د. عبد العظيم محمود حنفي
وجد العالم نفسه في القرن الحادي والعشرين أمام متغيّرات جذريّة وحاسمة جسّدتها ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات باستخدام الحاسوب ومشتقّاته المُبهرة. وتعجّ دول العالم بوجهات النظر التاريخية المتباينة، والصراعات العنيفة، وانتشار التكنولوجيا، والتطرّف الإيديولوجي. لكن في المقابل، ليس المطلوب من الفلاسفة أن يلوّحوا للعالم بالمثل العليا والمدن الفاضلة، لكنّهم من دون أدنى شكّ قادرون على الحؤول دون اندفاع المجتمع البشري، في حالة الجنون الذي يعاني منه، نحو الهاوية.
على الفلاسفة في هذا الموقف القيام بواجبات ثلاثة: أولاً، مساعدة البشر على الاعتماد على العقل من جديد، واستعمال التفكير المنطقي في كلّ ناحية من نواحي الحياة والفكر، ولاسيّما في النواحي التي اعتادت الإنسانية فيها على متابعة الأهواء والنوازع، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع، كالمغالاة في التسلّط وبسط النفوذ والتعصّب المانع للتفكير السليم. أما الواجب الثاني الواقع على عاتق الفيلسوف، فهو مساعدة الناس، أينما كانوا، على التعرّف إلى الحقيقة الأساسية، المتمثّلة في وحدة النوع الإنساني. ويتلخّص الواجب الثالث في مساعدة البشر على تقدير الكرامة البشرية ومعانيها…
الواجب الأول: العودة إلى العقل
من المسلّم به أن الفيلسوف هو المفكّر الذي يستغرق في التفكير والتأمّل، وبالتالي، فإن مطالبته بالعودة الى العقل تكاد تكون من المسائل المفروغ منها، ولكن من سوء الحظ أن المسألة ليست في مثل هذه الدرجة من البساطة، فالمذاهب اللاعقلية السائدة في العصر الحاضر ليست مقصورة على البيئات البعيدة عن الفلسفة، وتاريخ الفلسفة نفسه يشمل تاريخ المذاهب الفلسفية اللاعقلية، والاستجابة لما وراء العقل – إن لم يكن لما يناقض العقل – قد عُرفت بين بعض فلاسفة القرن الماضي، وربما كان شيوع أمثال هذه الفلسفات هو الذي جعل العالم كثير التعثّر في النواحي العمليّة. وليس معنى ذلك إنكار قيمة العواطف أو أهمّيتها، لأن الفلسفة التي لا تحفظ للعواطف مكانتها تكون فلسفة بعيدة عن الواقع وضئيلة القيمة. غير أن التسليم بقوّة العواطف وقيمتها شيء، والاستجابة لدوافعها والنزول عند إرادتها شيء آخر. إذ إن مرشدنا ودليلنا في الحياة هو العقل، وليس لنا منه بديل لكن من دون الإسراف في الاعتماد على وجهة النظر العلمية وحدها من جهة، ومن دون نبذ هذه النظرة العلمية من جهة ثانية في المجالات التي يستطيع العلم أن يرسل فيها الضوء بغية بلوغ الحقائق العلمية. واللاعقلية لون من ألوان الغموض والإبهام وينبغي بالتالي تحاشيها.
فقد وجّه الفيلسوف ”برجسون“ نقداً شديداً للمنهج العلمي وللعقل التحليلي، ولكنّه احتكم في النهاية إلى عقول قرّائه .. ومن دون الرجوع إلى العقل ستعجز الإنسانية عن مواجهة التحدّيات الضخمة التي تنتظرها، وسيكون من العبث أن ننتظر من الأفراد أو الأمم أو الشعوب تصفية وجوه الخلاف وحسم أسباب الشقاق. ومَن غير الفلاسفة يستطيع الإشادة بالدور الذي يلعبه العقل في هذا السبيل؟ لذا فهم مدعوّون لمعالجة أوجه الخلاف بين الأمم وتمكينها من التعايش السلمي في ظلال المحبّة المتبادلة والتفاهم المشترك.
الواجب الثاني: وحدة النوع الإنساني
الواجب الثاني الذي يقع على عاتق الفلاسفة هو إبراز وحدة النوع الإنساني، وهو منبثق من الواجب الأوّل، لأنّ من أهمّ مطالب العقل في عصر التفوّق العلمي هو احترام الحقائق العلمية والاعتراف بها. والحقيقة العلمية التي لا سبيل إلى إنكارها في العصر الحاضر هي أن الإنسانية واحدة. وهذه حقيقة بسيطة، لكنّها عظيمة الأهمية بعيدة التأثير. ولو كان النوع الإنساني قد عرف هذه الحقيقة الأساسية لما ذاعت أساطير تفوّق الأمم أو تفوّق الشعوب من ناحية الأصل والسلالة، ولما وجد ”أدولف هتلر“ سنداً في تقسيمه الإنسانية إلى النورديّين الآريّين من ناحية وسائر البشر من ناحية أخرى. علماً بأن تقسيم الإنسانية على هذا النمط باطل من وجهة النظر العلميّة، فضلاً عمّا ينطوي عليه من أخطار تتمثّل في إثارة النعرات وتحريك الأحقاد، وإحداث الانقسامات في صفوف البشر.
الواجب الثالث: الكرامة البشرية
تساءل كثيرون ما قيمة الإنسان وهو هذه الذرّة الصغيرة الضئيلة في هذا الوجود الهائل. ولا شكّ في أنّنا إذا ما وازنّا بين الإنسان وعظمة الكون واتساعه لظهر لنا الإنسان حصاة على الشاطئ الرملي. لكن بالإمكان النظر إلى الإنسان من وجهات نظر أخرى. فهذا الإنسان الضئيل الشأن يظهر جليل الشأن، عظيم الخطر إذا ما نظرنا إليه من نواحٍ أخرى، ولاسيّما إذا نظرنا إلى قدرته على التفكير والتأمّل والقياس وعلى إدراك عظمة الكون، فضلاً عن قدرته على الابتكار والاختراع التي لا حدود لها. لذا، يشعر الإنسان بكرامته الكامنة في نفسه والكامنة كذلك في سائر النفوس البشرية. ولذلك حينما نرى إنساناً يسلك سلوكاً لا نراه جديراً بالمخلوقات البشرية، نشعر بأنه عارٌ على الإنسانية. فنحن بغريزتنا مساقون إلى الاعتراف بهذه الكرامة الأساسية للجنس البشري، وهذه الحقيقة تتأكّد أكثر فأكثر حينما يُخَل بعهدها.
أما واجب الفلاسفة الثالث فيقترب هنا من واجبهم الثاني. إذ ما دام العلم قد أثبت بطريقة لا سبيل إلى الشكّ فيها وحدة النوع الإنساني، نافياً فكرة وجود شعوب متفوّقة بطبيعتها وشعوب وضيعة .. فمن الواضح أن البشر يتساوون كذلك في الكرامة الإنسانية. والحقيقة أن بعض الأفراد أو بعض الجماعات قد يأتون بأعمال تعرّضهم للنقد الشديد، وقد نصفها بأنّها أعمال غير جديرة بالنوع الإنساني، ولكن هذه الأعمال مع ذلك بالغة ما بلغت من النكر والفظاعة لا يمكن أن تجرّدهم من صفتهم الإنسانية، فهم ما يزالون جديرين بالاحترام الذي يوجَّه إلى النوع البشري، وان كنّا نأخذهم مع ذلك بجريرة أعمالهم.
ومن الصعب الحفاظ على الشعور بالكرامة الإنسانية بين مظاهر الفقر والعوز والحرمان والجوع . وإذا كانت الحريات الإنسانية الأساسية لازمة للكرامة الإنسانية، فإن علينا أن نعين البشر على تحقيق هذه الحريات في جميع البلاد والأجواء والبيئات، ومن دون ذلك يكون حديثنا عن الكرامة الإنسانية حديث خرافة، لأن ملايين البشر الشاعرين بالحرمان والغارقين في هموم الفقر سيدخلهم الشكّ في هذه الكرامة وتروقهم السخرية منها.
وإذا وُفِّق الفلاسفة في القيام بهذه المهمّة، فإنّهم سيقدّمون للعالم خدمة بالغة الأثر من شأنها القضاء على أسباب التفرقة بين البشر ودواعي حدوث الفرقة والانقسام والخلاف، مثل النزعات اللاعقلية على اختلاف ضروبها، والإسراف في حبّ التسلّط وبسط السلطان، وسوء معاملة الأقلّيات، وخرافات ادّعاء التفوّق الشعبي، والتعصّبات المذهبية والإقليمية. وسيكون لها أيضاً تأثير إيجابي في تشجيع الحركات والاتجاهات التي ترمي إلى توثيق العلاقات بين البشر، وستعين على إيجاد قانون موحّد للبشرية وحكومة عامة تحافظ على النظم وتمنع وقوع العدوان، فتنشر الأمن والسلام في ربوع الأرض، وتمنع الإنسانية بذلك من التورّط في الحروب الدامية والتدمير والخراب والهلاك.
****
(*) أكاديمي ومفكّر مصري.
(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق.
ليس المطلوب من الفلاسفة أن يلوّحوا للعالم بالمثل العليا والمدن الفاضلة، لكنّهم من دون أدنى شكّ قادرون على الحؤول دون اندفاع المجتمع البشري، في حالة الجنون الذي يعاني منه، نحو الهاوية.
على الفلاسفة في هذا الموقف القيام بواجبات ثلاثة: