“حياة تنسلّ بين ع و ع” لإيلي مارون خليل… رواية المتناقضات والإبهامات والتّأويلات

جورج إ. خليل

كنّا قد وصلنا إلى الزوق، قرب نادي التضامن، نمارس رياضة المشي السريع، كعادتنا في تلك الفترة، george-khalil-1حين سألني: “ما رأيك في هذا العنوان: حياة تنسلّ بين ع و ع؟ هو عنوانٌ اخترته لروايةٍ لي تصدر قريبًا”. أجبت وقد فاجأني العنوان غيرُ المألوف: ” هل تقصد بـ ع و ع: بين عقل وعاطفة؟” قال: “بين ع و ع”. أردفت: “بين عشقٍ وعذاب؟” ردّ: ” بين ع  و ع.” زدت: “بين العين الباصرة وعين البصيرة؟” تمتم: ” بين ع وع”. فعرفت أنَّه متقصّدٌ سَتْرَ المقصود، فسكتُّ، وعُدْتُ إلى تنظيم تنفّسي الرياضيّ.

كان ذلك من نيسانَيْنِ اثنَيْنِ، إلى أن رُنَّ مهتافي بعد ثلاثة أشهرٍ من ذلك العام، في الأوّل من تمّوز تحديدًا، يبلغني إيلي مارون خليل أنّه يريد إهدائي أوّل نسخةٍ من الرّواية. ليس الموضوع الآن أن أصف لكم كم أفرحني الخبر- ولو كان كذلك لسوّدت ألف صفحة- ألمهمّ أنّني تسلّمت الرِّواية في اليوم نفسه. غلافها ألوانه داكنةٌ يوحي إلى الإبهام والغموض، خطوطه شرفةٌ بلا هويّة تُطِلّ إلى شارعٍ عامٍّ تُحطيه أبنيةٌ مدينيّةٌ متراصّةٌ لا يُمكِنُ تَطابُقُها ومَعْلَمًا معروفًا. فالرَّسم،

إذًا، غامضٌ أيضًا غموضَ الألوان؛ ولا يكسِرُ رتابةَ الغلافِ سوى العنوان الحامل نقيضَين: الشَّكلَ والمضمونَ: ففي الشَّكل هو أبيضُ ناصعٌ، واضحٌ لا لُبْسَ فيه؛ أمَّا في المضمون فيحمل أربعة إبهاماتٍ: الأوّل كلمة “حياةٌ” النَّكرة المنوّنة، فلا ندري حياة مَنْ؛ والثَّاني الفعل “تنسلّ” الَّذي يفيد معنى الخروج في خَفْيَةٍ، والخَفْيَةُ غموضٌ؛ والثَّالث ظرفُ المكان “بين” المُغَمْغِم، إذ لا يتضمّن في معناه تعيينًا محدَّدًا ثابتًا؛ والرَّابع الحرفان “ع و ع” وهما لغزُ الرِّواية كلّها، وإنَّهما لَيبقيان مجالاً للتَّأويل حتَّى بعد قراءة الرّواية وبدء “التقشير” و”الاكتشاف” وسَبْرِ الأغوار.

إذًا، العنوان لافتٌ من دون شكّ، على مَكْرٍ ودَهاءٍ لذيذَيْنِ، فلا يتوانى قارئُهُ في أن يَهُزَّ رأسَهُ هزَّاتٍ متتاليةً، ويبتسمَ ابتسامةً معبّرةً لها معنى!

وأمّا المئتان وربع المئة في الداخل، فقرأتُها بأملٍ وشَغَفٍ، أملِ المضمون وشَغَفِ الأسلوب، أملِ اكتشاف أيِّ جديدٍ طارئٍ عن طارقٍ ومَنْ يدورُ في فضائِهِ، وشَغَفِ اقتطاف كلِّ تجديدٍ لُغَوِيٍّ أو تركيبيٍّ أو لَفْظَوِيٍّ.

