كلود أبو شقرا
“مستقبل الإنسان يتعلق بالثقافة”، بهذه الكلمات توجه البابا يوحنا بولس الثاني إلى المجتمعين في اليونسكو على احتلاف أصولهم ومعتقداتهم، في خطابه في 2 حزيران 1980، وأضاف: ” نلتقي على أرض الثقافة، حقيقة أساسية توحدنا. نلتقي، استطراداً، حول الإنسان”.
هذه القناعة بالذات دفعت يوحنا بولس الثاني إلى تأسيس المجلس البابوي للثقافة، وهو قسم في الكوريا الرومانية مكلّفٌ بتعزيز العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية ومختلف الثقافات. وبما أن لبنان هو في قلب كل بابا يتولى السدة البطرسية، فقد عين البابا فرنسيس أخيراً الدكتور إدوار جوزيف علم، البروفسور في كلية الإنسانيات في جامعة سيدة اللويزة، مستشاراً في المجلس البابوي للثقافة.
بعد إنساني
منذ بداية حبريته اعتبر البابا يوحنا بولس الثاني حوار الكنيسة مع الثقافات، مجالاً حيوياً حيث المحكّ هو مصير العالم في أواخر القرن العشرين. ذلك أن ثمة بعداً أساسياً قادراً على تعزيز او تعطيل أساسات الأنظمة التي هيكلت البشرية جمعاء وتحرير الوجود الإنساني من التهديدات الفردية والجماعية التي تثقله. مستلهماً من المجمع الفاتيكاني الثاني، اهتم بتطوير الحوار بين الكنيسة والعالم المعاصر. هذا البعد الأساسي للروح، يضع الناس في علاقة مع بعضهم البعض، ويوحدهم في الإنسانية المشتركة.
انطلاقاً من قناعته هذه، استشار يوحنا بولس الثاني، ابتداء من 5 تشرين الثاني 1979، أعضاء مجمع الكرادلة المقدس الذي اجتمع في روما في 17 كانون الأول 1980، والإدارات والقادة، حول مسؤوليات الكرسي الرسولي تجاه الثقافة، لمناقشة الآراء معهم، بعدما كلّف الكاردينال غابريال ماري غارّون بجمعها. وبناء على طلبه طرح الكاردينال أفكاراً في المجمع المنعقد في 25 تشرين الثاني 1981، بهدف دراسة، في مهلة أشهر، كيفية تامين علاقة الكنيسة والكرسي الرسولي بالثقافة بتعابيرها المختلفة.
أعرب البابا عن امتنانه للكاردينال غابريال ماري غارّون للعمل المثالي الذي قام به في هذا الصدد، بدعم سخي من المنظمات التي لها علاقة واسعة بمجال الثقافة: المجمع المقدس للتعليم الكاثوليكي، الأمانة العامة لغير المؤمنين، الأكاديمية البابوية للعلوم، ومركز الأبحاث في الاتحاد الدولي للجامعات الكاثوليكية.
لأن الوقت حان للاستفادة من هذه الأعمال، اقترح يوحنا بولس الثاني إنشاء هيئة خاصة دائمة لتعزيز الأهداف الرئيسة التي حددها المجمع الفاتيكاني الثاني، في ما يتعلق بالعلاقات بين الكنيسة والثقافة. أيضاً سجل مجمع الكرادلة، مع تكريس قسم كامل من رعوية الدستور “فرح ورجاء”، الأهمية الأساسية لثقافة التنمية الكاملة للإنسان، الصلات بين رسالة الخلاص والثقافة، الاغتناء المتبادل بين الكنيسة والثقافات المختلفةعبر التواصل التاريخي مع الحضارات المختلفة، حاجة المؤمنين إلى فهم كامل لطرق تفكير غيرهم من المعاصرين لهم.
