د. عبد الرؤوف سنّو
كثيرة هي الكتب والدراسات التي تناولت نشأة “دولة لبنان الكبير” في العام 1920. وقد لا يستطيع أي باحث أن يكتب في تاريخ لبنان الحديث، من دون البحث في الخلافات السياسية والجدال الأيديولوجي الذي صاحب الإعلان عن الدولة اللبنانية الوليدة. ففيما عرفت البلاد مرحلة استقرار سياسي، منذ الإعلان عن قيام “متصرفية جبل لبنان” في العام 1861، كحيّز يسود فيه المسيحيون بنسبة 80% من سكانها، بقيت المقاطعات اللبنانية خارج الجبل ذات الغالبية الإسلامية على ولائها للسلطنة العثمانية.
ومع “لبنان الكبير”، انخرطت الطوائف اللبنانية مع بعضها البعض في نزاعات على أساس انقسام طائفي – سياسي – ثقافي حول مواقفها من “لبنان الكبير” – فأيده المسيحيون بصفة عامة، لأنه يحقق أمانيهم في كيان مستقل عن محيطه، بينما رفضه المسلمون، لأنه نزعهم من عمقهم العربي-الإسلامي وشكل تحدياً لطموحاتهم.
الأكاديمي والباحث لويس صليبا يغوص بعمق في كتابه الجديد حول نزاعات اللبنانيين في شأن “لبنان الكبير”. فيتجاوز المقولة الكلاسيكية المتداولة حول الانقسام العمودي المسيحي الإسلامي، ليشرّح بموضوعية المواقف المؤيدة للبنان الكبير وتلك الرافضة له داخل المعسكر المسيحي، وتحديداً بين الموارنة الداعمين للمشروع، والروم الأرثوذكس الرافضين له. ولا يكتفي بذلك، بل يدرس تباين المواقف من “لبنان الكبير” داخل الطائفة المارونية نفسها وأسباب ذلك، فضلاً عن التضارب الذي وقعت فيه السياسة الفرنسية إزاء الدولة الوليدة بين الأعوام 1920 و1926، والتي تسببت ببلبلة مارونية، ليخلص إلى طرح سؤال مركزي جريء محق: “لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي”؟
صحيح أن كتاب الدكتور صليبا ينحصر بمرحلة تأسيس “لبنان الكبير” وتداعياته المباشرة، إلا أن هذا “الخطأ التاريخي” شمل كل الطوائف: الموارنة لأنهم أرادوا كسب الأرض، فخسروا الديموغرافيا؛ والمسلمون لأنهم شعروا أنهم انتُزعوا من عمقهم العربي الإسلامي، فخسروا “هويتهم الإسلامية”؛ والأرثوذكس الذين كانوا يخشون التسلط الماروني عليهم. وقد انسحب هذا “الخطأ”، منذ ذلك الحين، على كل تاريخ لبنان المعاصر، وتحوّل إلى كرة ثلج أطاحت بأية “تفاهمات وطنية” حول تعايش طوائفي بين اللبنانيين أو عيش مشترك. فكان تاريخ لبنان منذ إنشاء “لبنان الكبير” عبارة عن فسيفساء طوائفية ونزاعات طائفية ومذهبية أنتجت اضطرابات وتوترات وحروب، من دون أن تلجمها تسويتان شهيرتان هما “الميثاق الوطني” و”اتفاق الطائف”. فـ “الخطأ التاريخي” في الأساس، الذي اتفق فيه مع الباحث صليبا، هو في تجميع سكان غير متجانسين دينياً وبخصوصيات ثقافية وتجارب ماضوية متنافرة (القومية اللبنانية والعروبة) في حيز جغرافي أُطلق عليه اسم لبنان.
في العالم الغربي، أمكن حلّ هذه المعضلة بالإبقاء على التعددية، لكن بالتحوّل إلى المجتمع العلماني أو إلى المجتمع المدني، في حين أن بقاء لبنان على حاله الطائفي، أفرز المزيد من التعقيدات والمشكلات، سياسياً ومجتمعياً وعلاقات خارجية.
يخبرنا د. لويس صليبا أن نهاية الحرب العالمية الأولى حملت معها مشاريع كيانية متضاربة للبنان: مشروع الأمير فيصل لإنشاء دولة عربية تضم لبنان، رحب بها المسلمون الذين لم يروا تناقضاً في الانتقال من الرابطة العثمانية إلى العروبة. والمشروع الماروني الذي يريد تكبير “لبنان الصغير” (المتصرفية) إلى دولة لها مقوماتها الاقتصادية من سهول ومنافذ، عبر ضم أجزاء من بلاد الشام (بيروت وطرابلس بشكل خاص)، ومشروع الروم الأرثوذكس الذي كان يتلاقى مع الموقف الإسلامي السنّي المؤيد للحكم الفيصلي، على أن يبقى وضع المسيحيين في الدولة العربية كما كان عليه في العهد العثماني (أهل ذمة).
إن رفض الروم الأرثوذكس “لبنان الكبير” له اعتباراته التاريخية، ويكمن في علاقة التنافس والغيرة بينهم وبين الموارنة منذ الحروب الصليبية، ثم بعد ذلك خوفهم في العام 1842 من “الذوبان” في قائمقامية ذات أكثرية مارونية، وفي متصرفية “مارونية” في العام 1861، وبالتأكيد بدعم من روسيا القيصرية. ويعرض صليبا في هذا الصدد موقفين مسيحيين كنسيين إستراتيجيين متعارضين: اعتبار بطريرك الموارنة الياس الحويك أن لبنان هو “الوطن” المستقل الذي يجب توسيع حدوده الجغرافية إلى حد “الاكتفاء الاقتصادي الذاتي”، ووجهة نظر غريمه بطريرك الروم الأرثوذكس غريغوريوس حداد بأن “الوطن” هو سورية الخاضعة للحكم العربي في دمشق، وليس “لبنان الكبير”. وموقف الأرثوذكس هذا، برأينا، ليس توجهاً سياسياً ابن ساعته، بل يعود إلى إجهارهم بعروبتهم وبأن لبنان لا ينفصل عن محيطه العربي. وبرأي صليبا، فإن علاقات الأرثوذكس التجارية الواسعة مع الداخل السوري منذ العهد العثماني، حتمت عليهم تغليب مصالحهم الاقتصادية مع سورية على حساب “هويتهم المسيحية” اللبنانية. في المقابل، روّج الفكر الماروني مقولة خصوصية لبنان لتبرير فصله عن محيطه العربي. فالدولة الشريفية، بنظر الموارنة، هي دولة إسلامية مهما جرى تغليفها بقناع العروبة، على حد تعبير الدكتور صليبا (ص 165-7). وبإنشاء “لبنان الكبير”، وصل النزاع بين الطائفتين المسيحيتين المارونية والأرثوذكسية حول الكيان الجديد إلى حد “الاستشراس”، على حد وصف الزميل صليبا.
يسلط الدكتور صليبا الضوء بقوة على التمايز في المواقف من “لبنان الكبير” داخل الطائفة المارونية. وكما هو معروف، كان البطريرك الحويك رأس الكنيسة المارونية و”السياسي” الأول صاحب القرار في شأن الطائفة، يرى وجوب توسيع المتصرفية إلى حدود طبيعية لتوفير “الأمن الغذائي” للسكان، بعدما عانى سكانها من ويلات المجاعة خلال الحرب العالمية الأولى، وأن يكون ذلك متلازماً مع قيام لبنان مستقل تحت الحماية أو الانتداب الفرنسي. إلا أن هذا وضع البطريرك أمام معادلة صعبة سوف تنسحب على تاريخ لبنان المعاصر حتى اليوم، جرى التعبير عنها في حينه بقول يوسف السودا: “لبنان الصغير موت اقتصادي، الاتحاد مع سورية موت سياسي، نريد لبنان الكبير ليحيا، ونريده بلا وحدة ليكون مستقلاً” (ص 54).
أمام تلك المعادلة، يطرح صليبا سؤالاً مركزياً: عما إذا كان الموارنة وبطريركهم قد فطنوا إلى التداعيات والنتائج الخطيرة الناجمة عن خيار “لبنان الكبير”، الذي كان سيحوّل المسيحيين من أكثرية إلى أغلبية “على الحفة”، وقد تنقلب هذه إلى أقلية بعد زمن يسير؟ فيرى أن البطريرك ومؤيدي “لبنان الكبير” لم يستمعوا إلى التحذيرات من مخاطر الديموغرافيا الإسلامية على “لبنان الكبير”، التي “ستأكل” الديموغرافيا المسيحية خلال نصف قرن، ما يحوّل لبنان إلى دولة إسلامية، وربما إلى خلافة إسلامية، وفق ما ينقل صليبا عن مراقبين معاصرين. صحيح أن تحذيرات سليمان البستاني والمطران عبدالله خوري وإميل إده ثبتت صحتها بعد نصف قرن، عندما أخذ المسلمون بُعيد الاستقلال يدعون أنهم أضحوا الأكثرية، ويطالبون بناء على ذلك بـ “حقوق” ضنّ الموارنة عليهم بها.
من هنا، تصاعدت مخاوف الموارنة ونبراتهم من الذوبان في الأكثرية الإسلامية. فما أنجزوه من لبنان الكبير بمسلميه، أضحى فضفاضاً عليهم من الناحية الديموغرافية، ومن الناحية السياسية بعد ذلك، على حد قول المؤرخ الراحل كمال صليبي. إنها من دون شك “الديموغرافيا المشاغبة” التي تخيف الطوائف بعضها من بعض، من دون استثناء، وتتردد في كل صفحات كتاب لويس صليبا.
ولإثبات وجهة نظره حول “خطأ” البطريرك في تجاهله للديموغرافيا الإسلامية، أو في عدم فهمه مخاطرها المستقبلية، يقتبس الباحث صليبا قولاً يسخر فيه المفكر جورج سمنة من “لبنان الكبير” حين قال: “أي وطن قومي مسيحي هو هذا الذي نصف سكانه من غير المسيحيين” (ص 119). إن اتكاء الحويك على دعم فرنسا لطائفته وحمايتها لهم، وبأن لبنان “صنع” من أجلهم، جعل رأس الكنيسة المارونية لا يرى أو لا يفسر المستقبل الذي يتربص بأبناء ملته، من دون أن يكون ذلك ذنب المسلمين. ففرنسا تلاعبت بالطوائف اللبنانية وفق ما أملته عليها مصالحها.
وبناء على ذلك، يضيء الباحث صليبا على خلافات داخل الإدارة الفرنسية أسهمت في حدوث بلبلة داخل الصف الماروني. ففيما عمل الجنرال غورو على توسيع “المتصرفية” لتوفير الأمن الاقتصادي للكيان الجديد الذي لن يكون مسيحياً أبداً من الناحية الديموغرافية، وقف معاونه روبرت دو كيه مع كيان لبناني ذي أغلبية مارونية ساحقة كضمان لبقاء لبنان مسيحي الهوية والطابع. وحاول الدبلوماسي الفرنسي فاشلاً عرقلة سياسة غورو، لأنه اعتقد أن تجزئة البلاد السورية إلى دويلات عديدة تصب في مصلحة بلاده وتُضعف الحركة القومية “الإسلامية” الناشئة. حتى بعد إنشاء “لبنان الكبير”، سعى دو كيه، من دون نجاح، إلى تخريب الكل (فصل طرابلس عن لبنان) لصالح صفاء “الجزء الماروني”.
ويذهب لويس صليبا بنا إلى دهاليز السياسة في باريس، فيكشف لنا عن تخبط رئاسة الحكومة الفرنسية بين مشروع دو كيه للبنان صغير بأغلبية مسيحية ساحقة، ومشروع غورو للبنان كبير بحدوده الواردة في الدستور اللبناني. لكن الغلبة كانت لغورو، حتى أن الفرنسيين ضموا مشكورين جنوب البلاد إلى “لبنان الكبير” خشية أطماع الصهيونية العالمية بأرضه ومياهه، وقاموا مع البريطانيين بترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين ((Paulet-Newcombe Agreement في العام 1922. ولم يعبأ الفرنسيون بالاعتراضات الأرثوذكسية على “لبنان الكبير” ولا بمقاطعته من قبل المسلمين.
ونحن نتفق مع الباحث صليبا كلياً (ص 129) في رفض مقولة مؤرخنا الراحل كمال صليبي حول مقاطعة إسلامية وأرثوذكسية للبنان الكبير طوال عهد الانتداب الفرنسي. فالمقاطعة الإسلامية والأرثوذكسية لم تستمر طويلاً، وإلا كيف نفسر حماسة الشيخ محمد الجسر للبنان الكبير تحت الانتداب، وشغله مناصب رسمية رفيعة في الإدارة، ومنها رئاسة مجلس الشيوخ والمجلس النيابي وترشحه للانتخابات الرئاسية في العام 1932؟ وفي خلال العامين 1937 و1938، ترأس خير الدين الأحدب الحكومة اللبنانية مرتين. واسترضاءً للأرثوذكس (ضربة معلم)، كما يسميها صليبا، عين الفرنسيون شارل دباس رئيساً للجمهورية اللبنانية بين العامين 1926 و1934. كان تنصيب سلطات الانتداب أرثوذكسي على رأس الدولة اللبنانية يتنافى مع ما أفهمه الفرنسيون للموارنة بأن لبنان “صنع من أجلهم”. فاحتج بطريرك الموارنة الياس الحويك على ذلك، وتم في العام 1934 تعيين الماروني حبيب باشا السعد رئيساً للبلاد مجاراة لرغبة سيد بكركي البطريرك أنطوان عريضة.
ويخلص الزميل صليبا إلى أن الموارنة أدركوا متأخرين بأن “تكبير لبنان” أدى إلى “تصغير مارون”، وأن كسب “المساحة” كان على حساب خسارتهم للديموغرافيا وللتوازن الداخلي الذي كانوا ينعمون به في عهد المتصرفية. من هنا، بدأت محاولات خلال الانتداب (إميل إده) وبعده (مطران بيروت مبارك) لتصحيح “الخطأ”، عبر فصل مناطق إسلامية عن لبنان لحساب سورية وفلسطين، أو في تبادل السكان بين لبنان وسورية. حتى أن المطران أغناطيوس مبارك طالب في العام 1947 اللجنة الدولية المختصة بفلسطين بإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، ليكون جاراً مسالماً لكيان مسيحي في لبنان. لكن الفاتيكان تمسّك بالتعايش المسيحي الإسلامي، وأعلن بطلان مقولة مبارك.
كلمة أخيرة، كتاب “لبنان الكبير أم خطأ تاريخي” جريء في معالجاته وتحليلاته وفي استنتاجاته، وهو يُضاف إلى سلسلة أعمال جليلة للباحث لويس صليبا. ومن يطلع على الكتاب الجديد، يدرك بوضوح أن هذا “الخطأ” الذي حدث قبل 100 عام تقريباً، لا يزال يتفاعل و”يفقّس” مشكلات حتى اليوم، لأن اللبنانيين، الطائفيين والمذهبيين بكل امتياز والخاضعين للقرار الخارجي، لم يعملوا على تطوير ميثاق تعايشهم ونظامهم السياسي، فبقوا طوائف وقبائل وعائلات متناحرة، من دون وطن أو هوية وطنية. من هنا، فبدلاً من الدعوات للعودة إلى لبنان صغير أو تصحيح خطأ تاريخي، سواء عبر التقسيم أو الفدرلة، على اللبنانيين أن يتحاوروا معاً من أجل إيجاد صيغة تعايش جديدة، لا تسوية، تكون مقبولة من الجميع وتتسع للجميع. فالتجارب التي مرت بها شعوب أخرى، يمكن أن تشكل إلهاماً ومنارة لهم للانتقال بلبنان إلى مرحلة عيش مشترك جديدة، تقوم على الثقة بالآخر والرغبة في العيش معه.
********
(*) مفدمة كتاب د. لويس صليبا “لبنان الكبير! أم لبنان خطأ تاريخي؟ نزاعات على الكيان، نشأة وهوية” (دار ومكتبة بيبلوس، جبيل 2015 – 418 صفحة، حجم وسط)، بقلم الباحث والمؤرخ د. عبدالرؤوف سنو.