هذا المضمون مغايرٌ في بعض مقوّماته عن المعروف المألوف. فالوضع الأوّل جاء مقتَضَبًا سريعًا، أبرز ما فيه “الشّرفة” الّتي منها أطلّ طارقٌ إلى العنصر المبدّل، إلاَّ أنّ الأهمّ هو أنَّها كانت شرفةَ استشرافِ المَسرى القصصيِّ بعامّة.

نعم… هذه الشّرفة توصِلُ حقلَ النَّظر إلى الخاتمة. أوَلم يكنْ طارقٌ المُسترخي على شرفته، في أوّل صفحةٍ، عشيقَ ساريا نفسَهُ، في أثناء هذا الاسترخاء بالذّات؟ أوَلم يكنْ، وهو منتظِرٌ فَطورَهُ في الصَّفحة الأولى، عشيقَ أمِّ سارة المُعلَنَ عنه في الصَّفحات الأخيرة؟guilaf-elie

وبعد، فإنَّ الكاتب لم يخترْ حدثًا فظيعًا لم يكنْ في الحُسبان لإطلاق عمليَّة السَّرد وتسلسل الأحداث، كما هو، بل كلُّ ما احتاج إليه كلبٌ شاردٌ – وليس بصحَّتِهِ – أعرج! هذا الشَّارد فَرَضَ على الكاتب، أو على شخصيَّته الرِّوائيَّة طارقٍ، الزَّمَنَ الهابطَ إذ هبط على السَّرد من دون تحضيرٍ، وبشكلٍ مفاجئٍ، وجاء على شكل تَذَكُّرِ حوارٍ مع منصورٍ، في استرجاعٍ موجَزٍ، نقراُ: “وتذكّرت”. ثُمَّ عاد الزَّمنُ الصَّاعدُ على الشُّرفة مع الزَّوجة ومنعها طارقًا من متابعة رحلة الكلب ميكي، إلى أنْ بَرَزَ الزَّمَنُ الهابطُ من جديد، وأيضًا على شكل تَذَكُّر، نقرأُ: ” وهطلَتْ ذكرياتي”.

هذه الحركيّةُ الزَّمنيّةُ تُشكِّلُ مِهمازًا للعقل والخيال حتَّى يَظلاَّ مُتَتَبِّعَيْنِ يَقِظَيْنِ فَطِنَيْنِ، وتُبْرِزُ مهارةَ حائكِ الحبكةِ وحِنْكَتَهُ في هذه الصِّناعة.

ومع تَنامي الأحداثِ وتَسَلْسُلها، باتَ اللاَّفتُ في الشَّخصيّات أسمهاءَها، وأبعادَها الدَّلاليّةَ الثَّلاثة: الجِسْمِيَّ والاجتماعيَّ والنَّفسيَّ، أكثرَ من كونِها عناصرَ أساسيّةً تَهَبُ الأحداثَ الحركةَ والحيويّةَ والاستمراريّة. فالأسماء مختارةٌ بعنايةٍ وإتقانٍ يسهّلان على القارئ دراسةَ شخصيّةِ كلٍّ من أصحابها ووظيفتِهِ في الرِّواية. فطارقٌ البطلُ طَرَقَ خمسةَ أبوابٍ حاسمةٍ في الرِّواية: بابَ ساريا الصَّبيّة الَّتي أحَبَّها قبل زواجه، ولم يُفْتَحْ، فلم يدخل؛ بابَ زواجِهِ من “أمّ فريد”، وقد فُتِحَ، فدخلَ طويلاً؛ بابَ فاتنةِ الشُّرفة، وقد فُتِحَ، ولم يدخلْ طويلاً؛ بابَ منصور/غالب، وكان يُفْتَحُ ويوصَدُ وَفْقَ الظُّروف؛ وبابَ حُبِّهِ للعشيقةِ ساريا المفتوحَ على مِصْراعَيْهِ، فدخلَهُ مُتَصَومِعًا مُتَشَيْطِنًا في آن.

أمّا ساريا فهي السَّاريةُ مع عشيقها تحت جُنْح الظَّلام لاتِّقاء الرُّقَباء، هي السَّاريةُ دمًا في عروق طارقٍ حتَّى الجنون، هي ساريةُ سفينة العاطفة الَّتي قادت طارقًا إلى لا نهاية، هي ساريةُ بيرقِ الحُبِّ الَّذي رفعَتْ شعارَهُ في غيرِ موضعٍ.

وأمّا منصور/غالب فهو المُحَقِّقُ نَصْرًا على ذاتِهِ المُعَذَّبَةِ، المُتَغَلِّبُ على ضَعفِهِ وعلى صراعاتٍ ارتمى في حلقاتها المُفرَغَة، وعلى الموروث البائد، وعلى فكرة رفض عشيق أمِّهِ.

وأمّا سارة فهي المُوصِلَةُ أخبارًا سارّة إلى طارقٍ على بريده الإلكترونيِّ، بها سُرَّت أمُّها، بتفهُّمِها علاقةَ العاشقَيْنِ، وتفهيمِها إيّاها لغالب، والدفاعِ عن الأمِّ بتبريرِ عِشقها؛ وبها أيضًا سُرَّ طارقٌ، بتعاطفها معه، بمخطوطِها الأحمرِ النَّبيذيِّ الَّذي خَلَّدَ عاشقَيْنِ حقيقيَّيْنِ لن يفرّقَ بينَهما الموت.

وتَجدرُ الإشارةُ هنا إلى أنَّ الكاتبَ لم يُعطِ اسمًا لزوجةِ طارقٍ، أو أنَّ طارقًا لم يُسَمِّ زوجتَهُ باسمِها الصَّريح على امتداد الرِّواية، بل اكتفى بنداء الطَّابع المحلّيّ “أمّ فريد”، وقد تكون دلالة ذلك تَهَرُّبًا من اثنَيْنِ: تَجَنُّبِ تسميتِها اسمًا باردًا جافًّا فيجرحُ قيمةَ الأمومةِ وسرَّ الزَّواجِ المقدّس، وتَجَنُّبِ تسميتِها اسمًا دافئًا مُوحِيًا، فيجرحُ ساريا والحُبَّ القُدّوسيَّ العجائبيَّ، و”حكايةَ قلبَيْنِ متيّمَيْنِ خاشعَيْنِ صادقَيْنِ مُحَلِّقَيْنِ راجِيَيْنِ”.

أُضيفُ شخصيّةً أخرى لم يُطلَق عليها اسمٌ محدَّدٌ وهي المرأةُ الغاوية، فقد اقتُصِرَ على تسميتها “فاتنةَ الشُّرفة” فحسب، لأنَّ دورها لم يتعدَّ كونَها “فأرةَ اختبارِ” وفاءِ طارقٍ تُجاهَ ساريا؛ لَكأنّ منصورًا استأجرها ليختبرَ وفاء عشيق أمّه ويتأكَّدَ من حبّه لها. منصور/غالب، وهو المتورّطُ بالنِّساء وغيرِ النِّساء، لن يتردّدَ في زَرْعِ امرأةٍ لابتلاء طارق، خصوصًا وأنَّ منصورًا هو من دَلَّ طارقًا إلى الشُّرفة حيث كانت تقف. إذًا، اسمُها ظَلَّ مجهولاً بما أنَّ مَهمّتَها هي الأساسُ في الرّواية، لا اسمَها. إنَّها التَّجربةُ الَّتي يُفْتَرَضُ بها إيقاعُ طارقٍ في أتونها .

ولن أسترسلَ في أسماءٍ أخرى كساحرةَ الَّتي سحرَتْ غالبًا فقتلها من دون أن يقتلَها، وفداءَ الموظّفة الَّتي تَفدي طارقًا بمُهجة الرّوح مقابلَ مجرّدِ ابتسامةٍ أو نظرةٍ مُوحية!

وفي ما يَخُصُّ الأبعادَ الدَّلاليّة لهذه الشخصيّات، فإنَّها لا تقلّ شأنًا عن أسمائها المختارة، بيد أنَّني أكتفي، وبإيجازٍ، بتظهير البُعد الجِسْمِيّ والبُعد الاجتماعيّ والبُعد النَّفسيّ لشخصيّة ساريا، لِما لهذه الأبعاد من قوّة تأثيرٍ في مجرى الأحداث، وفَهمٍ أعمق لدوافع تصرّفات كلّ مَن دارُوا في فضائها.

البُعد الجمسيّ لساريا نلمس آثاره من خلال الأوصاف التي تُظهِرُها على واقعها الطَّبيعيّ: قامةٌ رشيقةٌ كصوت جرس الضيعة، عينان واسعتان كفضائها، شفتان لذيذتان كمائها، فائضةُ الإغواء… (إلخ) .

والبُعد الاجتماعيّ يتبدّى من خلال كونها أرملةً، ثريّةً، إذ هي وريثة زوجٍ ثريّ.

والبُعد النفسيّ يتبَّدى من خلال عيشها حياةً “مزدوِجةً”، “مستقطَعةً” بين زوجٍ وعشيقٍ، بين تَرَدُّدِ الماضي وعَزْمِ الحاضر، ما أوصَلَها إلى الذَّوَبانِ الكُلِّيِّ في مَنْ حلُمَتْ بهِ حبيبًا.

من حَنايا هذه الأبعاد الثَّلاثة ينبثق فَهْمُنا لحَرَكيّات غالب – الابن ورغباتِهِ في الرِّواية، وتُبَرَّرُ له شُكوكُهُ تُجاهَ عشيقِ أمِّه، وقلقُه عليها. أوليسَتْ ساريا، كما ارتسمَتْ في دَوّامة الصِّراعات المعقّدة، مادةً دسمةً للاستغلال الذُّكوريّ ولإشباع الغرائز الجائعة؟

ولا يسعني في إطار الكلام على الشخصيّات وأسمائها إلاَّ أن أعرِّجَ على اسم العازفة رنا خليل المذكور بين عمالقة الموسيقى – وقد وصفها طارق بالموهبة الجديدة الفائقة الإحساس- ما يؤكِّد أنَّ للأُبوّة قلمًا يكتب، ويَسيل حُبًّا وتعلّقًا وتقديرًا!

إضافةً إلى إشاراتٍ أخرى تجعل القارئَ يوقِنُ بأنَّ طارقًا ما هو إلاَّ صدًى لإيلي مارون خليل نفسِهِ، فقريةُ طارق “حديقة اللَّوز”، وقريةُ الكاتب “وطى الجوز” – والتَّطابُقُ ليس محضَ مصادفة – ثُمَّ إنَّ الكاهن الَّذي أَحَبَّهُ طارقٌ في قريته، أوليسَهُ الخوري مارون، والدَ الكاتبِ نفسَهُ؟

واللاَّفتُ في بِنائيّة الرّواية أنَّها لم تَقُمْ على مرتكزاتها الأساسيّة فَحَسْب (عنيْتُ الحَدَثَ الرّوائيَّ، وعنصرَي الزَّمان والمكان، والشَّخصيّاتِ والحبكةَ) بل تَخَطّتْ ذلك بكثيرٍ إلى طرح جدَليّاتٍ وفرضيّاتٍ ورُؤًى متناثرةِ المواضيعِ، ملوّنةِ الأهدافِ، وقد جاءَ بعضُها على شكلِ أسئلةٍ لفَتْحِ الآفاق… ألمُهِمُّ أنَّها تستحقُّ التَّوقُّفَ والتَّأمُّل:

أذكُرُ مِثالاً لا حَصْرًا:

1- فرضيّةَ علاقةِ لونِ العينين بنفسيّة صاحبهما.

2- جدليّةَ أن يكونَ كُلُّ حصولٍ نقصانًا!

3- جدليّةَ كونِ السُّؤالِ الواحد ينطفئ سريعًا. الأسئلة الكثيرة توحي بالقلق، تؤثِّر في النَّفس.

4- جدليّةَ أن تكونَ العلاقاتُ الإنسانيّةُ كلُّها “مصلحةً”، فالزَّواجُ مصلحةُ الفريقَين، والصَّداقةُ مصلحةُ الطَّرفَين أو الأطراف، والعِشقُ مصلحةُ القلبَين. ( مع ترك هامشٍ في النِّسَبِ بين مصلحةٍ وأخرى)

5 – جدليّةَ أنّ الحُبَّ طُغيانٌ، يجعل الطَّرفَين يطغيان كلٌّ على مُكْمِلِهِ – شريكِهِ.

