الكاتب بلال حسن التل
تحدثنا في المقال السابق عن بعض الممارسات التي يؤدي استمرارها، ومن ثم تفاقمها الى فقداننا البوصلة في حربنا على الإرهاب التكفيري، الذي كنا قد أشرنا في مقال سابق الى بعض جوانب تطوره وتصاعده.. وهو الأمر الذي يحتم علينا أن نعيد النظر في الكثير من أدواتنا وأساليبنا في مواجهة هذا الخطر الوجودي الذي يهددنا في عقر دارنا على ايدي جماعات من أبنائنا الذين ضلوا طريقهم، فصاروا قنابل موقوتة بين ظهرانينا، لكنهم يظنون أنهم يدافعون عن ديننا وكرامة أمتنا.
وعندي،إن أول الأساليب التي يجب أن نعيد النظر فيها، هو أسلوبنا في الحكم على الظواهر بدون فهمها، فغياب الفهم يجعلنا نخطىء طريقة المعالجة، لذلك فإننا نحتاج الى جهد فكري لفهم ظاهرة التكفير، وفهم سر قوة وتنامي هذه الموجة، وكيف استطاعت اختطاف مجاميع من شباب الأمة لتحويلهم الى قنابل موقوتة ضد أمتهم، وإلى قتلة يسفكون دم الأبرياء دون أن يرف لأحدهم جفنٌ.
لقد سبق وأشرت الى هذا السر في مقال سابق قلت فيه: إن أئمة المذاهب الأربعة ليسوا هم أعظم فقهاء الأمة، وإن حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ليس أعظم مفكري الأمة في هذا العصر، وإن داعش ليست هي أقدم تيار سلفي، ولا أكبر تنظيم سلفي، ومع ذلك فإن الأئمة الاربعة هم الأكثر تأثيرا على حياة المسلمين منذ قرون، مثلما ظلت الجماعة التي أسسها حسن البنا حاضرة في حياة المسلمين السياسية والإجتماعية منذ قرن، وها هي داعش تملأ الدنيا ضجيجا وتتحول الى عامل مؤثر في السياسة الدولية.. والسر في ذلك كله أن هؤلاء جمعياً مع ما بينهم من فروق، اشتركوا في نقطة واحدة، هي سر حضورهم وتأثيرهم واستمرارهم، وهذه النقطة هي أنهم جميعا خرجوا من دائرة التنظير والقول الى دائرة العمل، وحاولوا أن يجسدوا افكارهم في واقع الناس.. سواء من خلال تلاميذهم كما فعل الأئمة الأربعة،أو من خلال إقامة المؤسسات كما فعل البنا، أو من خلال العمل العسكري، كما فعلت داعش.. فهؤلاء جميعا لم يكتفوا بالقول، بل حولوا الفكرة الى برامج عمل، وبنوا حولها تيارات، واستقطبوا لها الأحباب والمريدين والجنود والمتطوعين والممولين.
إذن.. فالسر ليس في قوة الفكرة، بل في تحويلها الى برنامج عمل، من هنا فانه لا يجوز أن نحصر أنفسنا ونحن نحارب التكفير في الجانب النظري، تاركين ساحة العمل الميداني للتكفيريين، يفعلون هم، ونكون نحن ردة فعل،مثلما هي الحال حتى الآن، وحتى لا تستمر الحال على ما هي عليه، علينا أن نخرج من صالات الفنادق الفارهة وحلقات التنظير الفارغة حول التطرف والتكفير وسبل مقاومتهما إلى ميدان العمل الذي يسد المنافذ أمام المتطرفين والتكفيريين، ويحول بينهم وبين شبابنا من خلال انخراط مساجدنا أولا ومعها كل المؤسسات المعنية في برنامج عمل اجتماعي فكري ميداني موحد، يجمع بين محاربة الفقر والبطالة، وبين بناء الحصانة الفكرية لشبابنا.. وهذا أمر في منتهى الأهمية والخطورة.
إن مواجهة التكفيريين بالنزول الى الأرض من خلال مشاريع عمل اجتماعي وثقافي يتجسد في حياة الناس، يفرض علينا أن نعيد النظر في خطابنا المستخدم في مواجهة الإرهاب التكفيري، فالمتأمل في خطابنا في مواجهة هذا الخطر الداهم يلمس خطاباً انشائياً وصفياً اتهامياً، يتوقف في معظم الأحيان عند حدود وصف الجماعات التكفيرية بأنها جماعات ارهابية دموية خارجة على اجماع الأمة تشوه صورةالإسلام.
وكل هذا صحيح، ولكنه لا يكفي لمحاربتها وكبح جماحها، فالصحيح أيضا هو أن هذه الجماعات أو جلها لديها خطاب فكري وإن كان مشوهاً، ولديها مقولات فقهية وإن كانت مبنية على سوء الفهم، ولديها نصوص مجتزءة تعتمد عليها، مما يلزمنا بأن تتصدى لتفنيد هذا الخطاب فئة من الفقهاء المعتبرين والمفكرين الجادين، فيفندون المقالات والمقولات التي يعتمد عليها التكفيريون لتبرير ممارساتهم، ولتجنيد شبابنا في صفوفهم من خلال تضليلهم بهذه المقالات والمقولات، آخذين بعين الإعتبار أن الجزء الأعظم من معركتنا مع الإرهاب التكفيري هو الجزء الفكري الفقهي العقدي..
وهذه منطقة اختصاص شديدة الحساسية لا يجوز أن يخوض بها إلا الثقات من العلماء والمفكرين الذين يستطيعون نيل ثقة الناس كافة، والشباب التكفيريين على وجه الخصوص، ولنا في مراجعات الجماعات الإسلامية في مصر وتجربة المناصحة في السعودية، والحوار مع المعتقلين الإسلاميين في الأردن مؤشرات إيجابية، يجب أن نطورها ونعمقها، أما أن تظل هذه القضية مشاعاً يدلي كل وارد سبيل بدلوه فيها؛ فإن ذلك مما يثير الشباب وقواعد عموم المسلمين عندما تأتيهم النصائح حول دينهم ممن لم يشتهر عنه حب الدين وأداء أركانه. مما يوفر ذريعة إضافية للتكفييرين.
ولأن الجزء الأكبر من المواجهة مع التكفير هو جزء فكري، فإن الإعلام يلعب دوراً رئيساً في هذه المواجهة،ونحن هنا لا نقصد أدوات ووسائل الإعلام، فهذه مقدور عليها، لكننا نقصد ما هو أهم من الأداة والوسيلة، تلك هي مضامين الرسائل الإعلامية، وهنا أيضاً لابد من الاعتراف بأن جل ما نسمعه ونقرأه في وسائل الإعلام لا يخرج عن دائرة الوصف والشتم والاتهام.. بينما نحتاج إلى تفنيد للمقولات والطروحات من أهل العلم والاختصاص، وهو ما لم نلمسه حتى الآن، مما يعني أن علينا أن نعيد النظر في مضامين رسائلنا الإعلامية لتكون رسائل إقناع، وبناء قيم ومفاهيم لدى شبابنا، غير تلك التي يضللهم بها دعاة التكفير، الذين علينا أن نعترف أنهم يتكاثرون بين ظهرانينا.
خلاصة القول، إنه لابد لنا من النزول إلى أرض المعركة بجنودها المؤهلين والمزودين بأدواتها وأسلحتها الصالحة، حتى لا يحقق التكفيريون أهدافهم بين ظهرانينا.
*******
(*) رئيس “المركز الأردني للدراسات والمعلومات” وصاحب وناشر جريدة “اللواء” الأردنية.