الباحث والإعلامي سركيس أبو زيد
أورد الباحثون وخبراء السياسة تعريفات عدّة لمفاهيم المركزية والاتحادية والفدرالية والكونفدرالية، ترسم صورة لشكل الدولة التي تتصف بجملة من التنوّع العرقي والمذهبي والتركيبة السياسية المتعارضة والمكوّنات المختلفة. وهي صيغ دستورية تنظيمية لإدارة التعدّدية المجتمعية والثقافية، بخاصّة أن الفكر العربي بعامة، ظلّ ملتبساً إلى حدّ الازدواجية بين الدعوة الوحدوية المركزية الاندماجية وبين الصيغ الاتحادية الصورية أو الدستورية.
كُتب الكثير عن الفدرالية كصيغة اتحادية بين أقلّيات – إتنية ومذهبية – كما في العراق (كرد، شيعة، سنّة) أو بين كانتونات كما في فلسطين (غزّة، القدس، الضفّة المجزّأة…) أو بين طوائف، كما في لبنان (موارنة، سنّة، شيعة، دروز…) أو بين أقاليم وجهات، كما في اليمن.
الفدرالية كما تُطرح عربياً اليوم، هي تجسيد لتقسيم الكيانات السياسية المستقلّة، ومصطلح يُطلق على نظام حكم مرجو، يعبّر عن حالة فوضى وتجزئة داخل كيان سياسي موجود يتعرّض لأزمة تهدّد وحدته الوطنية الداخلية.
هكذا تقلّصت حدود الفيدرالية من امتداد جغرافي واسع يشمل العالم العربي، أو أقاليمه على الأقلّ، إلى فدرالية مذهبية إتنية هي أقرب إلى صيغة تقسيمية تمزّق الدولة الواحدة، إمّا إلى كانتونات وأقاليم قاعديّة (أرضية)، ذات طابع مذهبي إتني، كما هي الحال في العراق، أو إلى محاصصة طائفية مذهبية (في النظم والمؤسّسات) كما هي الحال في لبنان.
هذه الصيغ الاتحادية عُرفت في الغرب، وهي جديدة في الفكر العربي. يعتقد البعض بأن السفير والوزير المصري محمود رياض، ربما كان أوّل من دعا إلى اعتماد الفدرالية، كصيغة اتحادية بين مصر وسوريا، بدلاً من الوحدة الاندماجية التي تمّ الاتفاق عليها بين البعث وعبد الناصر في تجربة 1958-1961.
بالعودة إلى التاريخ، يتبيّن لنا أن يوسف بك كرم (1823 – 1889)، كان أوّل من طرح الكونفدرالية كصيغة لاتحاد ”أبناء اللغة العربية في الأقاليم السورية“، على حدّ تعبيره في الرسائل التي وجّهها إلى الأمير عبد القادر الجزائري في العام 1877، طارحاً فيها مشروعه لقيام ”سلطنة عربية“، وهي أقرب إلى اتحادية دستورية تشمل أكثر من كيان أو قطر أو دولة أو إقليم.
ما هي الظروف التي أحاطت بمشروع الكونفدرالية من أجل الاستقلال العربي، كما دعا إليه يوسف بك كرم في القرن التاسع عشر؟ وما هو مضمونه؟
من منفاه في إيطاليا وجّه يوسف بك كرم رسائل عدّة إلى الأمير عبد القادر الجزائري، عرض فيها الظروف الدولية والإقليمية، وضرورة ”إحياء السلطنة العربية“ (راجع ”لبنان ويوسف بك كرم“، الخوري اسطفان البشعلاني، 1925).
فقد استشرف كرم في هذه الرسائل، حصول اتفاقية ”سايكس بيكو“، التي عقدتها فرنسا وبريطانيا في 16 مايو (أيار) 1916، لاقتسام المناطق العثمانية بين الأناضول والحجاز، لأنه شاهد انحلال السلطنة العثمانية، ومساعي الدول الأوروبية لتحلّ محلها، يقول كرم:
”بينما حكومة روسيا منهمكة بالحرب الحاضرة، فإن حكومتَيْ فرنسا وإنكلترا قد هيّأتا الوسائل الآيلة إلى تجزئة الديار العربية، إلى أقاليم تلجأ إلى حمايتها، ولحمل هذه الأقاليم على رفض حماية الحكومة الروسية، خوفاً من أن يجمع الجنس العربي صفوفه، ويصبح حكومة واحدة، فحكومتَيْ فرنسا وإنكلترا تخشيان من أن يمتدّ فيما بعد، اتحادُ الجنس العربي، فينتزع منهما الجزائر وبعض أقاليم الهند. لذلك هما ترغبان في استعبادنا جميعنا..“.