6- فرضيّةَ أن يكونَ الحُبُّ يُقَوّي الذَّاكرةَ ونَبْضَ القلب، فيكونَ، تاليًا، أقوى من أيِّ نسيانٍ.

( وغيرها الكثير نذكره في دراسةٍ تُنْشَرُ لاحقًا)

ومهما جنّح الأديب في عالم الخيال الأرحب ليحرّك شخصيّاته وفق ما يشتهي، فإنَّه يبقى مُقَيَّدًا بجِواءِ بيئته المنغمِس فيها انغماسًا كاملاً شاملاً، فنرى بعض الحياتيّات اللُّبنانيّة تطوف بين صفحات الرّواية، نذكر منها ثلاثًا:

1- خشيةَ طارق من الصُّعود إلى بيته بالمصعد، فقد ينقطع التَّيّار الكهربائيّ.

2- التَّبشيرَ بِفَهْمٍ جديدٍ يشرح كتابَنا الدِّينيَّ بشكلٍ مغايرٍ، تبشيرٌ يَشوبه الجهلُ والتَّضليلُ، ويَنبعُ من وجهةِ نَظَرٍ مُعاديَةٍ يُرادُ منها “ضربُ” ديانتنا وعِيالنا ووطننا. وهذا انعكاسٌ لجماعة “شُهود يهوه” المنتشرةِ في لبنانَ على وجه الخصوص.

3 – الاقتتالَ الَّذي أفقرَ مَنْ لم يَكُنْ ميليشياويًّا متقدّمًا في “جماعته”، كما أفقر العقلاء النُّبَلاء ومَنْ لم “يصطفَّ” في ميليشيا ما.

لَكأنّ الكاتبَ، بذكره هذه التَّفاصيلَ من لبنانيّاتنا، تَعمّدَ تأريخَ حقبةٍ لبنانيّةٍ تبقى عِبْرةً لمن اعتبر، ورَسْمًا بِرَسْمِ التّاريخ لا ينقصُهُ إلاَّ أن يصمت.

وكم هي حلوةٌ وعذبةٌ، أستاذ إيلي، دعوتك الضمنيّة إلى الإيجاز والاختزال، إنّك ترى الإيجاز “أبعد إيحاءً، أعمق تأثيرًا، أبلغ مدًى”. جعلت طارقًا يكتب إلى ساريا كلمةً واحدةً: “أكثر”: أي: أحبّك اليوم أكثر من أمس، أو: أحبّك اليوم أقلّ من يوم غد. وفي كلتا الحالَين يبقى التّلميح بالكلمة الواحدة أشدّ تأثيرًا في النّفس من التّصريح.

ومرّةً أخرى كتب أيضًا كلمة واحدة فقط: “الوحيدة”. ما أجملها كلمةً واحدةً تتضمّن معانيَ وصورًا وإيحاءاتٍ تُغنيكَ عن كلماتٍ وسطور! إنّه اختزالٌ بل اختزانٌ رائعٌ يجعلُ كلامَكَ يُحلّق في سماء ما قلتَ وما لم تَقُل، ما أردتَ قولهُ، وما لم تُرِد.

وفي سياق “فاتنةِ الشُّرفة”، كان أسلوبك أيضًا يومِئ، يوحي، يُؤشّرُ، يُلمّحُ: نعم. يُصرِّحُ: لا. فكأنّي بِقارئكَ يُريدُ أن يقطفَ إِباحيَّةً ما من السّطور “ليحطَّ على عينك” أنّك سقطت في المحظور، كأنّي به أسمعه يهتف: “هيّا يا إيلي، قل إنها ساقطة، ماجنة، عاهرة… وأكثر… أثقِلْ لها القول… صرّح، أعلن، أوضح، إفضح… وأرِح فضولي، أشبع غرائزي، أنا القارئ الشرقيُّ الأرتاحُ بالفضحِ والإعلانِ والإيضاح…”. إلاَّ أنَّك لم تتجاوب ورغبات القارئ، لم تسقط في محظور التَّصريح، بل أبقيتَ “لِسانَكَ دافئًا”، أبقيت تعابيرك وأوصافك متربّعةً في خدر المواراة والإلماح. وعلى الرّغم من المشهديّات اللّيليّة المُغويَة، بقيتَ أنت نظيفًا، شريفًا، شفيفًا، رهيفًا، عفيفًا، تمامًا كما أبقيتَ طارقًا معك، على ضِفاف نهرِ الشَّهواتِ الحُمرِ، ومنعته من الانزلاقِ إلى موج التَّجارب المُهلِك.

وكما في رهافَةِ الألفاظ، كذلك في سموِّ التعبير النَّثريّ الَّذي ارتقى، في غير موضعٍ من الرّواية، إلى مقام الصّورة الشّعريّة الموحِيَة. نقرأ: ” كيف يُزيل الفقرُ مميّزات النّاس، فيتشابهون! حرامٌ ألا يكون لإنسانٍ ما يميّزه عن آخر! أليس الإنسان أفضل من أوراق الأشجار؟”

ونقرأ: ” صاح ديك الأحلام، فاستيقظ الصّباح”.

ونقرأ: ” أنتِ ازدهار حواسّي! جسدُكِ لا يكرّر نفسه!”

وتُجيب هي: “جزيرة محصّنة، أنا، أنتَ أمبراطورها!”

جميلٌ أن يَحُكَّ الكاتب مخيّلةَ القارئ وانفعالاتِهِ وتأمّلاتِهِ بعضَ المرّات، حتَّى لو كان العمل روائيًا صِرْفًا.

وما يُعزّز النّفحة الشّعريّة وُرودٌ لافتٌ لأدباءَ كبارٍ من خلال الاستشهاد بأقوالهم أو عناوينِ قصائدهم، من الياس أبو شبكة، إلى فؤاد سليمان، إلى الأخطل الصّغير، إلى أنطون قازان. هذه الأسماءُ الغنيّةُ المُغنِيَةُ تعكس امتلاكَ الرِّوائيّ ناصيَةَ الأدب: شعرِهِ ونثرِهِ معًا.

ومَنْ غيرُ الروائيّ – الشّاعر يتسلّل إلى وصف تفاصيلِ حركاتٍ دقيقةٍ قد لا تعنِي شيئًا لقارئٍ باردٍ؟ فبعد وصف طارقٍ ساريا بالشرِّيرة، تَودُّدًا، هل أعذبُ من تفصيل الحركة الآتية: “أخذت شحمة أذنها اليُسرى، بطرَفَي السبّابة والإبهام، وفركْتُها بتحبّبٍ”؟ أو التفصيل الآتي: ” توقّف وأوقفني. فرك أرنبة أنفه، ثُمَّ مُؤق عينه اليُمنى…” (إلخ)؟

إنّ هذه التفاصيلَ الموضَّحةَ الموضِّحةَ تنقل القارئ من موقع المتتبّعِ الحدثَ بذهنه وخياله، إلى موقع المعاينِ الحدثَ المشترِكِ فيه، تمامًا كالحوار، إنّها حوار الجسد.

وأصِلُ إلى لَمْعةٍ أسلوبيّةٍ – لفتتني- حيث كان الكاتب (أو طارق) يقيم مقارنةً بين شخصيّة منصور وشخصيّة “الشحّاد”، حشد فيها صفاتٍ تطلق على الشّحادين إجمالاً، لا يراها في منصور؛ نقرأُ: “الشّحاد ملحاحٌ، وهو لا. الشّحاد لجوجٌ، وهو لا. الشّحاد وقحٌ، وهو لا. الشّحاد يحبّ المال، وهو لا. الشّحاد وسخٌ غيرُ مرتّبٍ، وهو لا. الشّحاد شحّادٌ، وهو لا.”. هنا لم يتوانَ الكاتب في نعت الشّحاد بالشّحاد عندما ألفى أنَّ الصّفاتِ كلَّها لم تصوّرْهُ خيرَ تصويرٍ ولم تفِه حقّه في الشّحادة.

