د. أنطوان سيف
إلى أي حد يمكننا التأريخ لمرحلة ثقافية انطلاقاً من الكلام على مجلَّة؟ مثل هذه المساءلة يمكن أن تكون مرفوضةً في الجانب العمومي، أو المطلق. إلاّ أن تحديد المكوِّنات بتعيين التسميات، تُبرز حالةً خصوصيًة تستأثر بعديدٍ استثنائي، وربَّما غيرِ مسبوق، من العناصر المعزِّزة لإجابةٍ ايجابيةٍ عن هذه المساءَلة الإشكالية الكبرى.
يعتبر مؤرخو الحضارة أن البشرية دخلت فعلاً في مرحلة حضارية جديدة بعد انقلابات فكرية وعلمية كبرى أزاحت معارف أساسية راسخة في تراثها على مدى قرون عديدة، لم يتورَّع بعضُهم عن وصف ذلك “بالقطيعة” التامة، بدءًا من اكتشاف كوبرنيكوس لمركزية الشمس الذي أزاح مقولة مركزية الأرض التراثية التي محضَها رسوخُها في الأذهان لقرون مديدة حصانةً قدسية، والتي التي لم يعد ثمة مجال لتفاديها، فبلغت ذروة “الحرب” حولها في العام 1633 مع محاكمة غاليليو، وما لبثت أن غيَّرت كلياً نظرتَنا إلى العالم. وكرَّت السبحة الاكتشافات العلمية الأساسية التي ألغت العلوم القديمة، وأفسحت المجال لما بات يُعرف بـ”العلوم الحديثة”، التي تُوِّجت، في أوروبا، باختراع الآلة من أنواع مختلفة، منذ بداية القرن التاسع عشر.
وإذ أن اللافت الأبرز في ذلك، كان التفوُّق الغربي في مجال العلوم والصناعة أكثر من سواهما، انبثقت عندنا بالموازاة الأسئلةُ الشائكة: لماذا هم تقدَّموا، ولماذا نحن نتخلَّف عنهم؟
شابان لبنانيان في جامعة أميركية كبرى تأسست في بيروت عام 1866 تحت اسم “الكلية السورية الإنجيلية”، وبات اسمُها لاحقاً، وللساعة، “الجامعة الأميركية في بيروت” لمعت في ذهنهما فكرةُ إنشاء مجلة عربية، سميّاها: “المقتطف” (بناءً على اقتراح أحد الأساتذة العلماء الأميركيين، هو كورنيليوس فان دايك)، وذلك بعد عشر سنوات على تأسيس هذه الجامعة، لأنّ “الجرائد العلمية والصناعية هي أفضل الوسائل لنشر العلم والصناعة” و”خدمة الوطن”.
هذان الشابان هما يعقوب صرُّوف وفارس نمر، وكانا في حدود العشرين من العمر، وبعد تسع سنوات من صدور المجلة العلمية العربية في بيروت، انتقلا بها إلى القاهرة، وظلت تصدر هناك شهرياً حتى منتصف تاقرن العشرين، العام 1952، عام وفاة فارس نمر، أي ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن وهي فترة قياسية في عالم الصحافة. وحول ما قامت به من نشرها العلم في العالم العربي، قال عنها الكاتبُ المعروف عبَّاس محمود العقَّاد: إن “المقتطف” “ضاهى ما تقوم به مئات المدارس [والجامعات] في عشرات السنين” (ص 14).
ولكن كيف تُرجمت هذه الانجازات في الحياة العربية العامة؟ ما مدى الانماء والتقدم الذي أسهمت به في مجال “النهضة” العلمية والصناعية التي ندبت نفسها لتحقيقها؟ أسئلة ملازمة لمقاربة هذا العمل العربي المميَّز والفريد.
لقد انكبَّت الدكتورة أسمهان عيد على استقصاء الدور العلمي التربوي والإصلاحي في مجال العلوم والصناعة، الذي قامت به هذه المجلة في الثقافة العربية المعاصرة في حقول عدةَّ منها. بحثٌ استغرق إنجازُه سنوات، قام أصلاً على المثابرة الحثيثة وعلى الدقة في الاستقصاء والإحصاء وتسجيل الوقائع والتفاصيل، ورصد الأثر المعرفي على مقياس ما سمِّي “بالنهضة” التي انخرط فيها المثقفون العرب على تنوُّع اهتماماتهم ومواقفهم.
لقد كان الرهان على الجرائد والمجلاّت في المجال الثقافي العلمي، وحتى الأكاديمي، عصرذاك حاسماً. لقد ضمَّت المجلة، عن طريق التعريب، أهم ما كان يعتمل حينذاك في الغرب من علوم، ومن مناقشات حول العلم ومسائله… فكانت “المقتطف” صدىً صادقاً له بفضل همَّةٍ نادرةٍ ليعقوب صرّوف، العالِم المتنوِّع الثقافة العلمية خصوصاً، والمترجم، والناشر، والمثقف الواسع الأفق، مع زميله فارس نمر، و مع ابن أخيه فؤاد صرُّوف، من بعده ومع جمهرة من أهم الأقلام الفكرية والعلمية العربية من أجيال متعاقبة.
حوالي 620 صفحة هي هذه الموسوعة الهامة الراقية حول جانب أساسي، جانب العلم والصناعة”، من جوانب “النهضة” العربية الحديثة، لمرحلة مديدة وحاسمة. وبهذه الصفة يمكنني القول إنها غيرُ مسبوقة في بحوثنا الأكاديمية.
*****
(*) ألقيت في الندوة التي نظمتها الحركة الثقافية- أنطلياس حول كتاب الدكتورة أسمهان عيد “النزعة العلمية والاصلاحية في المقتطف” (منشورات الجامعة اللبنانية) وشارك فيها الدكتوران محمد العُرَيبي ونايلة أبي نادر.