الباحث خورشيد دلّي
في الذاكرة التاريخية للعرب والأتراك صورٌ متناقضة عن طبيعة العلاقة بينهما إزاء الدولة العثمانية. الأتراك اتهموا العرب بالمؤامرة والخيانة والتحالف مع بريطانيا ضدّ الدولة العثمانية إلى درجة أنّهم يرجعون سبب انهيارها عقب الحرب العالمية الأولى إلى هذا التحالف.
في المقابل، اقترنت صورة الدولة العثمانية لدى معظم العرب، إن لم نقل جميعهم، بالاستعمار ومحاولة القضاء على هويّتهم القومية، فضلاً عن اعتبارهم أنها كانت سبباً في إعاقة تقدّمهم الحضاري لنحو أربعة قرون.
اليوم وبعد مرور نحو تسعة عقود على القطيعة التي أحدثها مصطفى كمال أتاتورك، مؤسّس الجمهورية التركية، مع الدولة العثمانية، هويّةً وثقافةً وايديولوجيةً، لصالح (العلمانيّة)، عاد رجب طيّب أردوغان ليؤكّد أنّ هذه العقود لم تكن سوى فاصل إعلاني في عمر الإمبراطورية العثمانية كما تقول تولاي بابوشجو النائبة في ”حزب العدالة والتنمية“ عن مدينة باليكسير التركية؛ فحفيد السلاطين لا يرى هويّة لتركيا من دون عثمانيّتها، لغةً وثقافةً وفضاءً جغرافياً يمتدّ من البحر الأدرياتيكي إلى سور الصين.
إذ إن الرجل المسكون بهاجس السلطنة والسلطان لا تفارقه صورة أجداده من سلاطين السلاجقة والعثمانيّين. فأسماء هؤلاء تتكرّر في كلّ خطاباته، وعليه لم يرضَ أردوغان بالإقامة في قصر تشانقاي الرئاسي في قلب العاصمة أنقرة، والذي كان منزلاً لإحدى العائلات الأرمنية تمّ الاستيلاء عليه عقب إقامة الجمهورية التركية في العام 1923، بل شيّد قصراً سمّاه بالأبيض على الطراز العثماني كي يليق بالسلطان الجديد. وجاء بالحرّاس الاستعراضيين الذين يمثّلون فرسان أكبر 16 دولة تركية عبر التاريخ ليكونوا في استقبال الضيوف على باب القصر.
وفي دلالة رمزية كان أوّل مَن استقبل هؤلاء الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، ليقول المقرّبون من أردوغان بعد ذلك إن الدولة العثمانية أُسقِطت لأنها رفضت التخلّي عن فلسطين لإقامة وطن قومي لليهود. وعليه – بحسب هؤلاء – فإن استقبال الرئيس عبّاس كأوّل رئيس على هذا النحو يحمل دلالة استمرار تركيا في دعم فلسطين، فلسطين تلك البوابة الكبيرة التي سعى ويسعى منها أردوغان للدخول إلى قلوب العرب من جديد، مع أن (النموذج التركي) بما حمله من مشروع إيديولوجي سقط في امتحان العلاقة مع العرب بعد أن انحاز علناً إلى دعم حركات الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين) على وَقع (الربيع العربي) الذي تحوّل إلى شتاء دموي.
ومع هذا التحوّل لم يَعُد الحديث عن طبيعة العلاقة التركية العربية هذه الأيام قائماً على حجم القوافل التجارية وحركة الدبلوماسيين وتدفق المشاريع الاقتصادية والرؤى السياسية بقدر ما هو قائم على تدفّق المسلّحين والجهاديين من أنحاء العالم عبر الأراضي التركية إلى سورية والعراق، والانتقادات الشديدة للرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، والدعم التركي لحركات الإخوان المسلمين وجماعاتهم في العالم العربي. في الواقع، لا يريد السلطان أردوغان من إعادة التدريس باللغة العثمانية في المدارس التركية – شاء من شاء وأبى مَن أبى كما قال – التعرّف إلى لغة الأجداد فحسب، بل يريد الإعلان عن تأسيس تركيا جديدة بحلول العام 2023، وذلك في عملية تتعلّق بتغيير الوعي بالهويّة الحضارية والثقافة ونمط التفكير والتعليم على شكل إنهاء لإرث أتاتورك. إذ سبقت قرارَ إعادة التعليم باللغة العثمانية خطواتٌ وقراراتٌ كثيرة، لعلّ أبرزها كانت إعادة فتح المدراس الدينية التي تقول التقارير إن عدد طلابها زاد عن مليون طالب بعد أن كان هذا العدد لا يتجاوز 50 ألف طالب عشية تسلّم ”حزب العدالة والتنمية“ الحكم في العام 2002.
كما أعقبت هذا القرارَ سلسلةُ قراراتٍ كان أبرزها تشكيل لجنة برلمانية لإعداد شعار رسمي جديد للجمهورية التركية، والشعار الجديد هو ذاته شعار الدولة العثمانية المعروف (بالطغراء)، فضلاً عن مشروعات خدميّة وعمرانيّة تحمل هويّة الثكنات العثمانية القديمة، مع التركيز على دور وزارة الأوقاف الدينية التي خُصِّصت لها ميزانياتٌ تفوق ميزانيات عشر وزارات …
كلّ ذلك يشير إلى رؤية أردوغان المتّجه نحو إقامة ما يشبه الخلافة الإسلامية بهويّة عثمانية جديدة. وما حديثه المتواصل عن ضرورة إبراز مساهمة العلماء المسلمين في العلوم والثقافة والفكر بوصفهم يشكّلون ذاكرة الأمّة وهويّتها، ومقارناته المستمرّة بين عدم معرفة الطلّاب الأتراك بعلماء المسلمين والأتراك من أمثال ابن سينا ونامق كمال مع غيرهم من العلماء والمفكّرين في الغرب، وقوله إن المسلمين القدامى هم مَن اكتشفوا أميركا قبل كريستوفر كولومبس بثلاثمئة عام …وغير ذلك. إلا تعبير عن مقارباته لهويّة تركيا في المستقبل، وبالتالي خياراتها السياسية وعلاقاتها بالجوار الجغرافي، وفي قلب كلّ هذا العالم العربي الذي يتمزّق من جديد على وَقْع التدخّلات الإقليمية والدولية بعد أن استفحل الإرهاب في دياره، ولاسيّما في مشرقه. إذ تحوّلت سورية والعراق إلى ساحة للحروب المفتوحة على وقع التنافس التركي – الإيراني على البلدين.
تنبثق مشروعيّة الحديث عن العرب والعثمانية الجديدة من الحوامل التي تقوم عليها هذه العثمانية. فهي حوامل تتعلّق بالفضاء الجغرافي والتاريخي وما ينتجه هذا الفضاء من إيديولوجية وفكر وثقافة واتجاهات رأي، وبالتالي حركات سياسية واجتماعية. ولعلّ من أبرز الحوامل أو الركائز التي تقوم عليها العثمانية الجديدة:
1- الركيزة الجغرافية: إن مَن يتابع بوصلة السياسة التركية في عهد ”حزب العدالة والتنمية“ لا بدّ أن يرى أن هذه السياسة ركّزت على الدائرة الجغرافية التي شكّلت حدوداً للدولة العثمانية في السابق، ولاسيّما المنطقة العربية بعدما تمّ إهمالها طوال عهود الحكومات السابقة لصالح خيار ( الأَوْرَبَة ). فأردوغان لا يملّ في كلّ خطابٍ له من ربط مصير إسطنبول وأنقرة بكلٍّ من دمشق والقاهرة وبغداد والقدس وغيرها من المدن والعواصم العربية، تعبيراً عن المدى الجغرافي الذي يشغله كهويّة وأجندة.
2- الهوية الحضارية الإسلامية: مع أن ”حزب العدالة والتنمية“ حرص في الداخل التركي على الابتعاد عن إظهار نفسه كحزب إسلامي والأخذ بالهوية الإسلامية كإيديولوجية، والقول إنه ملتزم بالأسس العلمانية للدولة وإظهار نفسه كحزب محافظ، إلّا أنه في ممارسته للحكم والسياسة لم يكن بعيداً عن السعي إلى أسلمة الدولة والمجتمع بشكل هادئ وتدريجي. ولعلّ سبب هذا الحرص الشديد كان تفادي الصدام مع المؤسّسة العسكرية والقوى (العلمانية) التي كانت تهيمن على الحياة العامة في البلاد، فضلاً عن إتباع الآليات القانونية التي تجنّبه التعرّض للمحاكمة والحظر، كما حصل مع غيره من أحزاب الإسلام السياسي في المراحل السابقة. وهو في حركته هذه نجح في التربّع على قمّة السلطة والدولة، وبات يستعيد الفضاء الثقافي والتاريخي للدولة العثمانية التي كانت الدول العربية جزءاً منها في مرحلة ما.
3 – الحامل السياسي: لم تكن نظرية ”صفر المشكلات“( نظريّة تلخّص استراتيجية الدبلوماسية التركية المتمثّلة في الخروج من المشكلات الإقليمية، والانتقال إلى تحسين علاقات تركيا بالدول المعنيّة) التي طرحها رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو إلّا تعبيراً سياسياً عن الانفتاح على الجوار الجغرافي بما يحمل هذا الجوار من تاريخ وثقافة وهويّة حضارية مشتركة. ولعلّ حديث أوغلو أكثر من مرّة عن إقامة كومنولث عثماني على غرار الكومنولث البريطاني كان تعبيراً عن تحرّك السياسة في الجغرافية التي يعتقد أوغلو ومعه أردوغان و”حزب العدالة والتنمية“ أنها تشكّل الحدود التاريخية لفضاء العثمانية الجديدة.
وبقدر ما أثارت العثمانية الجديدة جدلاً في داخل تركيا على شكل مواجهة بين الداعين لها والمعارضين، بقدر ما بدأت تثير جدلاً في العالم العربي، بين مَن وجد فيها عودة إلى سياسة الدولة العثمانية بكلّ ما تحمل هذه السياسة من مفاهيم استعمارية تقوم على السيطرة، وبين مَن وجد فيها مخرجاً لأزمة الهويّة في تركيا ومدخلاً لعلاقة جديدة مع العالمين العربي والإسلامي. وإذا كان الطرف الأوّل يمثّل التيار الرسمي العربي ومعه القوى القومية والديمقراطية واليسارية، فإن التيار الثاني يمثّل حركات الإخوان المسلمين الذين باتوا يتخذون من تركيا معقلاً لهم بعد انهيار مشروعهم في مصر مع نهاية حكم مرسي. ولعلّ سبب هذا الاختلاف في الساحة العربية يتجاوز الاختلاف في الرؤى إلى المشروعات السياسية والنظر إلى طبيعة العلاقة بين الدين والحكم والدولة والمشروعات السياسية الإقليمية.
في الواقع، مع سعي أردوغان الحثيث للانتقال إلى النظام الرئاسي بدلاً من البرلماني في تركيا، بما يعني امتلاكه سلطات مطلقة، بما في ذلك حلّ البرلمان، فإن العثمانية الجديدة باتت تتحوّل تدريجياً من فعل فكري وثقافي ولغوي إلى سياسة رسمية لتركيا الجديدة. وهو تحوّل سيكون له مقاربة حضارية جديدة للعلاقة مع العرب وباقي الجوار والعالم. واللافت هنا، هو أن العثمانية الجديدة، التي هي شكل من أشكال استعادة الخلافة، تتزامن مع صعود داعش وإعلانه إقامة دولة الخلافة الإسلامية. تطوّر قد يفجّر أسئلة كثيرة وحسّاسة عن مستقبل العلاقة بين الأتراك والعرب وشكلها في المرحلة المقبلة. لكن بالتأكيد الظروف مختلفة اليوم، فمرج دابق شمال حلب باتت تصل إلى طهران، والريدانية بالقرب من القاهرة لم تعد موجودة، والتاريخ لا يمكن إعادته إلى الوراء حتّى لو استعاد أردوغان (الطغراء).
*****
(*) كاتب في الشؤون التركية والكردية
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق