د. حسن الشريف
بدأت وسائط الثورة التكنولوجية بالغوص داخل جسم الإنسان، وإلى حدّ ما داخل دماغه. فثمّة في الأسواق اليوم أجهزة متطوّرة تعطي إحساس الرؤية لمَن ولد أعمى بعينٍ فقدت وظائفها بيولوجياً، وأخرى تُعيد السمع لمَن فقد هذه الحاسّة، من خلال تواصل مباشر مع دماغ الإنسان المعنيّ.
وتتطوّر الأجهزة الذكيّة وآليات التواصل مع الدماغ البشري، بحيث يمكن بـ”مجرّد التفكير“ السيطرة على هذه الأجهزة واستخدامها في تحريك كلّ ما حولنا، ثم نقل تغذية ارتجاعيّة منها إلى الدماغ تبلّغه بما قامت به وتتلقّى منه التعليمات للخطوة التالية.
بتسارع غير مسبوق له في التاريخ، يتغيّر العالم اليوم. ويشمل التغيّر مختلف أوجه الحياة البشرية: الاقتصادية والمجتمعية والفكرية والنفسية وحتى السياسية والقانونية، بل بدأ التغيّر يتسرّب إلى تكوين الإنسان البيولوجي نفسه، متداخلاً بحواسه ودماغه. وكلّ هذا التسارع الأسي(Exponential) الهائل ناتج عن التسارع في المستجّدات التكنولوجية، بخاصّة في إطار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بحيث يصعب على المرء مجرّد متابعتها، حتّى لا نتحدّث عن استيعابها والتكيّف معها.
ما نراه اليوم ليس جديداً تماماً، لكن الجديد هو هذا التعزيز المتسارع بشكل أسي لقدرات الإنسان الذاتية الجسدية والإدراكية، وهذا التعاظم في استفادته من موارد الطبيعة، وما رافقه من تحسّن ملحوظ في الرعاية الصحّية والطبية، وهو ما تظهر له تأثيرات جذرية على صحّة الانسان وطول عمره وأساليب حياته، وكذلك على قدراته العقلية والجسدية.
لقد كانت المجتمعات البشرية مدركة دائماً للتأثيرات العميقة التي تجلبها مستجدّات التكنولوجيا وتسعى للاستفادة منها لتعزيز ميزاتها التنافسية مقابل المجتمعات الأخرى، ولتضخّم سيطرتها على البيئة الطبيعية حولها.
في الماضي أدّت الثورة الزراعية، عندما تعلّم الإنسان زراعة الحبوب في بلاد الرافدين ووادي النيل، إلى تمكين الإنسان من توفير ما يلزم من القوت بين المواسم الزراعية وحفظه بما يكفي ليستقرّ في مكان واحد، وهذا ما أفسح في المجال لقيام التجمّعات السكانية ولتطوّر المدنيّة الإنسانية المستقرّة، بكلّ مستتبعاتها الحضارية والثقافية كما نعرفها.
وأدّت الثورة الصناعية الأولى – عند اختراع محرّك البخار – إلى تعزيز القدرة الجسدية التي كانت محدودة في قدرة الإنسان والحيوان، ما أدّى بعد ذلك إلى انفجار كبير في مستجدّات التكنولوجيا والصناعة، وخصوصاً بعد تسخير الكهرباء لخدمة الإنسان وتوفير الطاقة الرخيصة وسهلة الاستعمال على امتداد كوكب الأرض.
ثم جاءت الثورة المعلوماتية (اختراع الحاسوب وما ارتبط به من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات) في أواخر القرن الماضي لتعزيز القدرة الفكرية المتوافرة للإنسان، من خلال تطبيقات الحاسوب المختلفة، حيث أصبح بالإمكان أن تقوم الآلة – الحاسوب بالكثير من المهام التي كانت حكراً على الدماغ البشري. وأدّى ذلك إلى ما نراه اليوم من انتشار مجتمع المعلومات بكلّ أبعاده وسماته. ومن الطريف أن نذكر هنا أن الأدبيّات في المجتمعات المتقدّمة تتحدّث عن ”البشر الرقميّين الأصليّين digital natives“ الذين ولدوا بعد ظهور الحاسوب، وتربّوا ونشأوا مع استخداماته المتعدّدة حتى أصبح جزءاً من طبيعتهم، بحيث أصبحوا غير قادرين على مجرّد التفكير بما كانت عليه الحياة قبل ذلك. أمّا نحن ”البشر الطارئين على المجتمع الرقمي ”naturalized digitals“، الذين كنّا ناضجين قبل انتشار تطبيقات الحاسوب المتنوّعة، فعلينا اللهاث خلف مستجدّات مجتمع المعلومات. فنُسَخ الهاتف الذكي وتطبيقاته، مثلاً، تتسارع كلّ بضعة أشهر بأسرع من قدرتنا على اللحاق بها. وما زلنا خارج بيئة وسائط التواصل الاجتماعي التي أصبحت جزءاً عضوياً في حياة البشر الرقميّين الأصليّين. وعلينا تصوّر ما ستكون عليه الحال في بيئة الإنترنت الثانية المقبلة، حيث يصبح كلّ شيء مرتبطاً بكلّ شيء، من خلال الأجهزة الدقيقة الذكيّة المرتبطة بحواسيب هذا العالم المُرَقْمَن المتشابكة في ما بينها على امتداد الكوكب.
وفي العقدين الأخيرين، ومع تنامي علوم تكنولوجيا الإدراك Cognitive science، تطوّرت بشكل ملحوظ الأجهزة والبرمجيات الذكية وآليات التواصل بينها وبين الدماغ البشري ”وسيطرته“ على حواسنا وتفكيرنا وذاكرتنا. كما بدأنا نغوص داخل جسم الإنسان، وإلى حدّ ما داخل دماغه، لتعزيز هذا التواصل. فهناك في الأسواق اليوم أجهزة تعطي إحساس الرؤية لمَن ولد أعمى بعين مدمّرة بيولوجياً، وأخرى تعيد السمع لمَن فقد هذا الحسّ، من خلال تواصل مباشر مع دماغ الإنسان المعنيّ.
ومن جهة أخرى تتطوّر الأجهزة الذكيّة وآليات التواصل مع دماغ البشر، بحيث يمكن بـ”مجرّد التفكير“ السيطرة على هذه الأجهزة واستخدامها في تحريك كلّ ما حولنا، ثم نقل تغذية ارتجاعية منها إلى ”دماغ الإنسان“ تبلغه بما قامت به وتتلقّى منه التعليمات للخطوة التالية.. تماماً مثل حواس الإنسان وشبكات الأعصاب داخل جسمه.
خمس ثورات تكنولوجية بازغة
لكن هذا ليس كلّ شيء، فما يجري من حولنا في العالم المتقدّم ليس تزايد ”تداخل الآلة والإنسان“ فقط، بل ثمّة تكنولوجيات أخرى تتطوّر بشكل موازٍ. نحن اليوم أمام خمس ثورات تكنولوجية بازغة متوازية ومتطوّرة: الثورة المعلوماتية (التي ما زالت في أوج عطائها)، والتكنولوجيا الحيوية، وعلوم وتكنولوجيا الإدراك، والتكنولوجيا النانوية، وتكنولوجيا الروبوتات. والتكنولوجيّات هذه، يغذّي بعضها بعضاً، وتتداخل في ما بينها بشكل خلاّق مذهل يؤدّي إلى نموّها جميعاً وتطوّرها بشكل متسارع أسي!
