الشاعر هنري زغيب
مراراً ذكرتُ في هذا البرنامج ضرورةَ أَن يقومَ في كل بلدةٍ، ضيعةٍ، قريةٍ، مدينةٍ لبنانيةٍ مَن يُؤَرِّخ لها ديموغرافياً وجغرافياً ولوجستياً حتى إِذا تجمَّعَت تلك التأْريخاتُ تكوكبَتْ لنا ذاكرةٌ لبنانيةٌ تحفَظ وجهَنا وصوتَنا وإِرثَنا وتُراثَنا وتاريخَنا لكلِّ جيلٍ آتٍ، وهكذا تَخْلُدُ الأَوطان من جيل إِلى جيل. لذا يَهمُّني في هذا البرنامج أَن أَفتحَ دوماً كتاباً عن لبنان تعريفاً به ونقطةَ ضوءٍ على ما فيه من كُنوز.
في هذا السياق أَفتح اليوم كتاب “قرية الأَمس في الجَنوب–خربة سِلْم نموذجاً” للسفير الكاتب والشاعر جودت نور الدين صدَر قبل أَيام عن “دار الفارابي” في350 صفحة قَطْعاً كبيراً حاضناً وثائقَ وصوراً وذكرياتٍ ومشاهدَ من هذه القرية الجَنوبية الوادعة.
هُويّة الكتاب، كما شاءَها المؤَلّف: “دراسة سوسيولوجية” كتَبَها بالقواعد المنهجية موضوعيةً وواقعيةً وطَبَعيةً وتحليلاً بالوقائِع والأَسماء والأَرقام والإِحصاءات. بدأَ باسم القرية وتاريخها، وهو عريق سحيق يرقى إِلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وفيها اكتشافاتٌ أَثرية مهمّة جداً أَضاءَ عليها الرحالة الأَميركي إِدوارد روبنسون وعالم الآثار الفرنسي ليون أَلبِنيز وكشفا معالم فيها تعود إِلى الفينيقيين.
“خربة سِلْم” هي إِحدى أَربعين قريةً يتأَلف منها قضاء بنت جبيل في محافظة النبطية، يمكنُ بُلُوغُها عن طريق صور، جويا، تبنين، بنت جبيل. ترتفع عن البحر نحو 600 متر وتبعد عن بيروت نحو 100 كلم. لها زراعاتها من الكرمة والتين والزيتون والتبغ، وفيها حِرَفٌ شعبية وصناعات، وعرفَ أَبناؤُها الهُجرتين: الداخلية إِلى بيروت، والخارجية إِلى أَفريقيا وأَميركا ودول عربية.
جال المؤَلّف في دقة وشواهد على ما في قريته “خربة سلْم” من ظواهر سكانية وتربية وثقافة ونشاط فكري وأَدبي وحياة سياسية وجمعيات ومشاريع اجتماعية وفولكلور وأَزياء ورقصاتٍ وأَغانٍ شعبيةٍ ومعتقداتٍ وأَساطير وقيَمٍ اجتماعية وكلِّ ما يغطّي المعالم والأَعلام والعلامات في هذه القرية النَموذجية من قُرى جَنوبنا الغالي.
ويختم المؤَلّف الكتاب بوافرٍ غنيٍّ من المستندات الأَصلية والوثائق والصُوَر وفهرس الأَمثال المتداوَلة والجداول والخرائط والأَشكال. ولأَنه الشاعر المفتونُ بضيعته، أَغلَق كتابه على قصيدة في الحنين إِليها، جاء فيها:
“تُهدْهِدُها الأَنسامُ في رَونق المسا وتُوقظُها في الفجر زَقـــزقـــةُ الشادي
وإِن شَــــربَتْ وَهْجَ الـمغيبِ بُــيُــوتُها قُـــــلِ اشتَعَل الياقوتُ من غير إِيقادِ”
السفير جودَت نور الدين، في كتابه “قرية الأَمس في الجَنوب–خربة سِلْم نموذجاً“،لم يؤَرِّخ لقريتِه وحسب بل رسمها نموذجاً للقرية الجَنوبية مَلْمَحاً مثالاً لِـما في الجَنوب من جمالٍ وإِهمال، من عاداتٍ وذكريات، ما يجعلُ كلَّ قرية فيه، كما كلَّ قرية من لبنان، كـنـزاً دفيناً يَنتظرُ مَن يقوم إِليه تَأْريخاً وسُطوعاً كي ينبضَ كُلُّ لبنان بكنوزِهِ وينقُلَها الكتابُ أَمانةً من جيلٍ إِلى جيل.