كلود أبو شقرا
القيامة، عبور من الموت إلى الحياة، أي فرح أقوى من الشعور برحمة الله اللامتناهية … معها تحلو الأعياد وتحلو الاحتفالات التي ترافقها تقاليد وطقوس تزرع في القلب سلامأً داخلياً لا يضاهيه سلام في الدنيا، كيف لا ومنحنا السيد المسيح بصلبه وموته ثم قيامته وتحدّيه للموت وانتصاره عليه حياة أبدية لا عدم فيها ولا نهاية…
ليس الفصح أكبر عيد مسيحي فحسب، إنما هو احتفال بقدوم فصل الربيع، ترتبط به وبأسبوع الآلام الذي يسبقه تقاليد واعتقادات شعبية، أصبحت جزءا لا يتجزأ من طقوس الاحتفال به. وبما ان تمييز الفصح كعيد رسمي لدى الكنيسه يعود إلى القرن الثاني الميلادي فتلك التقاليد قديمة قدم نشأته.
الجمعة العظيمة
يوم مقدس لأنه ذكرى صلب يسوع المسيح، تقام فيه صلوات خاصة وتُتلى قراءات من الإنجيل حول الأحداث التي سبقت الصلب ويصوم المسيحيون ليشعروا بجزء من عذاب المسيح على الصليب. في أغلب دول العالم هو يوم عطلة رسمية، وتمنع دول مسيحية متزمتة مثل ايرلندا بيع الكحول في هذا اليوم. وفي يوم الخميس الأخضر تطير الأجراس إلى روما وتعود يوم السبت، أي تصمت وتحلّ مكانها أنغام حزينة تعزف على آلات موسيقية خاصة.
في فلسطين، مسقط رأس يسوع، وفي البلدان العربية، تعرف المناسبة بـ “الجمعة العظيمة”، في الدنمارك والنرويج والسويد وفنلندا وايسلندا يسمى هذا اليوم بـ “الجمعة الطويلة” و”الجمعة الحزينة”، في انكلترا يسمى Good Friday.
في مصر، يستمر الصيام إلى السادسة مساء ويقتصر الطعام على فول نابت، أي منقوع الفول والماء من دون زيت مع قليل من الخل، لأن السيد المسيح طلب ماء وهو مسمّر على عود الصليب فأسقاه اليهود خلآ.
في الفلبين، يحيي المسيحيون يوم الجمعة الحزينة بدق مسامير في أيدي وأقدام أكثر من عشرة أشخاص على الصلبان وتعذيب أنفسهم بضرب ظهورهم بالسياط في طقوس دامية لاحياء ذكرى موت يسوع المسيح. تمثل عمليات الصلب التطوعية في شمال الفلبين أقصى مظاهر التدين في هذا البلد الذي يغلب الكاثوليك على سكانه، ويلتزم ملايين منهم بالصلاة والصوم قبل الاحتفال بعيد القيامة. إلا أن الكنيسة الكاثوليكية لا تقرّ بعمليات الصلب والجلد وتصفها بأنها تمثيل سيئ للعقيدة.
كان الملوك والأباطرة المسيحيون يمنحون عطلة في هذا اليوم ليتفرغوا للعبادة في الكنيسة. قيل إن الامبراطور ثيودوسيوس الكبير كان يطلق الأسرى والمساجين في الأسبوع المقدس ليشتركوا مع باقي المؤمنين في العبادة.
في الدول الغربية، خميس الفصح والجمعة العظيمة هما عطلة رسمية. تحتفل مُدن إسبانيا بالأسبوع المقدس بتنظيم مواكب في الشوارع يسير فيها الناس إما حفاة أو يربطون أرجلهم بسلاسل حديدية تعبيراً عن الشعور بالألم لعذاب السيد المسيح وصلبه، ترافقهم فرق موسيقية تعزف ألحاناً حزينة، ويحملون نعشاً رمزياً للمسيح مزيناً بأزهار طبيعية. وفي يوم الجمعة العظيمة، تُنظم في الشوارع والساحات مشاهد مسرحية حقيقية عن آلام الرب يسوع، تواكبها مسيرات من التائبين وموسيقى حزينة وينحت النحاتون تماثيل تجسد جلد المسيح ووضع إكليل من الشوك على رأسه وأمه مريم وهي تبكي وتوضع على عربة مزينة بالورود. يعود هذا التقليد إلى القرن السادس عشر.