إذاً، ماذا علينا أن نتوقّع؟ يتحدّث المستقبليون في المجتمعات المتقدّمة عن نقطتين آحاديّتين مقبلتين، ربما قبل انتصاف هذا القرن:
أولاً، النقطة الآحادية التكنولوجية عندما تتلاقى كلّ هذه التكنولوجيات البازغة في تطبيقات متداخلة متكاملة. نحن نرى اليوم التأثير الهائل للتداخل والتفاعل بين اثنين أو ثلاث من هذه التكنولوجيات.. تُرى ماذا سيحدث إذا التقت جميعها؟!. يبدو أن أكثر المستقبليّين تفاؤلاً غير قادر على استشراف ما سيأتي به مثل هذا التلاقي. البعض يتحدّث عن ”استفاقة الحواسيب المترابطة في العالم“ لنشهد، بالتالي، وعياً حاسوبياً رقمياً مستقلّاً عن وعي الإنسان وسيطرته. والبعض يتحدّث عن ظهور الروبوت المؤنسن الذي يمتلك كلّ السمات البشرية، بما في ذلك الحركة الذاتية والقرار المستقلّ، ما عدا، ربما، القدرة على الابتكار والإبداع. وسيعيش هذا الروبوت بيننا ويتحرّك ويعمل ويقدّم خدماته، وربما يطالب بحقوقه القانونية!
ثانياً، النقطة الآحادية الإنسانية: يتحدّثون اليوم عن تطوير هائل لقدرات الإنسان، بإعادة تصميم جيناته الوراثية وهندستها قبل ولادته لإعطائه ما هو مرغوب فيه من سمات وقدرات؛ أو بزرع كلّ أنواع الرقائق الحاسوبية والأجهزة الذكية، النانويّة القياس، في كلّ أنحاء جسمه، بما في ذلك في دماغه، لتعزيز كلّ قدراته البشرية، بما في ذلك قدراته الفكرية والإبداعية.. وسينتج عن ذلك ”كائن حيّ هجين“ (الإنسان الآلة البيونك Bionic) يعيش بيننا، نحن البشر ”غير المعزّزين“، مع كلّ ما يترتّب عن ذلك من تداعيات اجتماعية وقانونية ونفسية.
سيكون لكلّ ذلك تداعيات هائلة على أوجه الحياة كافة؛ فالتطوّرات الاقتصادية تلحق سريعاً بالمستجدّات التكنولوجية، بخاصّة في المجتمعات الصناعية؛ لكنّ التداعيات المجتمعية والقانونية والنفسية لا تلحق إلّا بشكل متفاوت زمنياً، حتّى في المجتمعات الصناعية. فتلك المجتمعات ما زالت تلهث خلف تداعيات ”مجتمع المعلومات“ التي ظهرت في نهايات القرن الماضي. وسيؤدّي هذا التأخّر على مستوى التكيّف المجتمعي إلى اهتزازات عميقة في ثوابت القيم والثقافات المجتمعية؛ وسيستتبع ذلك اهتزازات أشدّ في الاستقرار النفسي للإنسان ذاته؛ وهذا ما قد يدفع، البعض على الأقلّ، إلى الارتداد إلى ”ثوابت الأصوليات“ الماورائية، وإلى التشدّد في التعامل مع الآخرين اجتماعياً بل وأخلاقياً أيضاً؛ وهو ما بدأنا نلاحظه في العديد من المجتمعات اليوم.
أين نحن في المجتمعات العربية من ذلك كلّه؟
نستطيع حقيقة أن نرصد تفاوتاً ملحوظاً بين المجتمعات العربية في اللحاق بالمستجدّات التكنولوجية والتكيّف معها، لكن لا بد لنا أن نرصد، وبوضوح مقابل، معاناة كلّ المجتمعات العربية من عدم قدرتها على التكيّف المجتمعي، وعدم قدرة المؤسّسات العربية على اللحاق في أطرها المجتمعية، وحتى السياسية والقانونية، وهذا ما أدّى إلى ظهور الأصوليات الدينية المتشدّدة، التي ارتدّت إلى ”قيم السلف الصالح“ الغامضة، فاعتبرتها من الثوابت التي تحميها (وتحمينا؟!) من كلّ الشرور، وذلك في محاولةٍ لتجاوز عدم القدرة على اللحاق بالمستجدّات العلميّة والتكيّف معها.
تُرى، ماذا سيحدث في مجتمعاتنا عند ظهور النقطة الآحادية؟!
******
(*) متخصص في فيزياء الذرّات وعلم المستقبلات – لبنان
(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق