كلود أبو شقرا
ساروا على طريق الموت، نساء، شيوخ، أطفال، شباب، شعراء، كتاب، رسامين… ساروا وهم يغنون ويسبحون الله… ساروا على درب الشهادة وهم متمسكون بمسيحيتهم، ولم تزعزع صنوف التعذيب التي تعرضوا لها إيمانهم، بل ازدادوا التصاقاً وذوباناً بمسيحيتهم، حاربوا حتى الرمق الأخير، فكانت الأمهات يرضعن أطفالهن وهن حاملات البندقية، والشعراء يمتشقون القلم بيد والبندقية بيد أخرى …
إنها محطات من تاريخ الإبادة للشعب الأرمني الذي تشتت في العالم وعينه متجهة على الدوام إلى جبل أرارات، إلى إتشميازين، إلى الحضارة الأرمنية العريقة الغنية بالفكر والفن الطالعين من رحم حضارة تعود إلى آلاف السنوات، والمتمتيزة بخصوصية نحت الصلبان الحجرية وإبداع المنمنمات…
اليوم يحتفل الشعب الأرمني بمئوية المجازر الأرمنية، هذه المجازر الحافلة بقصص بطولات تنتقل أخبارها من جيل إلى جيل لتتعلم الأجيال معنى التشبث بالهوية المسيحية وبالأرض… هذا الشعب الأرمني الذي تأقلم في المجتمعات التي هُجر إليها، حوّل الإبادة إلى قصائد شعر وأجمل اللوحات وأعذب الموسيقى والألحان، وإبداعاً سيبقى على الدوام يردد صدى أنين السنين وصراخ الأودية والبحار والأنهر التي رميت فيها الجثث من دون هوادة… أرمينيا والمسيحية لا يفترقان، فهما متجذران في بعضهما البعض منذ انبثاق فجر البشارة، ولا يفرقهما لا الزمن ولا وحشية الإنسان مهما بلغت دمويتها.
العصور الأولى
عرفت أرمينيا المسيحية في القرن الأول الميلادي عندما وطأت قدما الرسولين تدَّاوس وبرتلماوس أرضها حاملين أنوار البشارة، وسرعان ما صار لها اتباع، وأصبحت دين الدولة الرسمي( 310م)، بعدما ارتد الملك درطاد إلى المسيحية على يد غريغور بن أناك المعروف بالمنوّر، فأعلنه الملك والشعب بطريركاً ورئيساً روحياً عليهم . ولما كان علمانياً، ذهب إلى قبدوقية حيت نال الرتبة الكهنوتية ثم الأسقفية على يد أسقف قيصرية وحاز لقب “كاثوليكوس”، وبنى مدينة اتشميازين لتكون كاتدرائيتها مقر الرئيس الديني الأعلى، وأضحى شفيع أرمينيا، ونسبت إِليه كنيستها فعرفت بالكنيسة الغريغورية الأرمنية. توفي كريكور المنور سنة 325 م وخلفه ابنه القديس اريستاكيس (325 – 333 ) الذي شارك في مجمع نيقية عام 325 م .
ويعود الفضل إلى القديس نرسيس الكبير في تنظيم شؤون الكنيسة الأرمنية. فبعدما نال الرسامة الأسقفية، عاد إلى أرمينيا وسنّ الشرائع الكنسية، ووضع القوانين الرهبانية، ونظّم حياة الأديرة، وأنشأ الأبرشيات والمياتم ودور العجزة والمستشفيات، ووزّع على الكهنة قطعاً متساوية من الأراضي الزراعية ليضمنوا حياة عائلاتهم .
تتميز الكنيسة الأرمنية بتسع رتب لخدمة الدين، أولها الجاثليق (الكاثوليكوس) الذي يعدّ أكبر سلطة دينية وروحية لدى الأرمن، وللكاثوليكوسية الأرمنية اليوم مركزان واحد في اتشميازين (في جمهورية أرمينيا)، وآخر في انطلياس في لبنان، ويعرف بـ “كاثوليكوسية البيت الكبير لكيليكية”. كذلك لها طقوس خاصة بها من بينها: إشعال النار في وسط الكنيسة، في عيد تقدمة المسيح إلى الهيكل، والالتفاف حولها. ارتبطت هذه العادة بعيد النار التي كان يعبدها الأرمن قبل تنصيرهم . ولكنّهم قدسوا هذه الرتبة وجعلوا من النار رمزاً للمسيح ” نور العالم”. طقس بركة العنب في يوم عيد السيدة ، وتوزيعه على المؤمنين . هذا العيد ارتبط بعيد آلهة الخمر والكروم عند الأرمن الوثنيين ويصادف في شهر آب ويدعى ” نفاسارت”، فحافظت الكنيسة على هذه العادة الشعبية وأدخلت بركة العنب في صميم الطقس الكنسي.
الأبجدية والأدب
وضع ميسروب ماشدوتس Mesrop Mashdots الحروف الأرمنية سنة 405 وتعرف بـ “أبجدية غرابار” krapar، وهي مؤلفة من 36 حرفاً تكتب من اليسار إِلى اليمين، ثم أضيف إِليها بعد ذلك حرفان. يذكر أن ماشدوتس أتقن الإِغريقية والفارسية والسريانية.
أول عمل قام به الأرمن بعد وضع الأبجدية ترجمة الكتاب المقدس إِلى الأرمنية والشعائر المسيحية، تلا ذلك حركة ترجمة واسعة امتدت من القرن الخامس الميلادي حتى منتصف القرن السابع، وحركة تأريخ لتعريف الأرمن بتاريخهم. ومن أشهر المؤرخين موسيس خوريناتسي الذي ولد في أواخر القرن السادس للميلاد، واشتهر بكتاب “تاريخ الأمة الأرمنية” المتميز بأسلوب شعري في سرد الحوادث المستوحاة من الأناشيد القديمة والحكايات الشعبية الشفوية والآثار المدونة. غير أن الملحمة الشعبية الأرمنية الخالصة تكونت بين القرنين التاسع والثالث عشر، ودونت باللهجة الأرمنية المحلية، من أشهرها ملحمة داود الساسوني التي تمثل كفاح الشعب الأرمني.
اشتهر شعراء لاهوتيون أرمن، من بينهم نرسيس شنورهالي الذي كان من دعاة استخدام اللغة العامية، وأهم قصائده “مناحة أورفه” التي تتألف من أربعة آلاف بيت شعري. ومن أدباء الكنيسة مخيتيار أو مخيطيار الذي أسس معهداً دينياً في القرن السابع عشر، وقد انفتح الأرمن الذين هاجروا إِلى كيليكية على الأدب الغربي، فدخلت عناصر إلى الشعر لم تكن معروفة كالوصف والغزل.
هندسة متميزة
للفن الهندسي المعماري الأرمني طابع خاص في بناء الكنائس، تظهر القبة بشكل مخروط يرتفع نحو السماء ، والبناء صغير الحجم وبلا أعمدة في الوسط . أما الهيكل الحجري فيكون على منصة مرتفعة لا يصعد عليها إلا خدمة الهيكل بعد خلع أحذيتهم . اما اتجاه الكنيسة فهو دوماً نحو الشرق، وتوضع الجرار الفارغة في القبة والجدران للحد من الصدى .
ينفرد الفن الأرمني بنحت الصليب الحجري “خاتشكار” الموجود في أرمينيا فحسب، يتألف من حجر شاقولي يراوح طوله بين متر ومترين ونصف، ويتضمن نقشاً يمثل صليباً منفتحاً في رؤوس سواعده الأربعة وتحيط به زخرفة هندسية ونباتية. ويُعد الصليب الحجري الأرمني نصباً في حد ذاته ويقام على قاعدة بسيطة أو يعلو نصباً تذكارياً. تطور فن نحت الصلبان الحجرية في أرمينيا وانتشر في أرجاء البلاد منذ القرن الرابع عشر الميلادي، بفضل الأمراء والتجار الذين شجعوا بناء المنشآت وتزيين الأضرحة.
كذلك اشتهر الأرمن بفن تصنيع الذهب والفضة والنحاس، وأبدعوا آنية آيةً في الفن اليدوي مثل المباخر والشمعدانات وغلافات الإنجيل والصلبان… وقد نُقشت فيها مشاهد مأخوذة من العهدين القديم والجديد . أيضاً برزوا في الحفر على الخشب وتطعيمه بالفضة، وبفن تزيين واجهات الكنائس الأرمنية وجدرانها الخارجية والداخلية، وهو على نوعين: زخرفي هندسي أو نباتي، وتشخيصي.
تعود أقدم نماذج الفسيفساء التي وجدت في أرمينيا إِلى مدينة غارني، ففي القصر الملكي قطع من القرن الأول قبل الميلاد وفي المعبد قطع من القرن الأول الميلادي…
وأما المخطوطات المصورة (المنمنمات) فتشكل أحد فنون العصر الوسيط في أرمينيا. وقد حفظت مكتبات العالم ما يقارب 25 ألف كتاب أرمني مخطوط. ويحتوي معهد الدراسات الأرمنية في يريفان أكثر من 10 آلاف مخطوط من بينها ما يقارب الثلث مزين بالتصاوير، وهي على الغالب كتب دينية تمثل مراحل فن الكتاب المصورفي أرمينيا.
يحتوي إِنجيل إِتشميازين الشهير في صفحاته الأخيرة أربع منمنمات: بشارة العذراء مريم، بشارة زكريا، تقديم المجوس احترامهم للسيد المسيح وصلب المسيح، تعود إِلى القرن السادس، والغاية من وجودها حفظها، وهي تعد أولى المنمنمات الأرمنية المعروفة. يذكر أن إِنجيل إِتشميازين مغلف بصفيحتين من العاج المزين بالحفر البارز الدقيق يصور مشاهد دينية.
يمكن تصنيف المنمنمات الأرمنية في فئتين: الأولى نمطيّة تذكر بالتراث البيزنطي وفيها تأنق وصنعة، والثانية شعبية وفيها بساطة وتعبير، وتحمل كلها على تنوعها صبغة محلية واضحة.
أصدرت الدولة الأرمنية سنة 1952 أول مجموعة مصورة في عنوان “المنمنمات الأرمنية القديمة”، وسبقها صدور مجموعة تحمل الاسم ذاته مرافقة بدراسة مهمة وضعها العالم الروسي ا.ن.سفيرين A.N.Svirine سنة 1939، وصدرت دراسات في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية.
مذابح الأرمن
بدأت في نهاية القرن التاسع عشر (1894-1895 ) بهدف تقليص عدد الأرمن في تركيا والقضاء عليهم. يعتبر 24 نيسان 1915 رسمياً بداية الإبادة الأرمنية الجماعية، إذ استمر القتل الجماعي في فترة حكم مصطفى كمال أتاتورك، لغاية 1922، حين دخلت القوات التركية مدينة إزمير في سبتمبر 1922.
رافقت عملية الاستيلاء على المدينة مجزرة ضد السكان من الأرمن واليونايين، فأحرقت الأحياء الأوروبية للمدينة ، واستمرت المجزرة 7 أيام، وتسببت في مقتل نحو 100 ألف شخص.
ويتفق المؤرخون أن القتلى من الأرمن تجاوزوا مليون ونصف مليون أرمني بالإضافة إلى مئات الآلاف من الأشوريين والسريان والكلدان واليونانيين. عندما دخل الإنكليز اسطنبول في 13 نوفمبر 1919، أثاروا المسألة الأرمنية وقبضوا على القادة الأتراك لمحاكمتهم، غير أن معظم المتهمين هربوا أو اختفوا فحكم عليهم بالإعدام غيابياً، ولم يتم إعدام سوى حاكم مدينة يوزغت الذي أباد مئات الأرمن.
وبسبب هذه المذابح هاجر الأرمن إلى دول العالم لاسيما سوريا ولبنان ومصر والعراق، وبات 24 نيسان من كل عام مناسبة لتذكر ما حدث لهم والتنكيل بهم.
اعترفت 20 دولة و42 ولاية أميركية رسمياً بوقوع المجازر كحدث تاريخي، وفي 4 مارس 2010، صوتت لجنة من الكونغرس الأميركي بفارق ضئيل بأن الحادث كان في الواقع “إبادة جماعية”. كذلك اعترفت منظمات دولية رسمياً بـ”الإبادة الأرمنية” من بينها: الأمم المتحدة، البرلمان الأوروبي، مجلس أوروبا، مجلس الكنائس العالمي، منظمة حقوق الإنسان، جمعية حقوق الإنسان التركية. يذكر أن أكثر من 135 نصب تذكاري، موزعة على 25 بلدا، تخليدا لذكرى “الإبادة الجماعية” للأرمن.
بدأت القضية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، عندما تحججت الدولة العثمانية بأن روسيا حرضت الأرمن الروس القاطنين قرب الحدود الروسية العثمانية، وأمدّتهم بالمال والسلاح ودربتهم في أراضيها وشجعتهم على تشكيل جمعيات مسلحة من بينها “خنجاق” و”طاشناق”. وقدمت بريطانيا دعماً لتلك المنظمات لرغبتها في تفتيت الدولة العثمانية ، فرأت الحكومة العثمانية أن هذه المشكلة لن تحل إلا بتهجير الأرمن من تلك المناطق الحدودية لتقطع الصلة بينهم وبين الجيوش الروسية، فنفذت عملية تهجير واسعة وكبيرة إلى سوريا ولبنان والموصل، وهدمت الكنائس والأديرة وحولت بعضها إلى مساجد.
في 1907 خُلع السلطان عبد الحميد الثاني عن العرش ونفي إلى مدينة سالونيك اليونانية، والتي كانت في عهدة الخلافة العثمانية (تحررت عام 1912). بعد ذلك صدرت قوانين جديدة انهت الامتيازات الكلاسيكية للمسلمين على الأرمن. غير أن أتباع السلطان عبد الحميد في اسطنبول انتفضوا، وفي أضنة هاجم الأصوليون الأرمن، الذين كانوا يشكلون ربع عدد سكان المدينة. ولم تتدخل السلطة إلا بعد يومين، وكان قتل ألفي أرمني على الأقل. مع وصول كتائب من الجيش إلى المدينة هاجم المتظاهرون الغاضبون الأحياء الأرمنية واضرموا النار فيها، وامتدت الانتفاضة إلى محافظة قيليقية.
في 2 أغسطس 1914، وقعت تركيا معاهدة سرية مع ألمانيا، تنص على تغيير الحدود الشرقية للامبراطورية لضم ممر للوصول إلى القوميات المسلمة في روسيا، ما يعني استئصال الشعب الأرمني من المنطقة، وبعد ساعات أعلنت ” جمعية الاتحاد والترقي” التعبئة العامة، واستدعي كل أرمني إلى الخدمة العسكرية، وبين كانون الثاني ونيسان 2015، رفعت وتيرة الانتهاكات ضد قرى الأرمن، على الجبهة الروسية الإيرانية، وتم نهب خمسة آلاف قرية أرمنية وقتل 27 ألف أرمني ومئات من الأشوريين.
في فبراير 2015 جًرد 100 ألف جندي أرمني من اسلحتهم، وصودرت الأسلحة من المدنيين الأرمن، وكان قد سمح لهم بحملها عام 1908، وذبحوا ودفنوا أحياء، وهاجم الأتراك السكان الأرمن في الدولة العثمانية، وأجبروهم على السير على الأقدام إلى الصحراء لتعريضهم للموت جوعا أو عطشا أو بفعل أعمال القرصنة التي يقوم بها البدو ضدهم ، بمن فيهم الأطفال والنساء والشيوخ.
بعد الهزيمة في مصر اعتبر جمال باشا أن الأرمن في منطقة زيتونة ودورتيول يشكلون خطرا محتملا فقرر تغيير البنية الديموغرافية للمنطقة الواقعة تحت ادارته بنفي سكان مدينة زيتونة في 8 نيسان، وهي مدينة كان سكانها يتمتعون بحرية نسبية منذ عهود، وكانوا على الدوام في صدام مع السلطات التركية. واقتحمها ثلاثة آلاف جندي تركي، استباحتواالقرى الواقعة حول المدينة قبل دخولها المدينة.
في 18 نيسان غزا الأتراك في منطقة ارضروم بعد اتهامهم الأرمن بالخيانة، وهُدد كل مسلم يساعد ارمني بأنه سيلقى المصير نفسه، وقتلوا 19 الف ارمني. من مجموع 65 ألف أرمني من ارضروم بقي على قيد الحياة مئة ارمني، في الوقت نفسه تعرض السكان المناطق المحيطة بمدينة بدليس للذبح.
في نهاية 1915 كان الجزء الأكبر من أرمن الامبراطورية العثمانية قد أبيدوا، ورغم محاولات السلطات العثمانية اخفاء الامر والتعتيم عليه ، إلا أن الارمن الذين تمكنوا من الوصول إلى الغرب اخبروا بالبشاعات المرتكبة ضد الشعب الارمني. في 27 يونيو 1915 طلب الجاثليق (تعبير ارمني، يعني كبار الاساقفة، او البطاركة) من الولايات المتحدة التدخل لوقف المذابح. مع أن الحلفاء دانوا رسميا عمليات الابادة الجماعية التي ارتكبها الأتراك والأكراد ضد الشعب الارمني، لكنهم لم يستطيعوا وقف المجازر، بسبب الحرب الدائرة. استمرت عمليات ابادة أرمن الاناضول حتى بعد آب 1915.
تؤكد مصادر أرمنية أن الحملة كانت متعمدة ومقصودة من أجل تطهير عرقي ضد المسيحيين، لا سيما أن الأرمن كانوا الفاصل العرقي الوحيد بين تركيا وباقي الشعوب الطورانية في آسيا الوسطى.
كلام الصور
1- المدنيون الأرمن، برفقة جنود عثمانيين مسلحين، يسيرون عبر خرپوط (خارپرت)، إلى سجن بالقرب من مزيره (الازيغ حالياً)، أبريل 1915.
2- صلب نساء الأرمن في دير الزور.
3- خاتشكار
4- اتشميازين
5- ميسروب مشدوتس بريشة فرانشسكو ماغيوتو
6- غريغوريوس المنوّر
*****
(*) بالاشتراك مع aleph-lam
www.georgetraboulsi.wordpress.com