أما جمعَتْ هذه الكلمةُ كُلَّ ما سبَقها من صفاتٍ، وصوّرَتْ – وحدَها – الشخصيّةَ كما التصقت في الأذهان؟

في الواقع، إنّ هذه اللمسات الخليليّة المجدّدة انسحبت إلى الألفاظ والتراكيب، فنقع على الفعل “إحدَعْشَرَ” من اشتقاق العدد الأصليّ المركَّب “أحد عشرَ” بمعنى “حانت الساعة الحادية عشرة”. كما يَلفُتُنا، لُغَويًّا، حذفُ أداة النَّصب “أنْ”  قبل الأفعال المضارعة. نقرأ: “تريد تملأها”، “وددْتُ أطرحُ”… (إلخ).

سألتُ إيلي مارون خليل ذات مساء: “لماذا تكتب: يريد يعرف كذا؟ وليس: يريد أن يعرف كذا؟ كما تكلّمت العرب؟” (هل تذكر؟) أجابني: “ولمَ الـ”أن” ما دمت أقول: “بدّي أعرف” وليس “بدّي أن أعرف”؟! فسكتُّ، وشردتُ، وتأمَّلتُ… وسكتت خلفي المعاجمُ والقواميسُ كلُّها وألسنةُ العرب.

ختامًا، لا بُدَّ من أن نسأل: ماذا يريد إيلي مارون خليل من هذه الرّواية؟

جوابي أنّه يهدف إلى اثنين: أمَّا الأوّل فالدَّعوة إلى سلوكيّاتٍ قِيَميّةٍ ساميةٍ ترفع إنسانيّة الإنسان، تصقله، تنحته إنسانًا حرًّا، نبيلاً، كريمًا، ناضجًا، مسؤولاً، واعيًا، مُحِبًّا. بكلمةٍ: مِثاليًّا. نَعَمْ… إنّ الأخلاقيّات – كما يقول – ليسَتْ دينيّةً فَحَسْب، إنَّما هي أيضًا إنسانيّةٌ واجتماعيّةٌ واقتصاديّةٌ وعاطفيّة. وحُجَّةُ الكاتب العقلانيّةُ هي أنَّنا أرضيّون، وعلينا أن نحيا حياةً “أرضيّةً”، فَلِمَ يُرادُ لنا أن نعيشَ سماويِّين؟ ولِمَ يُفهمُ التَّمتُّعُ على أنَّه شَرٌّ كُلُّه؟

وأمّا الثَّاني فالجَمْعُ بين الثّنائيّات التَّناقضيّة: بين زوجةٍ بيتُها باردٌ وعشيقةٍ بيتُها دافئٌ، بين شقيقةٍ تحترمُ عشيقَ أمِّها، وشقيقٍ يريدُ الانتقامَ لأمِّهِ، بين علاقةِ عِشْقٍ أُوهِمْنا أنَّها خَفِيّةٌ سِرّيّةٌ لا يَعلَمُ بها إلاَّ العشيقان، وواقعٍ صادمٍ فوجِئْنا به أنَّها معلومةٌ مراقَبةٌ، بل أكثر، تُدَوَّنُ في يوميّاتٍ مفصّلةٍ.

هنا، إيلي مارون خليل، تُسَجَّلُ لك براعةُ الحَبْكِ بين الغموض والغرابة. فلو نقطّتُ عينيكَ على الغلاف، لَصَحَّ العنوانُ أيضًا: حياةٌ تنسلُّ بين غ و غ: غموضِ الإشكاليّات، وغرابةِ الحلول.

لا… أستاذ إيلي، لن أمسّه أبدًا، فهو جميلٌ كما خلقْتَهُ أنتَ، وأيُّ جمالٍ يُمَسَّ يُشَوَّهْ.

أدامَ اللهُ عينَيْكَ السَّماويَّتَيْنِ، وأبقاكَ سنديانةَ أدَبٍ وارِفَةً ظَليلةً نَلجأُ إليها كُلَّما أتْعَبَتِ الحياةُ لَنا جَناحًا أو جُعْنا لِحَبِّ الكَلام.

    (18 شباط 2015)

اترك رد