“إلى إخوتي رعاة الكنيسة الأنطاكية المقدسة، وأبنائي حيثما حلوا في أرجاء هذا الكرسي الرسولي، أيها الإخوة والأبناء الروحيون الأعزاء، يا من قوتهم بالرب تعالى ورجاؤهم به يقوي رجاءنا،
لقد آثرت أن أبدأ رسالتي هذه في بدء الصوم الأربعيني المقدس بمناجاة صيامية جاءت على لسان ابن ديارنا، القديس رومانوس المرنم الحمصي المنشأ إلى ذاك الذي تزدان به كل كنائسنا، إلى القديس يوحنا المعمدان، وهو الصوام. ولعل ما جاء في هذه المناجاة يصلح لأن يكون لنا نبراسا لنا في مسيرة هذا الصوم.
يا ابن الكاهن الحق، وفرع العاقر النبية، يا برية البرية، يوحنا، هبنا قوة كي نقدر أن نصوم إذ قد احتفلنا بصومك. اجعلنا مقلديك، على قدر ما يستطيع كل منا. ليس الجوف سيدنا فنحن من يسود الجوف حسب كلام بولس: إن الأطعمة للجوف، والجوف للأطعمة، أما نحن فللمسيح، الذي إذ صام يوما طوعا حررنا من الجوع القديم الذي قاسى لسعه آدم لأجل لذة وقتية.
بهذه الكلمات يبني القديس رومانوس على أهمية الصوم فيستشهد ببولس الرسول ويختم بقوله أما نحن فللمسيح الذي إذ صام يوما طوعا حررنا من الجوع القديم الذي قاسى لسعه آدم لأجل لذة وقتية. ومن هنا مركزية الصوم عند المسيحيين ترياقا وعلاجا وتقويما لاعوجاج قديم بدأ مع أول الجبلة آدم، فنزل المسيح ليقومه. كما أن الجوف للأطعمة والأطعمة للجوف كذلك نحن مدعوون أن نكون في قلب المسيح وأن نقتني المسيح في قلبنا. نحن في هذه المسيرة الصيامية مدعوون أن نلتصق بالمسيح تماما كما يلتصق المعمدان بربه وإلهه رسما وتعبيرا عن تناغ وإلفة بين ذاك الذي أحب فطأطأ السموات لخلاص جبلته ومارس الصوم وعلمه لجبلة الإنسان وذاك الآخر الذي اكتسح القفر بصيامه وبعيشته الملائكية فأهل لأن يعمد رب المجد.
نحن مدعوون في فاتحة هذا الصوم المقدس أن نتخلق بأخلاق المعمدان وبخصاله. وما أشبه المعمدان بالمسيحية المشرقية في هذه الأيام. ما أشبهه بها في زمن صعب تشهد فيه ليسوع المسيح الذي تلقنته بالفطرة ورضعته مع حليب الأمهات غذاء للروح وقوة للجسد. المسيحية المشرقية تشهد ليسوع المسيح ربا ومخلصا من رحم فجر تاريخها تماما كما شهد ويشهد يوحنا من رحم أمه ومن سجنه وضيقه ليسوع المسيح مخلصا وربا. المسيحية المشرقية تاهت في براري تاريخها وصحاريه ولم تته عن سيدها وسيد حياتها ولم تلتحف إلا إيمانا بيسوع وببشارة إنجيله ولم تأتزر إلا برجائها به وباتكالها عليه.
والمعمدان تاه في برية الأردن تاركا الدنيا وراءه ولكنه لم يته عن نبراس حياته، عن يسوع المسيح ولم يلتحف إله رجاء لا يخيب ومحبة لا يسبر غورها. يوحنا المعمدان قدم السيد لأبناء قومه وشهد له وقدم حياته على مذبح الحق. والمسيحية المشرقية قدمت السيد للمسكونة وشهدت وتشهد له ولبشارة سلامه في زمن صعب وقدمت من ذاتها وتقدم إلى الآن شهادة للحق.
الصوم يا إخوة هو موسم الرحمة والمغفرة. والرحمة والمعفرة هما أولى وأهم الصدقات، يقول المغبوط أغسطينوس: وماذا تراني أقول عن ذاك النوع من عمل الرحمة والذي به لا يطرح شيء من المخازن أو من الجيوب، بل يطرح من القلب شيء يكون مضرا إذا بقي ولم يمح؟ والكلام هنا عن الغضب المخزون في القلب تجاه أحدهم. وأي حماقة أكثر من أن نجتنب خارجيا عدوا ما ونحتفظ بآخر أسوأ منه في داخل قلبنا؟ لذا يقول الرسول: لا تغربن الشمس على غضبكم (أف4: 27)… فالحري بنا أن نسعى لئلا تغيب على غضبنا شمس هذا العالم وذلك لئلا تهجر نفسنا شمس البر والعدل.
نصلي اليوم من أجل السلام في هذا المشرق. نصلي من أجل أخوينا مطراني حلب يوحنا ابراهيم وبولس يازجي والذي يتعامى العالم عن الجهات الضالعة في خطفهما. ويبقى خطفهما هذا لطخة عار في جبين من يبشر بحقوق الإنسان زورا وبهتانا وصكا يدين من يتخذ تلك الأخيرة مطية للتدخل وتعكير صفو سلام بلاد لم تعرف إلا الأمان توأما لها.
نحن مسيحيي هذا المشرق صوت لن يبح في وجه منطق التكفير الأعمى. نحن مزروعون في هذه الأرض ونحن توأمها. نحن زيتونها وغارها وكرومها. نحن لا نحتكرها لنا بل نحتكر ونتأبط فيها عيشا واحدا مع كل أطيافها ونتوق فيها ومع غيرنا لسلام نتمناه أيضا لغيرنا. نحن صوت لن يبح في وجه الإرهاب الذي لا يميز دينا ولا طائفة ولا إنسانا. نتمنى أن يصغي العالم إلى أنات إنسان هذه الديار وأن يعي أن هذا المشرق وجد ليكون منارة القلب إلى كل الدنيا لا منخلا لكل الايديولوجيات المتطرفة، التي إن زرعت في بلاد، فإنها لن تتقيد بحدودها.
كن يا رب مع المهجر والمخطوف وضع قوتك في قلوب المضنوكين. وارحم شهداءنا الأبرار واحفظ سوريا ولبنان وكل المشرق. وارن بناظرك واكتنفنا جميعا بوشاح رحمتك وقد حياتنا بشراع الرجاء بك وأعط السلام لعالمك، فإنك مبارك أبد الدهور آمين”.