الكاتب بلال حسن التل
لا يخفى على المراقب أن هناك تغيراً كبيراً طرأ على العلاقة بين جماعة الاخوان المسلمين والدولة الاردنية، الى الدرجة التي صار فيها رفع العلم الاردني في احتفالات ومقارّ الاخوان محل نظر ونقاش من بعض هؤلاء.
بل اكثر من ذلك وصلت الأمور الى حد اعتبار ان الجماعة عند بعضهم اكبر من كل ترخيص -أي انها اكبر من الدولة وقوانينها- ولم يعد مستغربا ان توجه لبعض الاخوان تهمة الاتصال بالدولة، وانه من رجال الدولة. وقد ترافق هذا كله وغيره مع مقولة انتشرت في السنوات الاخيرة تتحدث عن ثنائية الدولة والاخوان، وهذه مقولة خطيرة نحسب ان الذين اطلقوها، والذين روجوا لها، مثلهم مثل الذين يناقشون في جواز رفع العلم الاردني من عدمه.
ومثل أولئك الذين يعتبرون التواصل مع الدولة تهمة، وهؤلاء جميعا لم ينتبهوا الى خطر ذلك كله على جماعة الاخوان المسلمين، خاصة عندما سعى بعضهم لجعل الجماعة نداً للدولة وموازيا لها، وذهب آخرون الى ما هو ابعد من ذلك عندما جعلوا الجماعة في مواجهة الدولة، وان على الدولة ان تحسب الف حساب للجماعة وغضبها، وقد فات هؤلاء جميعا حقيقة واضحة مفادها: انه باستثناء حركات التحرر الوطني التي تقاوم الاستعمار والاحتلال الاجنبي، فان كل التنظيمات التي اعتقدت انها بحجم الدولة او انها ندٌ لها، وانها قادرة على ليّ ذراع الدولة، فشلت وباءت بالخسران المبين، والأدلة على ذلك كثيرة، حتى من تاريخ جماعة الاخوان المسلمين نفسها. ففي كل بلد دخلت فيه الجماعة في خصومة ونزاع مع الدولة من منطلق انها ندٌ لها فشلت وذهب ريحها، وأول ذلك ما حدث في مصر، حيث تأسست الجماعة ونشأت.. ففي كل المراحل التي خاصمت فيها الجماعة الدولة المصرية على قاعدة النّدية، خسرت الجماعة الجولة وانتهى أعضاؤها الى السجون والمعتقلات وأعواد المشانق، وتم حل الجماعة، فانتقلت الى العمل السري المحظور.
لقد تكررت هذه التجربة مع الجماعة في غير بلد عربي وغير عربي، بينما كانت الجماعة تكبر وتتمدد وتصل الى مواقع القرار، سواء عبر المجالس النيابية او الوزارات او سائر مؤسسات الدولة، عندما تتصرف على انها جزء من الدولة تحتكم الى قوانينها وانظمتها والى اصول العمل الاهلي فيها، والأدلة على ذلك كثيرة، من لبنان والمغرب ودول الخليج والجزائر بعد الحرب الاهلية، غير ان ابرز هذه الأدلة تجربة الاخوان المسلمين في الاردن، فقد بدأ الاخوان المسلمون عملهم في الاردن برعاية الدولة الاردنية وحمايتها ودعمها، بل وفي كنف القصر الملكي ورعايته، وقد وفر ذلك للجماعة عوامل استمرارها وانتشارها وقوتها.
ان هذا الذي نقوله ليس كلاماً مرسلاً على عواهنه، بل عليه الكثير من الأدلة من وقائع وادبيات ووثائق الاخوان المسلمين انفسهم، من ذلك ما أورده احدُ مؤرخي جماعة الاخوان المسلمين: محمود عبد الحليم في كتابه (الاخوان المسلمون.. احداث صنعت التاريح.. رؤية من الداخل) والذي يعتبره الاخوان مرجعا لتاريخهم، فقد أورد الكتاب عن علاقة الاخوان بالدولة الاردنية ما خلاصته ان العلاقة بين جماعة الاخوان المسلمين والدولة الاردنية لم تكن على مستوى الاردن فقط، بل كانت على مستوى مؤسس الجماعة ومرشدها الشهيد حسن البنا، الذي ارسل رسالة الى جلالة الملك المؤسس أشاد فيها بمناقب جلالته، وبدوره في خدمة الدين وبانتسابه الى العِترة الهاشمية، وقد جاء ذلك بعد استقبال جلالته لوفد جماعة الاخوان المسلمين في مصر، والمكون من عبد الحكيم عابدين وسعيد رمضان زوج ابنة البنا، اللذين جاءا الى عمان لمساعدة الحاج عبد اللطيف ابو قوره على تنظيم شؤون الجماعة بعد ترخيصها في الاردن، وقد بلغت العلاقة الى الدرجة التي فكر بها جلالة الملك بتعيين عبد الحكيم عابدين وزيرا في الحكومة الاردنية، والإنعام عليه وعلى المرشد العام الشهيد حسن البنا برتبة الباشوية، مما يدل على حسن العلاقة بين جماعة الاخوان المسلمين والدولة الاردنية ممثلة بأعلى مرجعية فيها، وهي جلالة الملك. ولعل هذا ما يفسر سرعة ترخيص الجماعة في الاردن من مجلس الوزراء الاردني كما بيّنا في مقال سابق. بل إن اشهار الجماعة في الاردن تم في المسجد الحسيني في وسط العاصمة عمان برعاية ملكية، وبحضور حشد من رجال الدولة الاردنية.
لم تقتصر رعاية الملك على حفل إشهار الجماعة، بل ظل جلالته يرعى أنشطة الجماعة بصورة دائمة. من ذلك ما نشرته الصحف عن رعاية جلالته لاحتفال الجماعة بالمولد النبوي الشريف سنة 1946 بحضور حشد من رجال الدولة وبرفع الاعلام الاردنية. حيث بدأ الاحتفال كما جرت العادة في كل احتفالات الاخوان المسلمين بالنشيد الملكي الذي كان يقف له الجميع احتراما على حد وصف جريدة الجزيره لوقائع الاحتفال، وهو الاحتفال الذي القى فيه السيد عبد المنعم الرفاعي كلمة جلالة الملك نيابة عن جلالته، بينما القى الاستاذ سعيد رمضان كلمة المرشد العام للجماعة التي نوه فيها بما لجلالة الملك من ايادٍ بيضاء على الحركة الاسلامية وغيرة صادقة على الدين الحنيف، وشكر لجلالته عطفه على ما شرف به الجماعة من قبول التماس الاخوان، بان تكون لجلالته كلمة في هذا الاحتفال، ليختم الاحتفال كما بدأ بالنشيد الملكي.
وهنا من حقنا ان نسأل من زرع في فكر الجماعة النظرة العدائية للدولة، او فكرة الندّية مع الدولة على اقل تقدير، حتى صار رفع علمها من المحرمات في نظر بعض المحسوبين على الجماعة.؟ ومن أين جاءت فكرة أن الجماعة اكبر من كل ترخيص مادام بُناتها الأوائل وفي طليعتهم مؤسس الجماعة الشهيد حسن البنا قد سعى الى ترخيصها.؟ ومن أين جاء بعض المحسوبين على الجماعة بفكرة اتهام كل من يتعامل مع الدولة الاردنية، -وقد تعامل معها مؤسس الجماعة ومرشدها الاول الشهيد حسن البنا- وأوفد لمليكها البعوث والرسائل، وتحت مظلة الدولة الاردنية، وبموجب قوانينها رخصت الجماعة في الاردن وبرعاية اجهزة الدولة والقصر الملكي وحمايته ترعرعت الجماعة وتمددت في الاردن..؟
******
(*) رئيس “مركز البيرق للدراسات والمعلومات” وصاحب وناشر جريدة “اللواء” الأردنية