لقد أثبت كرم حسّاً تاريخياً كبيراً بإدراكه خطورة المرحلة الانتقالية بين واقع السلطنة، وشبح الأطماع الأوروبية، وهذا بالفعل ما حصل حتى اليوم، فهو يقول: ”لدى سقوط الحكومة العثمانية، يتلقّانا الأجانب بالإرث عنها، ولا يعود يستطيع الجنس العربي أن يتّحد تحت راية واحدة“.
لذلك شدّد يوسف بك كرم بداية على ضرورة المحافظة على وحدة السلطنة، وإصلاحها على قاعدة حقّ العباد وحفظ القانون. أمّا إذا عجزت عن ترتيب الأمور، فيصبح من الواجب مناهضتها، وهذا في رأيه أحد الأسباب التي أدّت إلى ”قلّة عدالة الحكومة العثمانية“، يقول: ”لقد أهملت الشريعةَ الإسلامية السنّية، واتّخذت لها سياسةً أتعس من سائر سياسات العالم، وعمدت إلى إثارة الفتن بين شعوب الأقطار العربية، المختلفي المذاهب، فبدلاً من أن تعتني حكومتنا بتأييد الشرع الشريف والحقّ المبين، في الأقطار العربية، فإن رجالها الحاليين، ادّعوا السلطة المطلقة على كلّ شريعة، واستعبدوا المسلمين والنصارى معاً“.
ويستخلص كرم قائلاً: ”إن قلّة عدالة الحكومة العثمانية، توجب سقوطها. وهكذا أوشكت الظروف أن تلقي بجميعنا تحت ولاية حكومات أوروبا“.
فكرم في دعوته إلى إحياء ”السلطنة العربية“ توصّل إلى خلاصة نهائية مفادها ”أن لا نجاة ولا نجاح للأقطار العربية جمعاء إلّا بالاتحاد“.
فصيغة الاتحاد التي شكّلت محور رسائله إلى الأمير عبد القادر الجزائري تقوم على:
إقامة أقاليم مستقلّة متحدة بطريقة /الكونفيديراسيون
”أن تُعيّن على الأقاليم العربية أمراء مستقلّين يدفعون إليكم أموالاً مقرّرة، ويوحدّون صفوفهم تحت رايتكم، ضدّ كلّ تعدّ، قبل أن تتدخّل بأمورنا الدول الأجنبية. فذلك، هو أحسن سياسة، بل هو السياسة نفسها، التي قد استخدمها المسلمون منذ فجر نشأتهم.
وهذه السياسة قد استصوبتها حكومة بروسيا، وتمشّت عليها في تنظيمها جرمانياً، من أقاليم مستقلّة اتّحدت بطريقة ”الكونفيديراسيون“، فهذه الأقاليم المستقلّة، يسهر كلّ إقليم منها على صيانة إمارته، وترتبط مصالحه مع مصالح الحكومة الرئيسية، ويستمد قوّته منها…. تؤلّف اتحاداً وثيقاً بالمصالح والحقوق….فهذه السياسة الحكيمة، تجمع تحت الراية الشريفة، زعماء شرعيين مخلصي النوايا، يزيلون كلّ صعوبة، باستنادهم إلى حقّ الله والعباد….“
الناموس الأدبي يوحّد الأديان
”وبما أن كلّ ذي مذهب، يدّعي صحّة مذهبه وانحراف الآخرين، فلا سبيل للاتحاد، وجمع القوى الجنسيّة(المقصود من جنس واحد، لأن يوسف بك كرم يستخدم مصطلح ”الجنس العربي“ مثلاً)، إلّا بتوفير الناموس الأدبي، الذي قد أعدّه الله، لتهذيب سائر البشر على وجه الأرض… وعلى هذا الناموس الأدبي، تأسّست الشرائع الموسوية والمسيحية والإسلامية، بكلّ ما يلامس المعاملات البشرية. وإذا وجد في هذه الشرائع، ما ينافي هذ الناموس، فيكون تحريفاً قد اخترعه الجهلة، المدّعون العلم. فهذا الناموس يوجب على الإنسان أن يعامل الآخرين كما يرغب أن يعامل به. وهكذا يفرض عليه احترام حرّية الآخرين، في عقائدهم الدينية وفي جميع حقوقهم البشرية“.