في الدورة التي عقدها في خريف 1974، لاحظ سينودس الأساقفة، وعياً واضحاً لدور الثقافات المختلفة في تبشير الشعوب، وكتب البابا بولس السادس الذي جمع ثمرة أعماله في الإرشاد الرسولي “التيبشير بالإنجيل”: لا يتطابق الإنجيل والتبشير مع الثقافة بل هما مستقلان عنها مع احترامهما للثقافات جميعها، مع ذلك الملكوت الذي يبشر به الإنجيل يعيشه أشخاص مرتبطون عميقاً بالثقافة، وبناء الملكوت لا يمكن إلا أن يستعير عناصر من الثقافة الإنسانية. ليس بالضرورة ألا يتوافق الإنجيل والتبشير مع الثقافة، بل يمكن أن يتناغما معها من دون الخضوع لها”.
جمع البابا يوحنا بولس الثاني بنفسه التراث الغني للمجمع المسكوني وسينودس الأساقفة وآراء بولس السادس، وأعلن في 1 و2 حزيران 1980، في البداية في المعهد الكاثوليكي ثم في اليونسكو، الصلة العضوية بين المسيحية والثقافة، بالتالي مع الشخص في إنسانية واحدة.
هذا الرابط بين الإنسان والإنجيل، كما قال في خطابه أمام رجال ونساء من ثقافات مختلفة، هو الذي أوجد الثقافة في أساسها. وإذا كانت الثقافة تجعل الإنسان أكثر إنسانية، فإنها تتعمق في مصيره. هنا تكمن الأهمية، بالنسبة إلى الكنيسة المسؤولة عن حركة رسولية ذكية ريؤية، تنظر إلى الثقافة باعتبارها ثقافة حية، أي مجموعة قيم ومبادئ تشكل روح الشعب، لذلك قرر يوحنا بولس الثاني تأسيس مجلس بابوي للثقافة، من شأنه إعطاء دفع متجدد لاستمرار خلاص رسالة الإنجيل مع تعدد الثقافات، وأوكل رئاسة المجلس البابوي للثقافة، إلى الكاردينال غابريال ماري غارّون، ويضم لجنة رئاسية ولجنة تنفيذية ومجلس دولي يتألف من ممثلين مؤهلين لثقافة كاثوليكية في أنحاء العالم، ينعقد مرة في السنة على الأقل، ويرفع تقاريره مباشرة إلى البابا . وقد أعلن هذا القرار في 20 أيار 1980 في العام الرابع لحبريته.
أقسام ومهمات
يضم المجلس قسمين هما: الإيمان والثقافة، والحوار مع الثقافات. يركّز الأول على العمل الذي كان يقوم به المجلس قبل أن يُدمج فيه مجلس الحوار مع غير المؤمنين، في حين يُكمل الثاني عمل المجلس الأخير عبر إقامة حوار مع الذين لا يؤمنون بالله أو الذين لا يعتنقون أي ديانة، لكنهم منفتحون على التعاون الحقيقي. ويتعاون المجلس مع مجالس أسقفية وجامعات ومؤسسات دولية على غرار اليونسكو في ما يخص مجالات تهمّه.
يتألف موظفو المجلس الدائمون من الرئيس (حالياً الكاردينال جانفرانكو رافازي) والأمين والوكيل. كذلك يعقد المجلس جلسة عامة على الأقل مرة كل ثلاث سنوات، وعقدت جلسة هذه السنة في شباط تحت عنوان “ثقافات النساء: المساواة والفرق”، رمت إلى تقييم عمل المجلس اليومي، تخطيط برامج القسم، حشد الخبرات والأفكار حول مواقف ثقافية في المجتمعات المعاصرة. يتم هذا كله في سياق التبشير وحوار الكنيسة مع مختلف الثقافات. أما أعضاء الجمعية فهم كرادلة وأساقفة من بينهم الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي يعيّنهم الأب الأقدس لمدة خمس سنوات.
