البطريرك الراعي في رسالة الفصح: “المسيح قام! حقًّا قام! فلا تخافوا من الصمود في أرضكم ،كونوا أقوى من قوى الشر، وأقوى من الصعوبات والمحن

1. ملاك الرب الذي دحرج الحجر عن باب قبر يسوع وجلس عليه، وهو بثياب بيض كالثلج، أعلن raii-  foushالبشرى للنسوة اللواتي أتينا في فجر يوم الأحد، ومعهنّ طيوب لتطييب جسد يسوع، قائلًا: “لا تخفن! أنتنّ تطلبن يسوع المصلوب! لقد قام، وليس هو هنا“(متى28: 5). وسلّمهنّ هذه البشرى لينقلنَها إلى التلاميذ. وانتشرت على مدى ألفَي سنة وما زالت تتَسع شيئًا فشيئًا لتشمل جميع شعوب الأرض. وها نحن نؤكّدها بشرى نلتزم نشرها في كلّ مكان : المسيح قام! حقًّا قام!

وإنّنا نتبادلها معكم، إخواني السادة المطارنة الحاضرين، والرؤساء العامّين والرئيسات العامّات والكهنة والرهبان والراهبات وسائر المؤمنين. نبثّها معًا لأبناء كنائسنا وبناتها، إكليروسها وعلمانيّيها، في لبنان وبلدان المشرق وعالم الانتشار. أجل! المسيح قام! حقًّا قام!

2. لأنّه مات، فقد قام.  ولو لم يمت لَما قام. موته حدثٌ تاريخي، وقيامته حدثٌ تاريخي. لقد مات لكي يقوم، مثل “حبّة الحنطة التي تموت في الأرض وتقوم سنبلة”(راجع يو12: 24). مات فدىً عن البشرية الخاطئة، لكي يغسل بدمه، دمِ الغفران، خطايا كلّ الناس، وقام ليحيينا بالحياة الجديدة بفعل الروح القدس، وقد بثّها في الأحد عشر في مساء يوم قيامته، إذ وقف في وسطهم “ونفخ فيهم وقال: خذوا الروح القدس“(يو 20: 22). ثمّ جدّده فيهم، في اليوم الخمسين يوم العنصرة، وجعلهم كنيسة العهد الجديد.

مات يسوع التاريخي، وقام المسيح السرّي الذي هو الكنيسة، البشرية الجديدة. من هذا السرّ العجيب نفهم كلمة الرب يسوع: “مَن يهلك نفسه يجدها”(راجع لو 9: 24). هذا هو سرّ حياتنا الخاصّة في العائلة والكنيسة، في المجتمع والدولة: موت وقيامة. لولا “ميتات” الوالدَين لما كانت العائلة؛ ولو “ميتات” المؤسّسين لما كانت المؤسّسات في الأبرشيات والرهبانيّات والمجتمع.

3. “دحرج الملاك الحجر عن باب القبر“، لا ليساعد الربّ على القيامة والخروج من داخله، مثلما حدث في قيامة لعازر، بل من أجل الإيمان. ذلك أنَّ بيلاطس أمرَ، نزولاً عند رغبة الشعب غير المؤمن بيسوع وبقيامته، بختم الحجر. وأقام حرّاسًا على القبر لكي لا يسرقه تلاميذه كما ادّعى اليهود (راجع متى 27: 63-66). بسبب عدم إيمانهم بقيامته دحرج الملاك الحجر لكي يؤمن الجميع، وإذا آمنوا نالوا الحياة الأبدية (راجع يو20: 31).

فلنُصلِّ لكي يدحرج المسيح كلَّ قساوة عن قلوبنا وقلوب جميع الناس، ويفتح الحواس على القيم السميا، والعقول على الحقيقة المحرّرة، والقلوب على الحبّ والمشاعر التي تؤنسنها.

4. أكّد بولس الرسول في أريوباغس أثينا: “أقام الله يسوعَ من بين الأموات وجعله ضمانةً لنا“(أعمال 17: 31). أجل! قيامته ضمانة لقيامتنا بكل وجوهها: أعني قيامتنا الروحية من حالة الخطيئة بالتوبة؛ وقيامتنا الأخلاقية بالتحلّي بالقيم؛ وقيامتنا الاجتماعية من حالة النزاعات ببناء الأخوّة، ومن حالة الفقر والحرمان بالتضامن والتعاضد؛وقيامتناالوطنيةمنالجمودواللااستقرارومن الحرب والإرهاب، والهدم والتهجير، بإرسال المسيح لنا أشخاصًا مسؤولين مثل قلبه، متفانين في سبيل الخير العام، وخير الشعوب والأوطان. هي قيامات بقوّة المسيح القائم من الموت.

5. بعد مسيرة الصوم الكبير، وأسبوع الآلام، المؤدّي إلى فصح المسيح، وهو عيد “عبوره” من عالمنا إلى الآب، بموته عن خطايانا، وبقيامته لتبريرنا، آن الأوان لأن “نعبرنحن بكلمته ونعمته وقوّة روحه القدّوس إلى حياة جديدة، من اجل عالم جديد، في العائلة والمجتمع، في الكنيسة والوطن.

العبور إلى الأفضل هو “قيامة” بالمعنى الواسع كحقيقة ملازمة للإنسان الذي يأبى الموت، ويعشق الحياة والخلود. فعندما يختبر إخفاقات الحياة، يشعر بأنها علامات للسعي الدائم إلى النهوض، إلى القيامة. إنَّ الإنسان يحيا بالرجاء، بالرغم من كلّ شيء. لقد أتت قيامة المسيح من الموت انتصارًا عليه، ورجاءً وطيدًا للإنسان، وتأكيدًا لمبتغاه. ولذا، قال بولس الرسول: “لو لم يقم المسيح لكنّا أشقى الناس(1كور15: 19).نحن أبناء وبنات القيامة، إذن أبناء وبنات الرجاء.

6. إنّنا نختبر اليوم في لبنان، بنوعٍ خاص، نوعًا من الموت السياسي الذي يتحكّم بمصيرنا كشعب وبمصير الدولة، ويُنبئ أحيانًا بأن لا قيامة لهذا الوطن، ولا أمل فيه لأجياله الطالعة. هذا ما أحدثه الفراغ في سدّة رئاسة الجمهورية منذ ما يزيد على العشرة أشهر. وقد أحدث الشللَ في رأس الدولة بتعليق صلاحيات الرئيس، وفي الحكومة بتعثّر ممارساتها، وفي المجلس النيابي بعجزه عن ممارسة صلاحياته التشريعية التي فقدها ويفقدها طالما لم ينتخب رئيسًا للدولة، على ما تنصّ المادة 75 من الدستور، علمًا بأنّها توجب على المجلس النيابي، مع المادة 74 أن يكون في حالة التئام دائم لانتخاب رئيس للجمهورية. ولا يوجد أي مبرّر دستوري لا لمقاطعة الجلسات الانتخابية بالتغيّب بغية إحداث عدم اكتمال النصاب، للحيلولة دون انتخاب الرئيس، ولا للتلكؤ عن اتّخاذ أي مبادرة عملية للخروج من حالة الفراغ، وكأنّ الجميع باتوا ينتظرون من الخارج كلمة السرّ.

7. إنّنا لا ننفكّ نخاطب، بالنداء تلو النداء، ضمائر الكتل السياسية ونواب الأمّة وندعوهم جميعًا للحضور إلى المجلس النيابي، والقيام بواجبهم الدستوري بانتخاب رئيس للجمهورية. والنداء إيّاه وجَّهته القمّة الروحيةالتي عقدها رؤساء الطوائف المسيحية والاسلامية في بكركي الاثنين الماضي. ثمّ أطلقته أول من أمسالجمعيات الأهلية والمؤسسات المدنية، في ساحة رياض الصلح، باسم الشعب اللبناني، وقد نظّمته “طاولة حوار المجتمع المدني”. ونحن نشجّعها ونشجّع أمثالها. هذا فضلًا عن النداءات الفردية والجماعية، الخاصة والرسمية، من الداخل ومن الخارج. ولكن ما زال السياسيّون المعنيّون يُحكمون سيطرتهم على الحجر الذي دحرجوه على باب القصر الجمهوري، منعًا لانتخاب رئيس. وهذا أمر مرفوض بالمطلق من الشعب كلّه، ويستوجب إدانة التاريخ الصارمة والضمير الوطني.

8. لكن القيامة هي مصدر الرجاء وضمانته. بفضلها لنا رجاء وطيد، على المستوى الوطني، يأتي من الشعب اللبناني المؤمن بميثاق العيش معًا، مسيحيين ومسلمين بالمساواة والتعاون في بناء الدولة والوطن. فهو لا يريد الانزلاق نحو حرب مذهبية كتلك الدائرة في المنطقة، بكل أسف وألم. إنَّ شعبنا واعٍ وحريص على عدم هدم ما بنى الآباء والأجداد منذ خمس وتسعين سنة، وهو عمر لبنان كدولة مستقلّة أُعلنت في أول أيلول 1920. ويتوق إلى الاحتفال، بعد خمس سنوات، بالمئويّة الأولى لإعلانه. وقد وضعنا كخريطة طريق وثيقتَين: المذكِّرة الوطنيّة في 9 شباط 2014 على المستوى السياسيّ، والمذكِّرة الاقتصاديّة في 25 آذار 2015 التي توزَّع عليكم اليوم.

