طيلة اثنين وخمسين يوماً كان في أُمسياتها تلـﭭـزيون لبنان يُعيدُ للمرة الثالثة بَــثَّ حلقات برنامجي “سعيد عقل إِن حكى” الاثنتين والخمسين، كنتُ أَتلقّى تعليقاتٍ مباشِرةً، أَو اتصالاتٍ هاتفيةً من أَصدقاء، أَو رسائلَ إِلكترونيةً من مُشاهدين (بعضهم مِـمَّـن تابعوها في حيثُ هُم خارج لبنان) يُؤَكِّدون جميعاً على وعيهم لبنانَ من خلال أَحاديث سعيد عقل وأَفكاره، واكتشافِـهم حنيناً من الخارج إِلى وطنهم، وَوُثــُوقِـهم داخلَهُ بقيمة لبنان في التاريخ والحضارة والعالم.
هذه الأَصداء لم أَتلقَّها طيلة بث تلـﭭـزيون لبنان هذه الحلقات مرتَين سابقتَين: أُولى عند تصويرها سنة 2004 والأُخرى عند إِعادة بَــثِّـها سنة 2010.
قد يكون لغياب سعيد عقل في تشرين الثاني الماضي أَثــرٌ في هذه الأَصداء، أَو تأْثيرٌ على مَن تنبّهوا إِلى قيمة هذا الشاعر الذي حمل شُعلة لبنان طيلة حياته وطَوال كتاباته مؤَلفاتٍ ونصوصاً ومقالاتٍ وأَحاديثَ ومحاضرات.
ما يَـهُـمُّ هنا، خلا غيابِ شاعر لبنان، أَنَّ جيلاً نَضِراً من شبيبة لبنان (هاجَرَ لأَيِّ سبَبٍ دفعه إِلى الهجرة، واستقرّ في حيثُما هاجر، أَو ظَلَّ على غيابه المؤَقَّت هناك) عاينَ في ذاته، عند مفترَق يقظةٍ نفسية، تَعَـلُّـقاً مستجدّاً بوطنه نابعاً مما اكتشفَه في مبدعي لبنان، شعراً أَو أَدباً أَو فنوناً، فتأَثـــَّـر بلبنان أُولئِك المبدعين الذين نذروا له إِبداعهم وبشّروا به ضالعين في جُذوره العميقة، فوعى هذا الجيلُ الجديدُ حقيقةَ وطنه غيرَ السياسية، وراح يستيقظُ فيه تعَلُّقُه بلُبنان عند مُطالعتِه عملاً رحبانياً بصوت فيروز، أَو حقيقةً لبنانيةً في حديثٍ لسعيد عقل، أَو سُطوعاً لبنانياً في نص لجبران، أَو شغَفاً لبنانياً في شعرٍ لناديا تويني، أَو رُسوخاً لبنانياً في مؤَلّفات عمر فاخوري، أَو ثَباتاً لبنانياً في فكر عبدالله العلايلي، أَو وَلَهاً لبنانياً في كتابٍ لشارل قرم، أَو حضوراً لبنانياً في مواقف شارل مالك، وتطول اللائحة وتتنامى أَسماءُ مبدعين لبنانيين في كلّ حقلٍ غابوا ليُشرقوا في ضمير جيلٍ لبناني جديدٍ منارةً تَهديه إِلى أَنّ لبنانَ الحقيقيّ ليس وطنَ اليوميات الحالية، ولا بلدَ التطاحنات السياسية، ولا حُكْمَ الذين يتنازعونه بانقساماتهم الشخصانية، ولا مصيرَ تعطيلٍ في كلّ مرفق وفسادٍ في كل مفرق.
بلى: في لبنان اليوم، مُقيماً أَو منتشراً، جيلٌ لبنانـيٌّ جديدٌ طيِّبُ الطَّويّة، مُؤْمنٌ بلبنان، يريدُ أَن يستعيدَه معتزاً به، مسترسلاً إِليه، مغتبطاً فيه، متنامياً منه، عنيداً في إِيمانه حتى فلا يأْسَ يَخترقُه ولا إِحباط يَـثْـنيه عن قناعته، ويريدُ أَن يتجاوَزَ زَبَدَ الزمن الراهن، وأَن يرى إِلى لبنان ما رأَى إِليه مُبدعون غابوا ليُشرقوا في ضمير الوطن منائِـر تكشِف الطريق لِـمَن يريدون أَن يستاهلوا لبنان.
*****
(*) إِذاعة “صوت لبنان” – برنامج “نقطة على الحرف”.