الباحث خالد غزال
من المفارقات العجيبة ان القضاء المصري حكم بالسجن على ناشطين مصريين اتهموا بخرق قانون التظاهر، في وقت أصدر أحكاماً عدة تبرئ أقطاب النظام السابق من الاتهامات بإعطاء الأوامر لرجال الأمن بالاعتداء على المتظاهرين وقتل الكثيرين منهم.
يتناسى أهل النظام أن أحد أسباب الانتفاضات العربية ناجم عن الاحتقان الذي ترتب على قمع الحريات السياسية وحق التعبير عن الرأي الحر ومعارضة سياسات السلطات القائمة، مما يعني أن مثل هذه الأحكام ستمهد الطريق مجدداً لتراكم الاحتقان الذي سيجد تصريفه يوماً في انفجارات سلمية وغير سلمية.
اذا كانت الانتفاضات العربية قد فجّرت المخزون الإرهابي في المجتمعات العربية، فإن هذا الإرهاب لم يسقط من سماء صافية. إنه الإبن الشرعي لاستبداد الأنظمة العربية المتسلطة على الشعوب، ومن ضمنها النظام المصري، السابق منه والحالي. يراقب المصريون بقلق سياسات النظام الحالية التي يستعيد فيها الممارسات نفسها تجاه التنظيمات السياسية من حيث كمّ الأفواه وقمع الحريات والزج في السجون.
يستعيد النظام المصري تقليداً مملاً مارسته الأنظمة العربية في عقود سابقة. فتحت حجة التصدي لمواجهة المشروع الاستعماري والصهيوني، رفعت شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، ووظفته، ليس في خوض المعركة ضد العدو القومي، بل في ضرب المعارضات السياسية والزج بها في السجون او إرسالها الى المنافي او إيوائها في القبور. تحت هذا الشعار، قمعت الحريات السياسية والفكرية والإعلامية، واعتبر كل من لا يتوافق مع سياسات الأنظمة بمثابة خائن او عميل. في معركة مواجهة الإرهاب المندلع اليوم في مصر وغيرها، يستعيد النظام شماعة مواجهة هذا الإرهاب في تكميم الأفواه ومنع قيام المعارضات السياسية والحد من حرية التعبير والتظاهر.
لم يكن الناشطون الذين حُكم عليهم بالسجن، لا هم ولا مناصروهم، يوماً من أنصار الحركات الإرهابية المتطرفة في مصر، بل على العكس كانوا من أشد خصومهم، وكانوا يواجهون ثقافة الإرهاب المتفشية بقوة في المجتمع المصري، مما يطرح علامة استفهام حول حقيقة مواجهة النظام للإرهاب.
اذا كانت التنظيمات المتطرفة تمارس العنف اليوم بسبب إزاحتها من السلطة، فإن هذا العنف الذي يغلّف فكرها مسؤول عنه النظام نفسه عبر وسائل متعددة. النظام مسؤول عن إباحة المجتمع للتنظيمات الدينية المتطرفة ولفكرها، من خلال التواطؤ معها ومع المؤسسات الدينية في نشر ثقافة التحريض والكراهية عبر الإعلام الرسمي وغير الرسمي، والبرامج التعليمية السائدة والكتب التي يعشش فيها اسوأ أنواع الثقافات، نقطة الارتكاز فيها التحريض على القتل ورفض الآخر. والنظام مسؤول عن تقوية هذه التنظيمات من خلال ممارسات قمعية في حقها لمنعها من العمل السياسي.
اذا كان وحش الإرهاب الذي صنع النظام قسماً أساسياً من كينونته، كما هو مسؤول عن انفلاته اليوم، فإن مواجهته بالوسائل العنفية الوحيدة لا يمكن ان تكون الأنجع في القضاء عليه. فهذا الإرهاب مزيج من عقل عنفي ومن ثقافة سياسية ودينية، ومن تقاليد بالية، ومن فكر خرافي يبدو كأنه يعود لأهل الكهف.
هذا الإرهاب يحتاج الى خوض معركة سياسية وفكرية وثقافية تتصدى لمنظومته. لسنا أمام مجموعات متفرقة او محدودة تعتنق هذه الثقافة، بل هي تغزو المجتمع المصري وتجد لها تربة خصبة للنمو، بما يسمح بمد الإرهاب المسلح بقوى بشرية ملؤها الإيمان بأنها تقاتل في سبيل الله وبأن الجنة في انتظارها بكل من تحويه من نعم وملذات.
مثل هذه المعركة ضد الإرهاب مشروطة قبل كل شيء بفتح باب الحريات وضمان المنخرطين في المواجهة. ان مواجهة الإرهاب، بمقدار ما تحمل من بعد عسكري، تحتاج الى ميدان الثقافة والفن والفكر، والحق في التعبير ورفض السياسات الظالمة والنزول الى الشارع وممارسة التظاهر السلمي.
انها معركة متنوعة المشارب، تنجح بمقدار انخراط أوسع الفئات الشعبية في خوضها. يخطئ النظام المصري في سياسته الراهنة والمستمرة في قمع الحريات السياسية والفكرية. أمور كثيرة تغيرت منذ انتفاضة يناير 2011 وخصوصا على صعيد الرقابة والمنع وفق المنطق السابق. كسرت التكنولوجيا الحديثة الكثير من القيود، وبات في الإمكان ايصال المواقف والآراء الى اوسع الاوساط. قد لا يمر زمن بعيد قبل أن تجد مصر نفسها أمام احتقان شعبي جديد، لا شيء يمنع انفجاره بشتى الوسائل.