ولنا رجاء ثانٍ من خبرة المواطنين اللبنانيين التاريخية، وقد اكتسبوها من طريقة تعاملهم مع العواصف العاتية. إنّهم بمقابل المجتمع السياسي، يبنون مجتمعًا مدنيًّا حيًّا يطوّر ذاته بذاته ويحسّن ظروفه، ويرفض أن يكون رهينة لأحد. هذا المجتمع المدني، حافظُ التراث اللبناني الجميل، محبوب من سفراء الدول، كما يَسُرّون إلينا، ومن جميع زوّار لبنان الرسميّين وغير الرسميّين من الدول العربية ومن الدول الغربية. إنّنا نأمل أن تتمّ يومًا الوحدة الكاملة بين هذين المجتمعين.

9. من هذا الكرسي البطريركي نعلن عن قربنا وتضامننا مع أبناء كنيستنا وبناتها، رعاة وشعبًا، ومع سائر المسيحيّين، في بلدان الشرق الأوسط ولاسيما الذين يعانون من مآسي الحرب والهدم والإرهاب والعنف في فلسطين والعراق وسوريا. ونعرب أيضًا عن قربنا وتضامننا مع جميع المواطنين في هذه البلدان وفي اليمن. فنلتمس من المسيح “أمير السلام“(أش 9: 6)، أن يَمَسّ ضمائر المسؤولين عن هذه الحروب، أكان من دول الشرق أو الغرب، ويكفّ يدهم عن مدّ المتقاتلين بالمال والسلاح والمرتزقة والدعم السياسي، ويتّقوا الله في عباده. ونناشد الأسرة الدولية إيجاد السبل السلمية، السياسيّة والديبلوماسية، لإيقاف الحروب، وتوفير عودة النازحين إلى بيوتهم وممتلكاتهم بكرامة وبحق المواطنة، وتوطيد السلام العادل والشامل والدائم في هذه البلدان.

10. وفيما نحيّي كل الذين غادروا لبنان  وبلدان هذا المشرق إلى عالم الانتشار، وهم في حالة قلق وبحث عن عمل واستقرار، وقد سُلخوا عنوة عن عائلاتهم وأهلهم ومحيطهم، فإنّنا نسأل لهم سلام المسيح وعزاءه وقوة قيامته. ونتوجّه إلى مطارنة أبرشياتنا في بلدان الانتشار وكهنة الرعايا والرهبان والراهبات، بالتهاني بالعيد وبأخلص التمنيات، آملين منهم اتّخاذ مبادرات محبة وتضامن وتعاون من أجل حماية الحضور المسيحي في لبنان وبلدان الشرق الأوسط، حيث أساس المسيحية العالمية وجذورها؛ ومن أجل تعزيز رسالة المسيحيين في هذه الأوطان، وهم فيها منذ عهد المسيح والرسل، من اجل استمرارية إعلان إنجيل المحبة والأخوّة والعدالة والسلام في هذه الأرض العطشى إليه.

11. وإليكم أيّها الشباب، في لبنان وبلدان المشرق، أوجه نداء الرجاء: “المسيح قام! حقًّا قام! فلا تخافوا من الصمود في أرضكم. كونوا أقوى من قوى الشر، وأقوى من الصعوبات والمحن. فالعاصفة تمرّ وتنتهي. الكنيسة معكم ولكم بكلّ إمكانيّاتها،بكنائسها وأديارها،بأبرشياتها ورهبانياتها، بمؤسساتها التربوية والاستشفائية والاجتماعية، وبكل وسائلها. انفتحوا عليها وعلى محبة المسيح.

وفيما نحيّي بالتقدير الكبير كلّ المؤسسات المدنية، الخاصة والرسمية، التي تُعنى بشبيبتنا. فإنّا نطالب المسؤولين في الدولة بأن يضعوا قضيّة الشباب في أولوية اهتماماتهم. فالشباب مستقبل البلاد الضامن. ونطالب بتطوير المؤسسات التربوية، وتعزيزالمدرسة الرسمية، ودعمالجامعة اللبنانية، جامعة الدولة حيث يلتقي سبعون ألف طالبًا، وخمسة آلاف استاذًا محاضرًا، وثلاثة آلاف موظّفًا وعاملًا. لقد خرّجت مئات الألوف من المواطنين على مدى سنيّها الأربع والستين، وأجرى أساتذتها العديد من الأبحاث العلمية. فمن الواجب الاهتمام الرسمي بها كمؤسسة عامة مستقلّة إداريًّا  وأكاديميًّا وماليّا  في مختلف  مجمّعاتها ،وحمايتها على الأخصّ من تدخّل السياسيّين ومن تلوينها بأي لونٍ سياسيّ أو طائفي أو مذهبي.

12. إلى جميع الحاضرين معنا في هذا الكرسيّ البطريركي، وجميع المشاهدين والمستمعين إلينا والقرّاء، عبر جميع وسائل الإعلام، نقدّم أخلص التهاني والتمنّيات بعيد الفصح المجيد، مع التماس نعم السماء الوافرة من المسيح ابن الله، فادي الإنسان ومخلّص العالم.

المسيح قام! حقّاً قام! هللويا!

اترك رد