د. مي عبدالله
يُعتبر الفيلسوف جون ستيوارت ميل من أوائل من نادوا بحرية التعبير عن الرأي، وكان الحد الوحيد الذي وضعه لهذه الحرية ما أطلق عليه “إلحاق الضرر” بشخص آخر. ولا يزال الجدل قائماً الى اليوم حول ماهية الضرر المقصود، الذي يختلف مفهومُه من مجتمع إلى آخر.
وبسبب الهجرة من الشرق إلى الدول الغربية، واختلاط الثقافات والأديان مع ظهور وانتشار وسائل الاتصال الحديثة مثل الإنترنت، شهد العالم موجة جديدة من الجدل حول مفهوم الحريّة وأبعادها، وحول تعريف الضرر أو الإساءة، وخاصة الى الرموز الدينية، حيث شهد العالم في أواخر عام 2005 وبدايات 2006 ضجة سياسية وإعلامية ودينية حول ما اعتبره المسلمون الإساءة للنبي محمد، واعتبره العالم الغربي شكلاً من أشكال حرية الرأي والتعبير.
ومؤخراً، مع التعاطف الدولي الواسع النطاق الذي حظيت به صحيفة “شارلي إيبدو” الفرنسية بعد الحادث الإرهابي الذي أودى بحياة عدد محرريها يوم 7 ك2، أعيد طرح قضية حرية الرأي والتعبير بقوّة، الى جانب قضايا أخرى كالهوية والتدين والاندماج الثقافي في أوروبا.
وظهرت وانتشرت شعارات مطلقة “أنا شارلي” أو “أنا لست شارلي” روّجت لها وسائل التواصل الاجتماعي تؤشر الى مواقف متطرفة تطالب بالتمسك بالحرية المطلقة، بينما تطالب مواقف أخرى باحترام حدود الحرية وأهمها عدم المس بالأديان ورموزها.
برأينا ان الحرية متلازمة مع المسؤولية، وأن “شارلي إيبدو” قد تعمّدت الإساءة من أجل الإساءة، ولطالما أساءت استخدام الحرية التي لم ينجُ منها أحد. أساءت إلى المسيحية أيضاً، والى اليهودية، وفي بعض الحالات نشرت رسوماً تشتم منها رائحة العنصرية، مثلما حدث عام 2012 عندما صورت وزيراً أسود البشرة في الحكومة على هيئة قرد.
كما نرى أن كل القوانين التي سنّها الإنسان لحماية حرية التعبير، وكل اتفاقيات حماية حقوق الإنسان، كما كل المواثيق والتشريعات، قد نصت على ضرورة أن تحاط حرية التعبير بحدود تحول دون استخدامها في الإساءة إلى البشر ومعتقداتهم.
لقد بدأت بالفعل مؤخراً حركات في أوروبا تطالب بتعديلات في القوانين القديمة المتعلقة بالإساءة إلى الرموز الدينية التي، وان وجدت في القوانين الأوروبية، نادراً ما تطبَّق في الوقت الحالي. ولكن مع انتشار الهجرة إلى أوروبا من الدول غير الأوروبية، وجدت الدول الأوروبية نفسها في مواقف قانونية حرجة لوجود بنود في قوانينها الجنائية تجرّم المسيئين إلى الرموز الدينية، ووجود بنود أخرى تسمح بحرية الرأي والتعبير. وهذه القوانين التي تعتبر الإساءة للدين عملاً مخالفاً للقوانين لا تزال موجودة، على سبيل المثال في البندين 188 و189 من القانون الجنائي في النمسا، والبند 10 من القانون الجنائي في فنلندا، والبند 166 من القانون الجنائي في ألمانيا، والبند 147 في القانون الجنائي في هولندا، والبند 525 في القانون الجنائي في إسبانيا، وبنود مشابهة في قوانين إيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
حتى في فرنسا، يمنع القانون أي كتابة أو حديث علني يؤدي إلى حقد أو كراهية لأسباب عرقية أو دينية، ويمنع أيضاً تكذيب جرائم الإبادة الجماعية ضد اليهود من قبل النازيين، ونشر أفكار الكراهية بسبب الميول الجنسية لفرد. وقد اتهم القضاء الفرنسي المفكر الفرنسي روجي جارودي وكذلك الكاتب الصحفي إبراهيم نافع بتهمة معاداة السامية حسب قانون جيسو، وفي10 مارس 2005 منع قاضي فرنسي لوحة دعائية مأخوذة من فكرة لوحة العشاء الأخير للرسام ليوناردو دا فينشي، وأمر بإزالة جميع اللوحات الإعلانية خلال 3 أيام. والأمثلة عن هذه الممارسات كثيرة…
من هذا المنطلق أبدت بعض وسائل الإعلام الغربية تعاطفها مع ضحايا “شارلي إيبدو”، وأدانت الحادث الإرهابي، لكنها امتنعت عن نشر أو بث الرسوم الساخرة المسيئة للإسلام لأسباب مهنية وأخلاقية، كما حدث في بريطانيا والولايات المتحدة، وغيرهما.
لم يفرض حادث “شارلي إيبدو” سجالاً حول حرية الرأي والتعبير فقط، لكنه أعاد طرح قضية التدين والاندماج الثقافي في أوروبا، ولاسيما أن المسلمين طرف رئيسي في الحادث. وتبدو قضية الاندماج الثقافي أساسية في التعامل مع الإسلام والمسلمين في أوروبا، وهناك اتجاه يرى أن المسلمين في أوروبا، حتى أبناء الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين، لا يريدون الاندماج ثقافياً في المجتمع، في حين أنهم يقبلون الاندماج اقتصادياً، ويبحثون عن موطئ أقدام في دائرة النفوذ السياسي.
والقضية بالنسبة لقطاع من النخب الأوروبية ليست “تعددية ثقافية” تسمح بالاختلاف، بقدر ما هي رفض لثقافة مجتمع، يصل لحد كراهيته، كما هو الحال بالنسبة للأوروبيين الذين يحاربون في صفوف داعش والقاعدة وما شابهما…
لقد مرّ حادث “شارلي إيبدو” بكل ملابساته، لكن القضايا التي أثارها صراحة وضمناً سوف تظل تتفاعل طويلاً في الفترة القادمة، وكأن الحرية باتت وسيلة في لعبة إعلامية في غاية التعقيد، وهي ليست لعبة إعلامية بحتة، وإنما سياسية بالدرجة الأولى، وكأن الإعلام بات متورطاً في مخططات سياسية متسلسلة لجهات لها مآربها ولا تعبأ بالقانون ولا بالحريات…
والإعلام هو الوسيلة الأسرع والأسهل لإشعال الحرائق، في زمن تتصاعد فيه الصراعات الثقافية والصدامات العقائدية، وتحكم فيه سلطة المال، ولا اعتبار فيه للضمير الإنساني، وقد تحولت نعمة التنوع الى نقمة تستفيد منها عوامل التفرقة والتناحر.
*****
(*) رئيسة الرابطة العربية لعلوم الاتصال
(*) جريدة البيان 10 فبراير 2015