قانون سياسي واحد يخضع له الجميع
”أتوسل إليه تعالى، أن يلهم حضرات علماء وأعيان الجنس العربي أجمع، ليسنّوا قانوناً سياسياً نخضع له جميعنا. وعندئذ نعلن بصوت واحد، إلى سائر الأمم المتمدّنة، بأننا نحن أيضاً أمّة واحدة متمدّنة، وقوّة واحدة مرتبطة بقانون واحد، يضمن للجميع الحقوق الأدبية، والحرية المذهبية، والاصطلاحات الطائفية، وفقاً لواجبات الدين والدنيا، بل وفقاً لحرّيتنا الجنسيّة(نسبةً إلى الجنس العربي) بأعمالنا الداخلية الحرّة، التي لم ينكرها أحد قطّ، على شعب من الشعوب البشرية“.
انطلق يوسف بك كرم في نظريّته حول الاتحادية العربية أو العروبة من رؤية فلسفية واستراتيجية، ومن خلال التزامه بما يسميه ”الشريعة الطبيعية“، التي هي الركن الوحيد الذي ترتكز عليه كلّ مصلحة عامة، لأن حبّ الوطن والجنسية من شأنها الاتحاد والقوة، والتي هي نتاج احترام هذه الشريعة.
ففكرته حول ”الاتحادية العربية“ هي وليدة ما رآه من ضرورة ترابط مصالح الأقطار العربية، وخصوصاً بعد الانقلاب الذي أحدثه شقّ قناة السويس في العام 1859، فكان لا بدّ من بثّ ”الروح الوطنية“ القادرة على مواجهة المطامع الأجنبية. ويتابع كرم فيقول :”هكذا نضع حدّاً لمطامع كلّ من يحاول أن يحجز حرّيتنا الجنسيّة ويسلب حقوقنا الأدبية، الوطنية، البشرية، الشرعية الإلهية“.
يتوجّه كرم إلى أبناء لغته العربية، وإلى أبناء الجنس العربي، وهمّه ”اتحاد الجنس والوطن، وإحياء السلطنة العربية المتعلّقة بها حقوق ومصالح أبنائها، فالاتحاد على قاعدة ”الناموس الأدبي“ و”القانون السياسي“، إنما هو الضامن الوحيد لحقوق الجميع وحرّياتهم. كذلك نؤكّد نحن العرب للعالم أجمع ”أننا نحن أيضاً أمّة واحدة متمدّنة“.
يُعَدّ كرم بحقّ رائد العروبة الحضارية الواقعية، وأول من طرح في العالم العربي النظام الفدرالي كصيغة دستورية لاتحاد المشرق على قاعدة وحدة المجتمع المتعدّد دينياً مع احترام القانون وحقوق الإنسان.
وهذه الرؤية طرحها كرم لتشمل ”الأقاليم السورية“ على حدّ تعبيره، منعاً لتقاسم هذه المنطقة، كما حصل لاحقاً في اتفاقية سايكس بيكو، بينما الطرح الفدرالي اليوم هو لتقسيم الكيانات التي أوجدتها الصفقة الفرنسية – الإنكليزية لتكريس الفرز الإتني والمذهبي.
وللدلالة على اتساع أفقه، نذكّر بما قاله حرفياً: ”.. فخير لنا إذاً نحن الشرقيّين أن يكون لنا المشرق بأسره وطناً لكلٍّ منّا، من أن تكون لنا أوطان عديدة مهانة على قدر صغرها وانقساماتها….“
من كونفدرالية عربية تشمل المدى الجغرافي الواسع، كما طرح يوسف بك كرم، إِلى فدراليات محصورة في بقع جغرافية محدودة، كما يُطرح اليوم، ترتسم طريق انحدار مشروع الوحدة العربية.
******
(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة افق