اعتاد الإسبان تقليد إطلاق سراح سجين كل عام، بمناسبة أسبوع الآلام، بعد أن تختار اللجنة الخاصة بالاحتفالات سجيناً يتمتع بسلوك وسيرة جيدين، وأنهى جزءاً لا بأس به من محكوميته. في العام الماضي وقع الاختيار على سجين خذل اللجنة، إذ سرعان ما أعيد إلى السجن، بعد عثور الشرطة بحوزته على كيلوغرام من الكوكايين.
بدأ تقليد إطلاق سجين كل عام في عهد الملك ألفونسو الثالث عشر، عندما أعفت الملكة فيكتوريا أوخينيا في 2 نيسان 1927 عن أحد المساجين، إثر تقدم اللجنة المسؤولة عن احتفالات عيد الآلام، بالتماس إليها كبادرة حسن نية تجاه السجناء، وفي العام التالي تقدمت اللجنة بالتماس آخر لتبديل حكم الإعدام الصادر في حق مجرم بالسجن مدى الحياة.
في البرتغال تسير مواكب تسمى “مواكب التائبين” يحمل الناس فيها مشاعل وهم حفاة وتماثيل للقديسين منحوتة من الخشب مغطاة بقماش من الحرير. هذا التقليد شائع في إيطاليا إيضاً، وفي صقلية تعرض مسرحيات في أنحاء المدينة حول آلام السيد المسيح وتدعو إلى التوبة. في بلجيكا يسود ظلام في المدن في الجمعة العظيمة وتسير مواكب جنازة مع جوقات من الأطفال… أما البلدان السكندنافية فيتحيي الجمعة العظيمة بالصمت والتأمل…
تقاليد الفصح
يعتقد المؤرخون أن تقاليد عيد الفصح تسربت إلى المسيحيين الاوائل من تقاليد الشعوب الأوروبية أثناء انتشارالمسيحية الواسع في اوروبا. من الثابت تاريخياً أن شعوب الساكسون كانوا يحتفلون بالخصب وبدء الربيع في وقت قريب من احتفالات المسيحيين بقيامة السيد المسيح.
عندما انتشرت المسيحية في مناطق شمال أوروبا كان لا بد للوثنيين من الاندماج التدريجي في الكنيسة، ولما كانت سلطة الكنيسة تحرم بصرامة أي احتفالات لها طابع وثني، كان لا بد من أن يجد المبشرون الأوائل حلا لاندماج تلك الشعوب في الكنيسة بشكل تدريجي، فكان الحل بالسماح لهم بممارسة احتفالاتهم الموسمية، لكن تحت غطاء مناسبات كنسيّه رافقت تلك الاحتفالات. ولما كان عيد القيامة متوافقاً مع بدء احتفالات الربيع تسربت طقوس الاحتفال بالخصب وبدء الربيع الى عيد الفصح.
يعود الأرنب، الذي يرافق الاحتفالات بالفصح، إلى القرون المسيحية الأولى، تحديداً إلى شعوب الساكسون إذ كان يرمز إلى إله الخصب عندها، ومنها تسربت تلك الطقوس إلى احتفالات الفصح. جلب المهاجرون الألمان رمز الأرنب معهم إلى أميركا، بخاصة إلى ولاية بنسلفانيا، وظل أرنب العيد محصوراً في المجتمعات الألمانيه حتى نهاية الحرب الأهلية الأميركية حيث شاع بين بقية المهاجرين.
أما عادة صبغ البيض وإهداؤه فترجع إلى الفينيقيين الذين كانوا يعبدون الخالق مرموزاً اليه ببيضة، ويعتقدون أن الليل هو أول الكائنات قد تمخض مرة فولد بيضة ومن هذه البيضة انبثقت سائر الكائنات. وفي القرن الثاني الميلادي انتشرت عادة تبادل البيض في الفصح.
يرمز البيض لدى الشعوب الأوروبية إلى بعث الحياه و الولادة، وكان الأغنياء يزينونه برقائق ذهبية، أما الفقراء فكانوا يغلونه مع أوراق الأعشاب لإعطائه ألواناً برّاقه، ثم يتبادلونه في بدء الربيع كرمز للتجدد ومع الوقت أصبحت تلك العادة تقليداً يرافق الاحتفال بالفصح.
في فرنسا ما زالت عادة المفاقسة بالبيض شائعة، وابتداء من القرن السابع عشر الميلادي بدأ الفرنسيون يستخدمون البيض الصناعي الفني بدلا من البيض الطبيعي. يروى أن الملك لويس الخامس عشر كان يهدي صباح يوم الفصح بيضة صناعية مطلية بالذهب إلى نساء قصره.
في الالزس واللورين ما زالت عادة إهداء الخبز والحليب والبيض المسلوق شائعة في عيد الفصح. جرت العادة أن يخفي الأهل عن أولادهم الهدايا صباح يوم العيد ثم يقولون لهم بلهجة جدية: “الارنب جاء ليلاً وسرقها فما عليكم سوى اكتشافها”. في الولايات المتحدة يعايد الناس على اختلاف اجناسهم بعضهم بعضاً بالمفاقسة بالبيض.
أما في روسيا فكان الفصح في عهد القياصرة عيداً وطنياً، وكان الناس يحملون البيض في الشوارع ويحيون بعضهم بعضاً قائلين: “المسيح قام حقاً قام”، وهذا تقليد سائد بين المسيحيين في لبنان وسورية و الشرق العربي أيضاً.
في يوغسلافيا (سابقا) إذا تفاقس شخصان بالبيض وانكسر، يعتبر ذلك دليل خير من شأنه أن يقوي الصداقة بينهما مهما اختلفت ظروفهما وتباينت أحوالهما.
في بولونيا عادة عجيبة تقضي بأن يقدم الناس لكل غريب يدخل منازلهم بيضة مسلوقة شرط أن يأكلوا هم نصفها ويعطوا النصف الآخر للضيف، للدلالة على توثيق عرى الإخاء بينهم وبين الضيف.
أما البيضة المصنوعة من الشوكولا فبدأ الغربيون استعمالها في القرن التاسع عشر. وفي أماكن كثيرة من فرنسا تقوم جوقة من المغنين والمغنيات حاملين آلات موسيقية مختلفة بجولات إلى المنازل والقرى ليلة عيد الفصح، ووينشدون أناشيد الآلام فيمنّ الناس عليهم بالهدايا على سبيل المعايدة.
في ألمانيا ثمة ما يعرف بـ”شعلة عيد الفصح”، حيث يتقابل سكان الريف يوم السبت قبل عيد الفصح، في بعض المناطق أحد الفصح أو اثنين الفصح ويحرقون فروع الأشجار. وتعد “شعلة عيد الفصح” من أشهر تقاليد الفصح في ألمانيا، انتشرت في القرن السادس عشر، وترمز إلى قيامة يسوع المسيح، إلا أن هذه العادة تعود ما قبل المسيحية، إذ ساد اعتقاد أن الحرارة والنور يطردان الشتاء، وتعمل النيران على تحصيب التربة.
أما في الشرق فيسلق المسيحيون البيض ويزينونه بألوان الأزهار أو بقشرة البصل اليابس. وفي يوم العيد يتنافس الكبار والأطفال على كسر البيض، وترمز البيضة والصوص الذي يخرج منها إلى الربيع وتجدد الحياة، أي تجدد حياة المسيح.
عيد أساسي – تجاري
كشف استطلاع أُجري في بريطانيا أنَّ شخصاً واحداً من كل ثلاثة بريطانيين لا يعرف سبب عيد الفصح، مع ذلك، في بريطانيا، وفي معظم البلدان في العالم، يبقى عيد الفصح الاحتفال الديني الأهم للعالم المسيحي.
بحسب دائرة المعارف البريطانية الجديدة، الفصح هو العيد الديني الأساسي للسنة الكنسية المسيحية، اذ يحتفل بقيامة يسوع المسيح في اليوم الثالث بعد صلبه، والعيد الأعظم للسنة المسيحية، الذي يُحتَفل به بفرح كبير، لأنه يَعِد بقيامة مشابهة لكل الذين قبلوا إيمان المسيح. إلا أنها تعلّق على استغلال عيد الفصح للربح، إذ تعتبره الصحافة “أعظم قصة بيعت على الاطلاق”، ويقول صانعو الألعاب أنه ثاني أكبر عيد لتقديم الهدايا، والأكبر، طبعا، هو عيد الميلاد.
استناداً إلى صحيفة ” ديترويت نيوز”، علمنة عيد الفصح صفة مميِّزة لمجتمع اليوم الاستهلاكي، وصار أرنب عيد الفصح، لا القيامة، النقطة المركزية.
وفي النَّروج، حيث ينتمي نحو 88 في المئة من السكان إلى الكنيسة اللوثرية الإنجيلية، 14 في المئة يقصدون الكنيسة في عيد الفصح، ونحو 75 في المئة لا يعتبرون الفصح عيداً دينياً ويفضِّلون الذهاب للتزلج.
كلام الصور
1- الجمعة العظيمة في اسبانيا
2- وفي مدريد
3- وفي الفلبين
4- بيضة الفصح الروسية
5- شجرة الفصح
6- بيض الفصح رمز التجدد.
مقال جيد