د. نوال السعداوي
في مفكرتي السرية بالمدرسة الابتدائية تساءلت: كيف يكون عقل المدرسين أصغر من عقل الأطفال؟. كان المدرس يقول: العقل من صفات الذكورة والأنثى ناقصة العقل. لكن أمي كانت تقول: الإلهة الأنثى (إزيس) كانت إلهة الحكمة، وحواء كانت إلهة المعرفة لأنها أول من قطف ثمرة المعرفة، فى مفكرتى الطفولية تساءلت: هل العقل صفة ذكورية والحكمة والمعرفة صفة أنثوية؟.
ثم كبرت وأدركت زيف الثنائيات: ذكورة – أنوثة، عقل – جسد، سماء – أرض، ملاك – شيطان، مادي – روحي، أبيض – أسود، حاكم – محكوم، سيد – عبد.
لا تكف الثنائيات المتناقضة عن الانتشار فى جميع المجالات، سياسية، ثقافية، دينية، أدبية، فنية، فهى ضرورية للحفاظ على النظام الحاكم فى جميع بلاد العالم.
التلاعب بالثنائيات: ثورة – إصلاح، تغيير – تسيير، براءة – إجرام، إيمان – إلحاد، تحضير أرواح – عفاريت، تقسيم دوائر – مقاعد، تحليل إستراتيجي – عمليات نصب وخداع.
الخداع أشد أنواع العنف لأنه غير مرئي. لا أحد يتقن الخداع كالمتخصصين في مهنة الكلام والكتابة والسياسة والصحافة ونقاد الأدب، وجوههم مكررة وأسماؤهم مقررة في وزارات الثقافة والإعلام. الدائرة الصغيرة المغلقة على أنفسهم وأولادهم وأحفادهم، يتشكلون كالعجين، يؤمنون بالفرد الواحد كالإله الأوحد، في السياسة والثورة سعد زغلول، وفى الفلسفة والفكر زكي نجيب محمود، وفي الأدب والإبداع نجيب محفوظ، وفى الصحافة والاعلام محمد حسنين هيكل، وفي تحرير المرأة قاسم أمين،
حول رئيس الدولة يتسابقون في كل عهد، لا تختلف ملامح الابن عن الأب، ولا الحفيد عن الجد، تنفجر الثورة وراء الثورة ويدخل الثوار والثائرات السجون أو يقتلون جسدياً أو أدبياً إلا هؤلاء، لا يعرفون التعذيب أو المنفى أو الموت، كالآلهة باقون في كل العهود تتناسخ أرواحهم ولا يموتون،
تتميز الثقافة الرأسمالية الأبوية الحديثة بالتقدم في وسائل الخداع الثقافى والإعلامي والزوغان المتقن من مواجهة الحقائق والبديهيات،
الاختلاف بين كلمة الثورة والإصلاح كالاختلاف بين القضاء على جرثومة المرض وإعطاء المسكنات والمراهم، كالاختلاف بين الجمال الطبيعى ومساحيق التجميل.
الثقافة والتعليم والعلم والدين والقوانين واللغة، جميعها ترفع صفة – الذكورة – وتعتبرها مقياس الحقيقة والشرف، في اللغة الإنجليزية نشأت كلمة امرأة (وومان) من كلمة رجل (مان)، على غرار نشوء حواء من ضلع آدم، وفي اللغة اللغة العربية تتم مخاطبة أى عدد من النساء (ألف امرأة أو أكثر) بجمع المذكر إن كان بينهن ذكر واحد وإن كان طفلا.
القاعدة الأساسية فى اللغة أن الذكر يشمل نفسه والأنثى معا، أما الأنثى فلا تشمل إلا نفسها، بعض كلمات تفلت من سيطرة الذكر، مثل كلمة “السماء”، وهى أنثوية مثل كلمة “الشمس”، وكانت الإلهة المصرية (إزيس) تحمل قرص الشمس على رأسها، وأمها الإلهة (نوت) كانت إلهة السماء وزوجها (جيب) إله الأرض، إلى أن تغيرت الأوضاع السياسية الاقتصادية، وتمت سيطرة الإله الذكر بالقوة والسلاح والاستبداد والتجهيل، وأصبحت المرأة ترمز للشيطان، والمعرفة أصبحت خطيئة، كلمة – الثورة – أنثوية وتشمل الشعب بكل فئاته، وتنادى الثورة بالحرية والعدالة والمساواة للجميع بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو الطبقة أو غيرها.
كلمة – عبقرية – مؤنثة، وكلمة “عقل” مذكرة، لأن العبقرية تكسر قيود العقل الظاهر والباطن، وتكسر المحرمات والشرائع والقوانين الذكورية المفروضة بالقوة منذ نشوء العبودية، تحرير اللغة جزء من تحرير العقل.
يؤدى الوعي بالإيجابيات فى تاريخنا القديم إلى الثقة بأنفسنا وتراثنا الإنساني، المساواة بين الرجل والمرأة واحترامها جزء لا يتجزأ من حضارتنا المصرية وليست فكرة أجنبية مستوردة. منذ عام 2011، انتشرت الثورات من تونس ومصر الى أمريكا وكندا وأوروبا وآسيا وإفريقيا وأستراليا، انفجرت الشعوب المنهوبة المخدوعة بالسوق الحرة والديمقراطية والانتخابات الحرة المزيفة، ارتفع الشعار: ثورة الـ99% ضد جشع الـ1% من التجار والطبقة المدعمة لهم في الحكم والإعلام والثقافة تواجه الثورة دائما بالثورة المضادة تحت اسم الاستقرار والإصلاح والسلام والحب والصداقة والشراكة والتسامح، كلمات جميلة ظاهريا تخفي الخداع والعنف في الباطن، كالرجل الإنجليزى الجنتلمان الذى ينهب ويكذب بإتقان شديد، ويتكلم بصوت منخفض رقيق ثم يطعن بخنجره في الظهر الآلة الاستعمارية الرأسمالية الأبوية الحديثة بأخلاقها المهذبة المزيفة، وفلسفتها المزدوجة المتناقضة، تدعو للديمقراطية والوسطية والاعتدال والتوازن، وفي باطنها تمارس العنف والتطرف والاستبداد والاغتصاب، الوسطية هي الوقوف في منتصف الطريق حفاظا على مصالح الطبقة الحاكمة المستقرة في ظل القانون القائم، القانون هو الغطاء الشرعى للظلم والطغيان والفساد الموروث عبر العصور، الثورة هي إسقاط النظام وقوانينه وبناء نظام جديد وقوانين عادلة، وهذا لا يتحقق إلا بالاستمرار في النضال وعدم اليأس.
الثورة لها ثمن باهظ، الموت بالرصاص أو بالغاز، نار الجحيم بعد الموت، التعليق في القبر من القدمين أو شعر الرأس، النفخ في السجن، أو الإيهام بالغرق الى حد الموت (أحدث تطور أمريكي للتعذيب يصدرونه إلينا)، وقد يكون العقاب خفيفا كالفصل من العمل أو النفي خارج الوطن أو تشويه السمعة، أو تلفيق التهم والقضايا، والتفريق بين الأزواج وتشتيت الأولاد والبنات، لكن مهما ارتفع ثمن الثورة والحرية فإن ثمن العبودية أفدح، ينال الرجل الفقير عقاباً أشد بسبب الفقر والمرض والجهل، وتنال المرأة العقاب مضاعفا بسبب جنسها الأدني، تموت المرأة الثائرة سرا، ويموت الرجل الثائر بطلا، كلمة شهيد مثل كلمة رئيس ليس لها تأنيث، تنتحر المرأة المبدعة وتموت أو تدفن وهي حية، ويظل الرجل المبدع حياً وإن مات، هل نذكر الكاتبة المبدعة أروى صالح التى انتحرت وهى شابة؟ هل نذكر الكاتبة الرائدة زينب فواز التي سبقت.