الفيوم.
3- آثار إحدى الكنائس في الواحات
4- منطقة الواحات.
5- أيقونة قديمة