أُقيمَ على مسرح جامعة سيِّدة اللّويزة بزوق مصبح، وفي حضور حَشدٍ رسميٍّ وشعبيٍّ غير مَسبوق، الاحتفالُ المركزيُّ بالذِّكرى المئويَّة للإبادة الأرمنيَّة الذي دعت إليه بطريركيَّة الأرمن الكاثوليك برعاية مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان.
بعد النَّشيدَين الوطنيَّين، اللُّبنانيِّ والأرمنيّ، افتتاحيَّةٌ من الإعلاميِّ جورج قرداحي، بدأها بإلقاء قصيدةٍ بالعربيَّة بعنوان “حفنةُ رماد” للشَّاعر الأرمنيّ سيامَنتو، من كتاب شعراؤنا الذي يتضمن مجموعة قصائد لكبار شعراء الأرمن ترجمة الشاعرة جولي مراد. وأتبعَها بمُداخلةٍ استذكرَ فيها الإبادة الجَماعيَّة التي تعرَّضَ لها الأرمن.
يغيايان
وتكلَّم المونسينيور جورج يغيايان بِاسم بطريركيَّة الأرمن الكاثوليك، فطالبَ باعترافالحكومة التُّركيَّة بالجريمة-الإبادة الَّتي ارتكبَها حُكَّامُ “تركيا الفتاة”، أنور وطلعت وجمال، راحةً لأرواح الشُّهداء الأبرار، المليونِ ونِصفِ المليون، ومَجدًا للإنسانيَّة جَمعاء؛ وبالتَّعويض عن الأديرة والكنائس والمدارس، والقصور والنَّوادي الثَّقافيَّة والصُّروح الحضاريَّة والممتلكات والعقارات الأرمنيَّة، الَّتي تحوَّلَت، في زمن التَّوحُّش والهَمَجيَّة والإرهاب، مَزاربَ حيواناتٍ، وثُكْناتٍ عسكريَّةً ودوائرَ حكوميَّةً، وانتُهِكَتْ حُرمتُها وقُدسيَّتُها، ودُمِّرَتْ وتبعثرَتْ أكوامًا من أحجارٍ وغُبار؛ وباستعادة الأرض السَّليب، ورمزُها جبلُ أراراتَ الدَّهري، وسهولُ قيليقيا اليانعةِ الخضراء.
أنطوان رعد
وألقى الشَّاعر أنطوان رعد قصيدةً بعنوان “بَشِّري يا شقائقََ النُّعمان”، مطلعُها:
خبِّري يا شقائــقَ النُّعمــانِ خَبِّري عن مجازر السُّلطانِ
عن تُراثٍ من الدِّمـاءِ عريـقٍ خَطَّه للورى بَنـو عُثمـانِ
جعلوا البَطشَ عندَهم شِرعـةَ الحكمِ فأضحى ضربًا من الإدمانِ
وختامُها:
بَشِّري يا شقائـقَ النُّعمـــانِ بربيعِ الأحـرارِ والشُّجعانِ
أنتِ عينٌ من مخرز التُّركِ أقوى رُبَّ عينٍ تلوي حديدَ السِّنان
شوكـةٌ أنتِ في ضمير طغـاةٍ أتقنـوا الغَدرَ أيَّمـا إتقـانِ
إنَّ مَجدَ الطُّغـاةِ وَصمةُ عـارٍ مثلَما الغارُ فوقَ رأس الجبانِ
العماد عون
وتكلَّمَ رئيس الوزراء الأسبَق النَّائب العماد ميشال عون عن “التَّاريخ الذي يُعيد نفسَه تنفيذًا لفِكر إلغائيٍّ تمامًا كما جرى مع الأرمن منذ 100 عام”؛ ورأى أنَّ “إلغاء التَّعدُّديَّة ليس بالمشروع الجديد، بل يعودُ إلى أيَّام سلاطنة العثمانيِّين”. وأشار إلى أنَّ “قافلةَ الشُّهداء لم تعُدْ تقتصرُ على المسيحيِّين، بل أصبحت تضمُّ مسلمين من كلِّ الطَّوائف؛ وعدمُ الاعتراف بمجازر الماضي شجَّعَ على العودة إلى ارتكاب المجازر حاليًّا”؛ وقالَ “إنَّ المجاعة لم تمنع مسيحيِّي المشرق من التَّمسُّك بأرضهم وهويَّتهم ومن التَّعامل مع محيطهم”، مُشَدِّدًا على أنَّ “الإجرامَ يُمارَسُ ضِدَّ شعوب الشَّرق وحدَها في مواجهة التَّكفيريِّين الذين لن يتمكَّنوا من إيقاف مسيرة الحضارة”.
أمين الجميل
وأمَّا رئيسُ الجمهوريَّة الأسبَق الشَّيخ أمين الجميِّل فقالَ إنَّ الأرمن متَجَذِّرون في لبنانَ، ومعاناتُهم معاناتُنا، ومصيرُهم مصيرُنا، وأشار إلى أنَّ لبنانَ “سيفقدُ معناه إذا فُقِدَتِ الشَّراكةُ بين مُكَوِّناته، وأنَّ الأرمنَ ركنٌ أساسيٌّ وميثاقيٌّ في الدَّولة”. وعَدَّ أنَّ “من الأهميَّة بمكانٍ إنجازُ الاستحقاق الرِّئاسيِّ لكي يبقى المنصبُ الأوَّلُ المعقودُ للمسيحيِّين في العالم العربيّ”. وأشار إلى أنَّ “تغييبَ الرِّئاسة ضربٌ لرسالة لبنان، ولا يُمكنُ السَّماحُ لأيِّ نظام بأن يطيحَ موقعَ الرِّئاسة الأولى”؛ كما حضَّ على أخذ العِبَر من الماضي وأحداثه، وناشدَ اللُّبنانيِّين كيما يتَّحدوا “في مواجهة مخاطر المنطقة وحروبها”، ودَعا تركيا إلى الاعتذار في لحظة توبة حقيقيَّة.
البطريرك الراعي
وتكلَّم البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرَّاعي، مُختَصِرًا ما أعدَّه في المناسبة، فوجدَ أنَّ “ثمَّة مخطَّطًا إستراتيجيًّا متواصلاً لمجازرَ بدأت مع السُّريان والأرمن والأشوريِّين والمسيحيِّين في جبل لبنان، وأُخرى نراها اليومَ بأمِّ العين، وكأنَّ حضارةَ العالم تسيرُ إلى الوراء، والدِّينُ يُستخدَمُ وسيلةً للتَّعصُّب الدِّينيّ”. وسألَ أنْ “لماذا هذا العداءُ للمسيحيَّة المشرقيَّة في الدُّول العربيَّة والإسلاميَّة رغمَ أنَّ المسيحيِّين صنعوا التَّاريخَ في هذه الدُّول، وقدَّموا كلَّ شيءٍ جميلٍ لمجتمعاتهم”؛ وشدَّد على أنَّ “المسألةَ المطروحةَ على المسلمين هي كيفيَّةُ التَّعامل مع الحركات والتَّنظيمات التي تستغلُّ الإسلامَ، وتطعنُ في جوهره، وتحملُ أبناءَ الدِّيانات الأخرى على الكفر بالدِّين”. وأضافَ أنَّ “اللُّبنانيِّين متمسِّكون بميثاق العيش معًا في دولةٍ تفصلُ بين الدِّين والدَّولة، ولا تُعطي امتيازًا لأيِّ دولة، وأنَّ المسيحيِّين واللُّبنانيِّين يريدون دولةً لا تميل مع أيِّ فريق”.
البطريرك نرسيس
وتخلَّلَ الاحتفالَ عزفٌ موسيقيٌّ وإنشادٌ لجوقة غرونغ البطريركيَّة، فيما انتهى بصلاة ختامٍأدَّاها البطريرك نرسيس بدروس التَّاسع عشر، جاءَ فيها: “أمامَ قداسةِ شهدائِنا المَليونِ ونِصفِ المَليون؛ وأمامَ عَظَمَةِ قوافِلِ الشُّهداءِ الَّذينَ سَقَطوا، ويَسقُطونَ اليومَ أيضًا، في ساحاتِ الكرامةِ، دفاعًا عن الحُرِّيَّةِ والسِّيادةِ والاستقلالِ في لبنانَ وفي أرجاءِ المَشرق العربيّ دفاعًا عن حرِّيَّة ضمائِرِهم ومُعتقداتِهم الإيمانيَّة، وسيادةِ كراماتِهم الإنسانيَّة، واستقلالِ أوطانِهم؛ وذَوْدًا عن إيمانِ هؤلاءِ، وتَعَلُّقًا بالقِيَمِ والمبادِئِ الإنسانيَّةِ الَّتي ساروا على هَدْيِها طِيلَةَ حياتِهم لِيَشهَدوا أمامَ ظالِميهِم وجَلاَّديهِم، وأمامَ العالَم، على سُمُوِّ الحقيقةِ والعدلِ والحَقّ، وعلى قُدسيَّةِ أوطانِهم، وحضاراتِهم، وثقافاتِهم، وتُراثِهِم الرُّوحيِّ والأخلاقي؛ هَا إنَّنا، في خِتام هذا الاحتِفال، نرفَعُ أعيُنَنا إليهِم، شاخِصينَ ومُدافِعينَ عن كرامةِ الشَّخصِ البَشَريّ، وعن كرامةِ كلِّ مُواطِنٍ يَعيشُ على أرضِ الوطنِ العربيّ، وطنِ التَّجَلِّياتِ الإلهيَّة، لِيَنعَمَ الجميعُ بالطُّمأنينةِ والأخُوَّةِ الصَّادقةِ والسَّلام”.
مئة… وتستمر الإبادة
وجَرى توزيعُ مجلَّدٍ بعنوان “مئةٌ… وتستمرُّ الإبادة” للأديب والباحث ناجي نعمان على جميع الحضور الذين فاقَ عددُهم الخمسمئة. ويقعُ المجلَّد في 512 صفحة، ويتضمَّنُ مدخلاً بعنوان “الإبادة، كيف لها أن تستمرَّ بعد مئة”، ومقدِّمةً بعنوان “هكذا لَفظت المجازرُ حُممَها”، وثلاثةَ أبواب: “الأرمن شعبٌ شاهدٌ وشَهيد” (ملخَّص تاريخيّ)، و”شهاداتٌ في شُهدائه” (256 شهادة جُمعَت من 35 بلدًا في لغاتها الأصليَّة، ونُشرت مع ترجمتها العربيَّة، لشهود عِيان وشخصيَّات تاريخيَّة وفكريَّة وأدبيَّة من غير الأرمن، تُغطِّي الفترة الممتدَّة من المجازر الأولى إلى اليوم)، وأخيرًا “باقة ورد وقرنفل جنى لبنان والعالَم” (80 شهادة وُضعَت لمناسبة المئوية، بأقلام باحثين وشعراء وأدباء من أصدقاء المؤلِّف، ينتمون إلى 24 بلدًا، وقد كتبوا في 14 لغة).
ويرمزُ غلافُ المجلَّد، بلَونه البَنَفسَجيّ، وعلى ما يقولُ المؤلِّف، “إلى زمن الحزن والصَّوم والآلام لدى المسيحيِّين على رَجاء القيامة التي لا بُدَّ آتِيَة. وأمَّا الزَّهرةُ عليه – وتُدعى بالأرمنيَّة “أَنْمُروك”، وهي بنفسجيَّةُ اللَّون أيضًا، وقد تكون بيضاء (زهرة اللَّبن الشَّتويَّة) – فتُعرَفُ باللاَّتينيّة بالـ “غالَنْتُس نيـﭭـاليس” (Galanthus Nivalis)، وبالإيطاليَّة بالـ “بوكا نِـﭭـِه” (Bucaneve)، أي ثاقِبَة الثَّلج، وتُعَدُّ زهرةَ الخلود، ذلك أنَّها، على صِغَرها ولِينها، تكسرُ الثَّلجَ في شهر شباط، فتظهرُ واحدةٌ منها في اليوم الأوَّل، وثلاثةٌ في اليوم التَّالي، فجميعُها في اليوم الثَّالث! هذا، وقد أُخِذَ بتلك الزَّهرة، وبألوانها، رَمزًا للإبادة الأرمنيَّة عنوانُه: “نتذكَّر ونُطالِب”.
ومن أبرز أفكار المجلَّد، نقرأ:
“الإنكارُ هو الاستِمرار”… نَعَم، الإِبادةُ مستمرَّةٌ، والمَعنِيُّون بها، وبنتائجها، اليومَ، كلُّ مُكَوِّنات هذا المَشرق التَّعِس، ومن دون أيِّ استِثناء؛ وكيف تكونُ استِثناءاتٌ والتَّكفيريُّون يَتَكافرون ويَتقاتلون كما لم يَتقاتَلْ مِن قَبلُ بَشَر، فيما العصرُ عصرُ تَفكيرٍ لا تَكفير، ولا كافِرَ إلاَّ المُكَفِّر كما لَطالَما رَدَّدنا… إنَّما الفَقرُ فَقرُ الفِكر وفِكرُ الفَقر؛ ولا أحَدَ يَحتَكِرُ الحقيقةَ، لا أحد؛ وكَذا لا أحدَ يَحتَكرُ اللهَ، لا أحَد، ولا حقَّ لأحَدٍ بالكَلام عنه، وبِاسمِه، لا أحَد؛ ثمَّ إنَّه، تَعالى، لا يَقِفُ مع بَشَريٍّ دونَ الآخَر، أو ضِدَّ هذا لحِساب ذاك!”
***
“على الإنسان، في مواجهة المآسي البَشَريَّة، وعلى رأسها الإباداتُ، أنْ يغضبَ حتَّى لا يَنسى، وأنْ يأملَ حتَّى يستمرَّ، ويتقدَّم. والإنسانُ فوقَ الأديان والأعراق والأوطان، فالدِّينُ والعِرقُ والوطنُ للإنسان، لا العَكس! وليَكُنْ تنافُسٌ، وحرِّيَّةُ اختِيارٍ وانتِقال، إلى حدود اللاَّدين واللاَّعِرق واللاَّوَطن، ولْنَسْتَعِضْ من العُهود الإلهيَّة والأسطوريَّة باللاَّعَهد الجديد الَّذي لَطالَما دعَونا إليه: العَهدِ الإنسانيّ!… وأيًّا تَكُ، بِحَسَب كلٍّ منَّا، العَناصِرُ الَّتي تُنشِئُ الأُمَمَ (أرض، عِرق، لغة، دين، تاريخ مُشتَرَك…)، فإنَّ تلك العناصِرَ، إِلَّم تَقتَرِنْ بمبادئَ إنسانيَّةٍ جامِعَةٍ، عَبَثًا تُحاولُ الأُمَمُ العَيشَ، وعَبَثًا تُحاولُ التَّعاونَ والتَّكتُّلَ، ووَداعًا لحُلُم الوَحدة الإنسانيَّة المُرتَجاة!”
***
“أين جَرَاءَةُ الأتراك؟ أفَلا يُدرِكون أنَّ الاعتِرافَ، والاعتِذارَ، والتَّعويضَ، نعمةٌ لهم، وأنَّهم سيَربَحون ممَّا قد يُقدِمون عليه أكثرَ ممَّا سيُربِحون؟ لقد تركَ أجدادُهم الشَّرقَ بعد أربعة قرونٍ ونيِّف من الحُكم؛ تركوه أكثرَ جهلاً، وتخلُّفًا، وطبَعوه بالقَسوة، والرَّشوة، وعَمَّدوه بالمَجازر. أفلا يَوَدُّون، والحالُ تلك، دَمغَ الإنسانيَّة المُعاصِرَة ببَصمةٍ تُزيلُ وَصمَةَ الماضي، وتُعيدُ إليهم اعتِبارَهم وكرامتَهم؟”
***
“نَقولُ: لَئِن فاتَ أوانُ نُورِمْبِرغَ تُركيَّةٍ في مَوضوع الإبادة الأرمنيَّة، وقد ماتَ المُرتَكِبون، وطالَ أمَدُ التَّعويض المادِّيِّ على الأرمَن قرنًا كامِلاً، وإِلَّم يَفُتْ، فإنَّ التَّعويضَ المَعنويَّ مُمكنٌ، بل مَطلوبٌ، ومُلِحٌ اليومَ قبلَ غَدٍ… ونَنصَحُ: تَبقى الحقيقةُ الثَّابتةُ الوحيدةُ مُتَمثِّلَةً في أنَّ السَّيِّدَ إِرْدُغان – خليفةَ أتاتُوْرْكَ في حُكم تركيا للفترة الزَّمنيَّة الأطوَل، وأوَّلَ رئيس جمهوريَّةٍ مُنتَخَبٍ من الشَّعب – ما زالَ عليه أنْ يَعترِفَ بالإبادة الأرمنيَّة صَراحةً، ويَعتذرَ عنها، ويُعَوِّضَ عليها، كَيما يدخلَ التَّاريخَ، ومن أبوابه الواسِعَة. فهَلاَّ يُقدِمُ، أم نَنتظرُ خُلفاءَه لِيَفعَلوا؟!
***
“نجِدُ أنَّ الفارِقَ بين الشُّعوب إنَّما يَكمُنُ، اليومَ، بعامَّةٍ وأساسيًّا، بينَ الذَّكاء الغَربيِّ “المُتَغابي”، والغَباءِ الشَّرقيِّ “المُتَذاكي”. فمَتى نُصبحُ أذكياءَ ونَستَعيضُ من “التَّذاكي” بالذَّكاء، بحيث نَدَعُ الآخَرَ يَعيش، ونَعيش؟!… ثمَّ: الحياةُ قصيرةٌ، ومنها لا يَأخُذُ المَرءُ شيئًا، فحتَّى الخشَبَةُ هي الَّتي تأخُذُه. نَعَم، لا يَأخُذُ المَرءُ من الحياة سوى وقفةِ عِزٍّ حين يَعِزُّ العِزُّ!