الوزير السابق جورج سكاف
في إطلالته الأُولى على العالم الرحباني اختار هنري زغيب طريق النحل.
لأنه عنوان قصيدة رحبانية : ” طريق النحل الطاير من فوق القصور، أعلى من القصور، أعلى من قبب العالي عميكتب سطور…”
ولأنه عنوان المسيرة الرحبانية ” بدأب النحل على الجودة والتأنّي والدِقّة والصبر والمُثابرة في صُنع قرص عسل”
طريقة اتبعها الشاعر هنري زغيب هو أيضا، بدأب النحل على الجودة والمثابرة، في أحاديث شهرزادية مع منصور الرحباني ليقطف من كلماته جنى عمل الأخوين رحباني في بناء وطن الأَحلام، بمَسرحة حكايا القرى واستنهاض أمجاد التاريخ، قصورأً من الفن تُعطي الوطن هوية حقيقية مجيدة.
سيرة الاخوين رحباني، مسيرة نهضة فنية في لبنان والشرق، رواها منصور الرحباني بتفاصيل ولا ادق، يوميات الضَنى والشَّقى والكَدّ والجُهد، التي عاشها الصغيران عاصي ومنصور حتى بلوغهما خشبة مسرحٍ مُرتجل في مقهى فوار انطلياس، يقدمان عليه ألاعيب مُضحكة وتمثيليات شعبية يكتبها عاصي في صحيفته “الحرشاية” ويدوزنها منصور في صحيفته “الأغاني” وتنتهي بهما غالبا هاربين في بساتين انطلياس… ومع ذلك تابعا طريقَ النحل في المُثابرة ليبلغا هياكلَ إلهة الشمس، بمسرحيات أيقظت أعمدة بعلبك على غُزاة جُدُد يحيون عظمَتها بمفاخر شعب راقٍ يزيدها فخرا.
في اطلالته الثالثة اليوم – بمزيد من خوابي ذكريات عتقت فطابت ومزيد من الصور تُحيي الذاكرة وبإخراج طباعي أغنى وارحب – يجتاز هنري زغيب “طريق النحل” الى رحاب الأخوين رحباني، وقد صار منها في الصميم، يطلُّ بها من هنا، من مسرح الأخوين رحباني، عند فوار الفن الرحباني في انطلياس التي صارت عاصمة لحركة ثقافية ومنطلقا للإبداع سنةً بعد سنة، ليوجّه تحيةً خاصة الى منصور، بعد غيابه، مُضافة الى تحيات إكبار لفن رحباني يستمر متجددا بألق عاصي ومهابة منصور، ثنائيأً ثلاثيا بسحر صوت فيروز ويتسع رباعيا بغنى تنوع الياس، وأكثر فاكثر بتعدُّدِ العواسل الرحبانية، وفي كل قفير منها مليكُ نحلٍ يُعطي عسلا ملكيا.
طريق النحل أوصلت هنري زغيب الى قطف قرص العسل الرحباني، وتابعها الى عواسل شتى، بالدأب والمثابرة وبحنكة وجدية، استكشف عمق روحانية جبران، من شواهد الأزمنة والأمكنة، فاصطفاها قِيَماً جبرانية تُحاكي روحانية مصطفى نبي جبران. ومن مُجالسته سعيد عقل، ساعات طويلة، في أحاديث صحافية ومقابلات تلفزيونية، استنطقه سرَّ الكلمة الرشيقة فبانَت ذات قوام، واستعاد معه تقصيب كل قصيدة عمارةً منحوتة في الصخر كاعمدة بعلبك. في كل بيت لعبة مُبتكرة وجمالية تحكي قصة حُبّ او نبضة مجد عظيم، جمعها في كتاب “سعيد عقل إن حكى” فجاء في بهاء “لبنان إن حكى” وأكثرشموخا، إن لم يكن أعلى قمة بين الجبال فأعلى قمة في الحضارة، وفي الألوهة، إذ مسح قانا، القرية اللبنانية الوادعة، بهالة قُدسية يوم دخلها المسيح، مع أمه، إنسانا عاديا لحضور عرس، وخرج منها إلاهاً باول أُعجوبة حولت المياه الى خمر، فآمن به تلامذته.
طريق النحل ميزت منصور الروائي الشيّق في سرد مسيرة الاخوين رحباني، ولربما أيقظت فيه ميزةَ النحل ايضا بان يطير أعلى فأعلى من القصور والقبب العالية، ليستكشف في أعماقه زهراً أنضر وعطرا أغنى. تابع طريق الأخوين رحباني بهمةٍ أكبر وعزيمة أشد، فقطع الجبال الدهرية والقرى المُعلقة والوديان العميقة ليصل الى “القصور المائية”. وعاد منها ليروي ماضي الذكريات العفوية بتَبصُّرٍ وتعمُّق، بعبارات توراتية رؤيوية، تُذَكّر بلحَظاتٍ سعيدة من الماضي، وقد زاده الكِبَرُ صِدقاً مع نفسه وقُدرةً على العيش في عالم الآخرين .
أعاد منصور كتابةَ ومَسرَحة سيرة الأخوين رحباني شعراً كما مَسرحَ شِعر أبي الطيب المتنبي، من مَدّاحٍ في بلاط سيف الدولة الى ملك على دولة الشعر، ومسرَحَ فِكرَ الأخوين رحباني بفلسفةٍ أعمق مما مسرح “آخر ايام سقراط”. طرحَ تساؤلات عاصي القلقة وهواجسَه حيال الما بعد، “بدنا نعرف معنى الأشيا سرّ الاشيا، بدنا نعرف، نحن جينا لنعرف” وبلغة المزامير رأى، هذا الجبرانُ الآخر، أن الشاعرَ نبيّ يتلمَّسُ آلام شعبه، ينشد افتداءه وخلاصه. وكرسولٍ يعيشُ الأزمنةَ في الحاضر وآلام الحاضر بما تخطاها من قبل ومن بعد.
ذكريات “طريق النحل” طبعت حياة منصور مع عاصي فتجسَّدت في أعمالهما، ويعودُ اليها منصور عودة المصطفى الى النبي من سَفرة بحرية، بفلسفةٍ روحانية، يرويها في “القصور المائية” فيقول:
كِلما شِفت راعي سايق عنزاتو،او شِفت صَبي حامل عَ ضهرو سَلّ عنب، او خادم بمطعم .
كل ما مَرَقت عَ شرطي عَميُحرس الطرقات، تحت شمس الصيف الحارقة… بتذكر حالي .
وبترجعلي كل المَراحِل اللي مرَقتْ فيها حتى صِرت هالإنسان اللي إسمو منصور الرحباني .
ويتابع :
… كل ما فكّرت بهاك البِنت اللي كان إسما نهاد حداد، وصارت فيروز العظيمة
او تذكرت عاصي ومنصور اللي صارو الأخوين رحباني وغَيّرو موسيقى الشرق.
الاخوين، اولاد الفقر الطالعين من البيوت الواطية، من الفَرشات الممَزَّقة وعَشا الخِبز الناشف ،
بعرف قدّيش صارَعنا تَ وصلنا لفوق
وقدّيش عنّا حقيقة حتى صارلنا حوالى خمسين سنة وبعدنا فوق …
أين هذا الفوق!
إنه في وطنٍ صنعه الفنُّ الرحباني، كما يرويه “طريق النحل”، من بطولات “فخر الدين”، وانتفاضة “جبال الصوان” يفتديها مقاومون استشهدوا على بوابة الوطن، ليُنقذوه من فاتك متسلط. و”ناطورة المفاتيح” لشعب هاجر بأكمله تاركاً الحاكم يضيقُ بوحدته بين بيوت مهجورة، فيستغيثه العودة راضخاً لمشيئته. وهتافات أغانٍ شعبية، بصوت فيروز على أدراج بعلبك، حتى صار لنا، يقول منصور، أغنيات شعبية نعتقد أننا قادرون على غنائها والتغني بها”… وعلى جسر القمر جَمعَ بين حبيبين، من ضيعتين متخاصمتين، فصارت ” كل ضيعة بينها وبين الدني جسر القمر، وطالما في قلب بشد قلب، مهما تعرض للخطر ما بينهدم جسر القمر”.
كبُر الأَخَوان في واحد، ونأت ادراج بعلبك، فتخطّى منصور وحيدا طريق النحل ليُصبحَ “الغريب الآخر” ساكنَ “القصور البحرية“، “المسافر وحده ملكاً“. أطلَّ على الألف الثالث ناقما على بُغضٍ لا يزال يتحكم بالناس، ومن فوق تلّة انطلياس، رأى بيروت تُقصف، تمطِرُها الأساطيلُ بالقنابل، “تقصف، يقول، عمق الليل الرّحب، وجميعُ قنابلها تسقطُ في قلبي”. ورأى شمسَ المَشرق وحطامَ النبوءات تقع في آن، حين يتعاظم فيها المال وتعلو بالاسمنت، مُشرَّعةً على فوضى الحرية، يدخل اليها ويخرج منها كل من هَبَّ ودب. فاختار ان يَصلِبَ نفسَه عن بيروت: “سأُصلبُ في الحمراء، ليكونَ للبنان رجاءٌ وحياةٌ للشهداء.
وطن منصور الذي كان وطن أحلامِ الأخوين رحباني من بطولات وأهازيج، صار وطناً بحاجة الى ان يُفتدى لأنه الوطن ” والوطن، يقول، يصير بانتسابك إليه، بدونك هو أرض، لا يكون حقيقةً إلاّ حين تنعكسُ انتَ فيه وينعكسُ فيك. انتَ شمسُه وهو قمرُك“… من أجله ثار منصور على “ملوك الطوائف“، ملوك يقتتلون باسم طوائفهم فيقتلون الوطن. ومن المياه، من أعماق الوجود حيث تنبثق الأضدادُ بعضها من بعض، كانبثاق النور من الديجور، أعاد “الفينيق” في انبعاثٍ لعهدٍ رحباني جديد موقوفٍ للحرية، للمدن الممنوحة للبحر، للثلج الاول، للاقمار الاولى والنِعَم الشمسية.
بقي فيه من “طريق النحل” سعادة قطفِ الجنى من خلف ستار المسرح، يَفرحُ به من فرح الناس، ويعود الى بيته، يجلس في زاوية غرفته، عند شباك الضوء، يكتب ويكتب، يقول: ” تَهِبُني كلُّ لحظةٍ حُلماً، لا ينتهي واحدٌ حتى يبدأ آخر، وهكذا اجتاز أيامي… من دون تعاسة.
ظل منصور حتى آخر ايامه في حالة عطاء، يُعطي بفرحٍ وسَخاء… ويترك للزمن الطويل ان يُظهر كم هو خيّر ومُبدع .. يحتفظ بسرّ ألقه، في المنظومة الرحبانية العظيمة، في عبقريّة حِسّ بشري انساني، وعبقرية حب وطني، وعبقرية ابداع… يُثير اهتمامَنا بدهشةٍ عارمة وهو أكثر اهتماماً مِنّا بنا… إنه من عالمنا حيث ندوس في الوحل، ولكنه مختلف في انه يتطلع الى فوق، الى النجوم فوق رؤوسنا، يدخل الى أعماقنا حيث الحُبّ في قلوبنا. ويعرف ان يَفيدَ من حِكمةِ الحُكماء أكثرَ من حُكمِ الحُكّام، من فَهمِ الماضي يبني المستقبل… ويظل في كل لحظةٍ يحلمُ حلماً لا ينتهي…
سافر وحده ملكا، كمليك النحل، حيث، يقول: لا سلطان لوعي، او عقل… بل لما في قلب الحُبّ، لأنه عندما يكون الحُبُّ لا يبقى للزمن حساب. ويبقى في لبنان الحلم ” لأن الحلم، كان عنده واقعا آخر، عاشه لوحده، وصل فيه الى الغاية، قد لا تكون غايةً حِسّيةً بمعنى الواقع، لكنها حقيقة بمعنى الصيرورة. ظل يعمل من أجل حياة تستحق أن تُحيا، من أجل ان يبقى للربيع شهقتُه، وللسماء زرقتُها، وللأزاهير عبيرُها. من أجل وطن دائم الشباب والفرح.
على ايقاع نشيد المحبة لجبران وبصوت فيروز أبحر متمتماً “المحبة لا تُعطي إلا من ذاتها ولا تأخذ الا من ذاتها، فهي مكتفية بالمحبة… فاذا أحببت لا تقل إن الله في قلبي بل أنا في قلب الله.
وحده الزمان الطويل، بنظر منصور، يُظهر حجمَ وقيمة الانسان الخيرّ، يجعله أسطورة فيقول: كل ألف سنة، يجيءُ مرّة… يبحثُ في أقواله القديمة، يبحثُ عن وجوهِه في الماء. ثم يعود في ألف سنة جديدة… لأجل ان تكتمل القصيدة.
هنيئا للصديق الشاعر هنري زغيب، رفيق الألق الرحباني، يحقق في كل إطلالة جديداً أجمل وأغنى، ويُظهر كم مرّة اعلولى في طريق النحل، فوق القبب العالية، ليبلغ الرحاب الرحبانية، وكم مرّة أبحر في أحلام الرحباني الى مِحراب ملكوته، ليجدَ أنه في هناءة يقظة مُشرقة، أصدقُ وأسعدُ منه في بهاء أحلامه.
******
(*) القيت في الندوة حول كتاب الشاعر هنري زغيب “في رحاب الأخوين رحباني”، في قاعة مسرح الأخوين رحباني، ضمن المهرجان اللبناني للكتاب الذي تنظمه الحركة الثقافية-انطلياس (7- 22 مارس) بمشاركة الاستاذ رفيق خوري وإدارة الدكتور انطوان سيف.