الأب كميل مبارك
1 – نتأمَّل في هذا المساءِ الذي يُلامِسُ فيه حزنُ الموتِ فرحَ القيامة. المسيحُ مات حقًا مات ونحنُ شهودٌ على ذلك. لَمْ يكِسروا ساقيه لأنَّه مات، وطُعِنَ جنْبُه برمحٍ ليتأكَّدَ لهُم أنَّه مات وأُنزل عن الصليبِ ودُفِن وهذا لا يصحُّ إلاَّ مع مَنْ مات. موتُ المسيحِ حقيقةٌ ثابتةٌ لا يشوبُها شَكٌ ولا يعتريها التباس. ولو لم يمتْ لما تمَّ سِرُّ الفِداء. لقد غَلَبَ الموتَ بالموتِ يقولُ بولسُ الرسول.
2 – لقد حاول الشيطانُ مرارًا أن يَمْنَعَ المسيحَ مِنْ أن يتمِّمَ إرادَةَ أبيهِ، وأن يَهْرُبَ من الموت. فمنذُ أن وٌلِدَ المسيحُ والشيطانُ يسعى لتخريبِ مشروعِ اللهِ الخلاصي، كما خرَّب العَلاَقة بين الإنسانِ الأوَّل والله. فَقَتلَ أطفالَ بيتَ لحمٍ علَّه يُوفَّق بقَتْلِ الطِفْلِ يسوع، وحأوَّل أَن يَرْمِيَ بِهِ عَنْ جناحِ الهيكلِ علَّه يموتُ قَبْلَ أن يُتِمَّ كلَّ شيء، ودخل الشيطان عقل اليهودِ، فطلبوا مِنَ المسيحِ أن يَنْزِلَ عنِ الصليبِ إن كان ابنَ الله فلا يموت. ولكنَّ ساعته لم تَكُنْ قد أتَتْ بعدُ، ساعتُهُ هي الفصحُ لأنَّه الحَمَلُ الذي يَحْمِلُ خطايا العالم.
لقد تثَّبَتَ الرومانُ واليهودُ والرسلُ بشخص يوحنَّا، ويوسفُ الرامي ونيقوديمس والمريماتُ ومريمُ العذراء أَنَّ المسيحَ مات ولم يُشبَّه لأحدٍ غيرُ هذا. حأوَّل الشيطان وحدَه أن يُبْعِد المسيحَ عنِ الموتِ لأنَّه يريدُ تكرار المَعْصِيةِ التي قَامَ بها آدم. لقد أكَلَ آدمُ الأوَّل من الشجرةِ المحرَّمة عاصيًا أمرَ الله فمات، وكانت خطيئَتُه سببًا للهلاك. أمَّا آدم الثاني فمات على شجرةِ الحياةِ التي هي الصليب، وأصبَحَ هو عينُه، الثمرةَ التي من يأكلُ منها لا يموتُ بل يَنْتَقِلُ من الموتِ الى الحياة. لَقَدْ صحَّح المسيحُ بطاعَتِهِ حتى الموت، كلَّ الخلل الذي سبَّبته كبرياءُ آدم.
ولم يكتفِ المسيح لإثبات موتِه بشهادةِ الحاضرينَ أَمام الصليب، بل طَلَبَ الى أتباعه سلفًا أَن يذكروا مَوْتَهُ ويعترفوا بقيامتِه وينتظروا مَجِيئَه الثاني تأكيدًا للحدثِ بكامِله على مرِّ العصور.
3 – وبعد ثلاثة أيام قامَ المسيح من الموت. المسيحُ قام حقًا قام. لقد كلَّم الله آباءنا بأساليبَ شتىَّ ليقرِّب لهم ولنا موتَ المسيحِ وقيامتَهُ بعد ثلاثَةِ أيام.
فيونانُ النبي ظلَّ في بطن الحوت ثلاثةَ أيَّام، ودانيال النبي ظلَّ في جبِّ الأسودِ حيًّا ثلاثةَ أَيام، وطَلَبَ المسيحُ الى اليهود أن يهدُمُوا الهيكلَ وهو يقيمه بعد ثلاثة أَيام. وكلُّ هذه وسواها، ما كانت إلاَّ لِنَفْهَمَ مع الرسل أنَّ المسيحَ سيقومُ بعد ثلاثةِ أيام.
4 – وها نحنُ في مساءِ سبتِ النور نُعْلِنُ مَوْتَ المسيحِ ولم نَرَ حَدَثَ القيامَةِ بعد. هذا الإنتظارُ المليءُ بالرجاءِ الذي يشوبُهُ تردادُ صُوَرِ الموتِ في بالنا وأعيُنِنَا، هو الصورَةُ الحقيقيَّة لِعُمرِنا كلِّه، لوَقفتنا أمام الموتِ، في كلِّ مرَّة نودِّعَ حبيبًا أو صديقًا. نعلن إيماننا بالقيامَةِ وَنَحْزَنُ ونبكي، كما لو كانت القيامَةُ أمرًا بعيدًا. إنَّه زَمَنُ التردُّدِ والتساؤلِ والخوفِ من المجهول الذي لم نُحْسِن قراءَتَه لا في يونان ولا دانيال ولا هدم الهيكل ولا حتى في القبر الفارغ.
إنَّه زمن الإنتظارِ الذي يَفْتَحُ عيني الإنسانَ مترقِّبًا أمرًا لم يُدْرِكْ حَقِيقَتَهُ بَعْدُ، ولكنَّه يَعْرِفُ أنَّ أمرًا حسنًا سَوْفَ يَحْصَلُ:
هذا المساء
من قَالَ من أجراسِه رحل الرنين؟
في مائِه نهرٌ جديدْ،
في أرضِه روحٌ جديدْ
فالكونُ يَنْشُدُهُ وتيجان الحَنين
تُهْدَى لِمَنْ حَمَل الضياء
وكأنَّني خبَّأتُ للآنَ انتماءاتِ الهروب
وكأنَّني ناديتُ أيَّامي التي كانت، وما كانت دروب
أن هلِّلي فالدفءُ يهدى في تَقَاسِيم السماء
هذا المساء
آتٍ وكلُّ الحبِّ في أَرْدَانِه سُحُبُ العَطَاء
5 – سبتُ النورُ. وَكيفَ يكونُ النورُ رفيقًا لِظُلْمَةِ الموت؟ هذا المساء، نَزَل المسيحُ بَعْدَ موتِه على الصليب، الى الجحيم حيثُ ينتظرُ الآباءُ والأنبياء والناسُ الصالحونَ الذين رَقَدُوا وَوَعْدُ الله بالخلاص، لم يَغِبْ عن كيانِهِم. نَزَلَ المسيحُ اليهم فَرَأَوا نُوْرَهُ، نورَ العالم، فكانت التَسْمِيَةُ لسبتِ النور. إنَّه يومُ البدء بالخليقة الجديدة، فكما بدأ الله خَلْقَ الكون بقوله ليكُن نور، بدأ المسيح الخليقة الجديدة بأن أظهر نُوْرَه على الخليقَةِ القديمة فجدَّدها، وحقَّق كَلِمَة أشعيا النبي «سيكونُ عَبْدُه نورَ الأمم». نورٌ من طبيعةٍ أُخرى تَخْتَلِفُ عن طبيعة نورِ الزمنِ الحاضر، فإنَّ الله الحيَّ سيضيءُ ذَويه بِنَفْسِه يقول الكتاب. وأقام المسيحُ هؤلاءِ المنتظرين محطِّمًا أقْفَال الموتِ، مٌعْلِنًا لَهُمْ فَتْحَ بابِ السماءِ الذي كان الله قد مَنَعَ كلَّ أحَدِ من الدخولِ اليه بَعْدَ الخطيئةِ الأولى، وَوَضَعَ ملاكًا يَحْرِسُه بسيفٍ من نار.
6 – يَتَساءلُ البعضُ: وَهَلْ كانت السماء بلا سكَّانٍ قَبْلَ إتمام سِرَّ الفداء بموتِ المسيحِ وقيامته؟ فأينَ إبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى والأنبياء والصالحون ومار يوحنَّا المعمدان ومار يوسف؟ فهل مُنعوا من دخولِ الجنَّة وَهُم أَصفياءُ الله؟
أَيُّها الأحبَّاء. لو كَانَ الإنسانُ قادرًا على دُخُولِ السماءِ قَبْلَ سِرَّ الفداء، لما كانتِ البشريَّة بحاجةٍ الى سرِّ الفداء. لم يكن الصالحونَ يتعَذَّبون في جَهَنم، بَلْ كانوا ينتظرون، وفرحُ الرجاءِ يملأ قلوبَهُم، وَقَدْ دامَ انتظارُهم الى سَبْتِ النورِ التاريخي، الذي حَصَل منذُ الفي سَنَة وحينَها رَأَوا النورَ، وَهَلَّلتِ السماءُ بوجودهم.
لو كانَ الإنسانُ قادرًا على دخولِ السماءِ دون سِرِّ الفداء، لكانت كلُّ الديانَاتِ التي ظَهَرَت قَبْلَ المسيحِ واستمرَّت بالظهورِ بَعْدَه، دياناتٍ خلاصيَّةً، يستطيع من يعتَنِقُها أنْ يَدْخُلَ السماءَ خارجًا عن إطارِ التجسّد والفداء. المشكلة أيُّها الأحباء لَيْسَت في صَلاح الإنسانِ وَسَيْرِه الحَسَنِ وَحَسْبُ، فالسماءُ ليست مُلْكًا لإرادة الإنسانِ مستقلاً عن مَشْروع الله الخلاصي.
المسألةُ مسألةُ شفاءِ الطبع البشري من جُرحِه الذي سبَّبته له الخطيئةُ. وكلُّ الذين ماتوا قَبْلَ الفداء حَمَلُوا الجرحَ مَعَهُم، لذَلِكَ يستحيلُ أن يخرُقوا سَيْفَ النارِ الذي يَحْرِسُ بابَ الجنَّة. في التجسّد والفداء تمَّ الخلاصُ من الموتِ الثاني، وَظَهَرَ مع المسيح وبِهِ الطريقُ والحقُّ والحياة، وباتَ دخولِ سرِّ المسيحِ القائم من الموتِ مدخلاً وحيدًا لملكوتِ السموات، وكلُّ ما عدَاه يَجْعَلُنا نَنْظُرُ الحقيقة كَمَنْ يراها في المِرآة.
7 – وفي صَبَاحِ اليومِ الثالث رأتِ النسوةُ أَنَّ الحَجَر قد دُحْرِج عن بابِ القَبرِ وأنَّ القبرَ فارغ.
تُرَى لماذا دَحَرجَ المسيحُ الحجرَ عن بابِ القبر، وهو قادر على أنْ يَدْخُلَ العليَّةَ والأبوابُ مغلقةٌ؟ هذا الحجرُ المدحرجُ عن البابِ، هو عَلامَةٌ، لنرى نحنُ واليهودُ والرومانُ والرسلُ أنَّ القبرَ فارغٌ لا جَسَدَ فيه. فلو قام المسيح وخرج من القبر دون أن يُدَحْرَجَ الحجرُ لما تمكنَّ أحدٌ من رؤية القَبْرِ الفارِغِ ولظنَّ الناسُ أنَّ النِساء وتلاميذَه يتخيَّلون أَنَّه أَمَامَهم.
لقد جَعَلنا المسيحُ نَرى القَبْرَ الفارغَ لا لنؤمِنَ أَنَّه قامَ مِنَ الموتِ فَحَسْبُ. بل ليبِّين لنا قيامة الأجسادِ، فَلَوْ لَمْ يَقُمِ الجسدُ لما كان القبرُ فارِغًا. لقد تَحَوَّل الجَسَدُ الذي مَاتَ على الصليبِ وَدُفِنَ، بِفِعْلِ القيامةِ الى جَسَدٍ ممجَّدٍ يقولُ بولس الرسول، غيرِ خاضعٍ لقوانينِ هذا العالم المادي. القبرُ الفارغُ يَضَعُنَا أمامَ مستقبلِ أجسادِنا بَعْدَ الموتِ والقيامَةِ، ويجعَلُنَا نتساءَلُ بتعجُّبٍ حينًا، وخَجَل أحيانًا، كَيْفَ تُرَانَا سنقومُ وَكَيْفَ سَنَقِفُ أمامَ مِنْبَر الديانِ العادل؟ وبماذا نُجيبُ على سؤاله: ماذا فَعَلْتُم بأجْسَادِكُم؟ بها تَعَّمدتُم وبها تنأوَّلتُم القربانَ، وبها مُسِحْتم بالزيتِ والميرونِ، وبها صَلَّيتُم وَصُمْتُم، فكيفَ مَعَ كلِّ هذا تجعلونَ منها مقرًا للخطيئَةِ بالشَّهْوةِ والجَشَعِ والفَجَعِ والزِّنَا وكلِّ مَعَاثِر هذا الدهر؟
تقول إحدى صَلواتِ الرجاء: «يقومُون أَعمالُهم على أَجْسَادِهم». فَلْنَتَصَّورْ أنَّنا أمَامَ اللهِ وأَعْمَالُنا معلَّقةٌ على أجسادِنا، فَهَل نَخْجَلُ وَنَسْتَشْفِعُ العذراءَ الطاهرةَ قائلين:
نحنُ أهلَ الأرض يا أُمِّي صِغَارْ
وتُرابُ الأرضِ فينا
سامحينا
حمَّلتنا الأرضُ أثقالَ الغُبَار
وصحاري المِلح فِيْنَا والعَثار
وَبَقَايا، مِنْ بَقَايا صورَةِ الله اسكبينا
وَاجْمَعِينَا كالمزارْ
نَحْنُ أَهلَ الأرضِ يا أُمِّي صِغَار
سامحينا
أجل سامحينا، كي نَنْعَمَ برؤيةِ نورِ هذا السبتِ المهيب، فَنَسْتنيرَ عقلاً وَقَلْبًا وإيمانًا، وَنُدْرِكَ واثقين، أنَّ بابَ القبرِ ليسَ آخرَ بابٍ يُقْفلُ خَلْفَ الإنسان، بل هو أوَّل بابٍ يُفْتَحُ على عالمٍ، لم تَرهُ عينٌ ولم تَسْمَعْ بِهِ أذنٌ، وَلَمْ يخطُرْ على قلب بَشَر. آميـن
كلام الصورة
قيامة يسوع المسيح من الموت، بريشة نويل كويبل (1700).