مهمة المجلس الشهادة أمام الكنيسة والعالم بأن الكرسي الرسولي يولي أهمية قصوى لتطور الثقافة والحوار المثمر بين الثقافات ولقائها المثمر مع الإنجيل. المشاركة في الاهتمامات الثقافية التي تتناولها دوائر الكرسي الرسولي بطريقة تسهل التنسيق في مهامها وتعاون المؤسسات الثقافية لدى الكرسي الرسولي. إجراء حوار مع المجالس الأسقفية لتعود بالنفع على كامل الكنيسة حول البحوث والمبادرات والإنجازات والإبداعات التي تجعل للكنائس المحلية، وجوداً نشطاً في البيئة الثقافية الخاصة بها…
كذلك من مهام المجلس التعاون مع المنظمات الكاثوليكية الدولية والأكاديمية والتاريخية والفلسفية واللاهوتية والعلمية والفنية والفكرية وتعزيز التعاون المتبادل. مراقبة، من خلال خبرته الفريدة من نوعها ومحددة من المنظمات الأخرى في الكوريا، العمل في المنظمات الدولية، من بينها: اليونسكو ومجلس التعاون الثقافي أوروبا، التي تهتم بالثقافة وفلسفة العلوم، العلوم الإنسانية، وضمان المشاركة الفعالة للكرسي الرسولي في المؤتمرات الدولية المعنية بالعلوم والثقافة و التعليم. تسهيل الحوار الكنسي- الثقافي على مستوى الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات الفنية والباحثين والعلماء، وتعزيز اللقاءات في هذه المناخات الثقافية. استضافة ممثلي الثقافة المهتمين بمعرفة عمل الكنيسة واستفادة الكرسي الرسولي من تجربتهم الغنية بتوفير مكان للحوار لهم.
بين الثقافة والإيمان
مع الأخذ بأن الخلاصة بين الثقافة والإيمان ليست مطلباً للثقافة فحسب، ولكن للإيمان، ايضاً، يعمل المجلس البابوي للثقافة على تعزيز الوجود الرعوي للكنيسة في هذا النطاق الحيوي في الألفية الثالثة، وتشجيع الحوار مع الديانات غير المسيحية ومع الأشخاص أو المجموعات التي لا ولاء لها لأي دين، في بحث مشترك عن التواصل الثقافي.
في الثمانينيات ازداد الوعي لإنشاء علاقة وثيقة بين عمل المجلس البابوي للثقافة واللجنة الحبرية للمحافظة على التراث الفني وتاريخ الكنيسة، التي أنشأها يوحنا بولس الثاني في 28 حزيران 1988، باعتبار أن الإيمان، في الواقع، يميل بطبيعته إلى التعبير عن نفسه في أشكال فنية وشهادات تاريخية تحمل في طياتها قوة تبشيرية جوهرية وقيمة ثقافية ينبغي أن توفر الكنيسة لها المزيد من الاهتمام. من هنا تأكدت الرغبة في زيادة حضور الكرسي الرسولي في مجال الثقافة عن طريق تجديد وتطوير العلاقات بين الأكاديميات البابوية.
في ضوء هذه الاعتبارات، دمج يوحنا بولس الثاني المجلس البابوي للثقافة والمجلس البابوي للحوار مع غير المؤمنين، في كيان المجلس البابوي للثقافة، وستبقى، من خلاله، اللجنة الحبرية للمحافظة على التراث الفني والتاريخ على اتصال دوري. وقد أعلن ذلك في كاتدرائية القديس بطرس في 25 آذار 1993، في السنة الخامسة عشرة من حبريته.
يشجع المجلس اللقاء بين رسالة الإنجيل والثقافات في عصرنا، وغالبا ما تميزت الأخيرة بالكفر واللامبالاة الدينية، لتكون أكثر انفتاحا على الإيمان المسيحي، وابتكار ثقافة ومصدر إلهام للعلوم والآداب والفنون.
يقدم المجلس رعاية كنسية في مواجهة ظواهر تمزق خطيرة بين الإنجيل والثقافات، ويشجع على دراسة مشكلة الكفر واللامبالاة الدينية الحاضرة في أشكال مختلفة في الأوساط الثقافية المختلفة، والتحقيق في أسباب وعواقب كل ما يتعلق بالإيمان المسيحي، لتوفير دعم كافٍ للنشاط الرعوي للكنيسة لتبشير الثقافات.
يعزز المجلس العلاقات بين الكنيسة والكرسي الرسولي مع عالم الثقافة، عبر اتخاذ مبادرات مناسبة بشأن الحوار بين الإيمان والثقافات، الحوار بين الثقافات ومع أولئك الذين لا يؤمنون بالله أو لا يعتنقون أي دين، شرط أن تكون منفتحة أمام التعاون الصادق، وتنظم مؤتمرات في هذا المجال عن طريق الخبراء.
تسمى اللجنة الحبرية للمحافظة على التراث الفني والتاريخي للكنيسة “اللجنة الحبرية للممتلكات الثقافية للكنيسة”، وهي مستقلة، مع رئيسها الخاص وهو من أعضاء المجلس البابوي للثقافة، ويجري اتصالات دورية لضمان الانسجام والتعاون المتبادل المثمر.
البابا فرنسيس والمجلس البابوي للثقافة
لمناسية انعقاد الجمعية العامة للمجلس البابوي للثقافة تحت عنوان “الثقافات النسائية: مساواة واختلافات” استقبل البابا فرنسيس أعضاء الجمعية في 13 شباط، اعضاء المجلس يتقدمهم رئيس المجلس الحبري للثقافة الكاردينال جانفرانكو رافازي، وألقى خطاباً حيا في مستهله الحاضرين لا سيما النساء وكل من شارك في الإعداد لهذا اللقاء الهام.، لافتا إلى أن الموضوع الذي اختاره المؤتمرون عزيز على قلبه، وقد تطرق إليه وتعمق فيه خلال مناسبات عدة.
أكد البابا أن الكنيسة “امرأة”، داعياً رعاة الكنيسة الجامعة والمؤمنين العلمانيين إلى التعمق في هذه الفكرة، لاسيما أولئك الملتزمين في حقل الثقافة والتربية والاقتصاد والسياسة والعمل والعائلات والمؤسسات الرهبانية.
شدد البابا على “ضرورة التوصل إلى توازن بين المساواة والاختلافات، ولا بد من أن يكون هذا التوازن متناغما ولا ينبغي أن نتعامل مع هذه المسألة من وجهة نظر إيديولوجية، لأن هذا الأمر يمنعنا من رؤية الواقع بوضوح. وفي العلاقة بين الرجل والمرأة يجب أن نقر بأنهما ضروريان بالنسبة لبعضهما البعض”.
وجه البابا كلمة تشجيع إلى النساء الناشطات في البيئات العائلية وفي مجال التربية على الإيمان والعمل الرعوي والتنشئة المدرسية، وفي البنيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. وقال إن المرأة تعرف كيف تجسد وجه الله الحنون ورحمته..
لم يخل خطاب البابا من الإشارة إلى الأشكال المتعددة من العبودية التي ترزح تحت وطأتها النساء، لافتاً إلى الاتجار بالبشر وتشويه الجسد، “وهذا ما يتطلب منا التزاماً دؤوباً في مواجهة هذه الآفات الخطيرة. وسلط الضوء على أوضاع الفقر المدقع التي تواجهها نساء معوزات ومرغمات على العيش في ظروف من الخطر والاستغلال، ويقعن ضحية ثقافة الإقصاء.
أشار البابا، في ختام كلمته، إلى أهمية تثمين الدور الذي تضطلع به المرأة في الحياة الدينية، مشدداً على ضرورة منحها فسحات أوسع داخل الكنيسة، وتعزيز الدور المركزي الذي تضطلع به المرأة داخل الأسرة، وتشجيع حضورها في مجال الحياة العامة والعمل والمحافل التي تُتخذ فيها قرارات هامة مع الحفاظ على حضور المرأة وسط العائلة.
كلام الصور
1- البابا يوحنا بولس الثاني
2- البابا بولس السادس
3- البابا فرنسيس والكاردينال الراعي
4- البابا مستقبلا أعضاء المجلس البابوي للثقافة
5- الكاردينال جانفرانكو رافازي