منار علي حسن
في غفلة من الزمان والمكان، تنقل الشاعر والصحافي اسكندر داغر ممتشقاً قلمه وناهلا من ذكرياته
كلمات نابضة بالحياة، رسمها لوحة متحركة وعنونها “صارت الأرض رقصة فلامنكو (اعترافات عاشق)”، جسدت الفضاء الإفريقي حيث ولادته ومسرح طفولته، الشخصية الإفريقية كما عرفها هو بكل طيبتها ومعاناتها، رحلاته في بلدان العالم بما تضمنت من مغامرة وعواطف جياشة، اكتشاف حضارات جديدة والاغتناء بثقافاتها.
اسكندر داغر الذي يمتهن الصحافة منذ عام 1959، تماهى قلمه الصحافي مع قلمه الشاعري، وفي كل مرة ترحل عيناه إلى عوالم تثير في نفسه دمعة وابتسامة، يخطها بين دفتي كتاب، فصدر لغاية الآن ثلاثة: “اللذة الهاربة” (1972)، “حلم ليلة مطر” (1982)، “الطربوش والسلاح” (2009).
حوله كتابه الجديد وتجربته الطويلة مع عالمي الأدب والصحافة كان الحوار التالي معه.
“صارت الأرض رقصة فلامنكو” هو عنوان كتابك الجديد، لماذا هذا العنوان بالذات، هل لأن الرقص لا يرتبط بحدود مادية بل مجرد تعبير روحاني عن مشاعر دفينة؟
“صارت الأرض رقصة فلامنكو”، هو في الأساس عنوان إحدى قصائد الكتاب، كتبتها بعد مرور سنوات عدة على زيارة قمت بها إلى مدينة براغ، عاصمة جمهورية تشيكوسلوفاكيا، قبل الانفصال الذي تمّ بين تشيكيا وسلوفاكيا.
في هذه القصيدة القصصية إلى حدّ ما، نقلت مشاعداتي وانطباعاتي عن مدينة براغ، ومشاعري نحو إحدى جميلات المدينة الزاخرة بالحكايات المختلفة… وذلك من خلال ما روته لي تلك الغجرية المثقفة، أي الدليلة السياحية التي اختارتها لي السلطات هناك.
حكاية هذه القصيدة المبللة بالحب والشغف المثقلة بالأحداث العاطفية والتاريخية، كانت تجربة جديدة في حياتي، كصحافي أولا، ومن ثم كشاعر وعاشق. وعندما راجعت سائر القصائد، وجدت أن عنوان “صارت الأرض رقصة فلامنكو يتلاءم تماماً مع مناخ الكتاب بشكل عام، وكذلك العنوان الفرعي “اعترافات عاشق”.
ولا غرابة في ذلك، فالرقص هو الوسيلة الأولى التي استخدمها الإنسان للتعبير عن ذاته، قبل أن يصرخ صرخته الأولى، وقبل أن ينطق بكلمته الأولى، وقبل أن يرسم رسومه الأولى في المغاور… وهو، منذ فجر التاريخ، يعبّر عن فرحه وحزنه عبر هذه الوسيلة!
من ناحيتي، باستطاعتي أن أعبّر من خلال الرقص، تماماً كما أعبّر بواسطة الكتابة… وقد سبق لي وكتبت في كتاب سابق بعنوان “الطربوش والسلاح” الذي تدور موضوعاته حول الحرب الملعونة التي شهدها لبنان، في الربع الأخير من القرن العشرين، ما يأتي: “… في زمن الحرب، في زمن القلق واليأس والموت، نزلت إلى الحلبة، ورقصت… رقصت طويلا طويلا، في ذلك اليوم… رقصت حتى تدفق العرق من جبيني العريض، كما كنت أفعل في زمن السلم، يوم كنت لا أترك رقصة من الرقصات إلا وأمارسها بنهم وشغف… في ذلك اليوم، رقصت بطريقة امتزجت فيها السعادة باليأس، والرشاقة بالعنف، والخيبة بالأمل… رقصت رقصة الحرب الآتية من أوهام السلم… رقصت مثل “زوربا اليوناني”، وكما الطير مذبوحاً من الألم!”.
ما جاء في سؤالك صحيح إلى حد بعيد، فالرقص “مجرد تعبير رومنسي عن مشاعر دفينة” ولغة تفاهم بين الإنسان وأخيه الإنسان.
ديوانك الجديد يتأرجح بين الحب والعشق والمحبة، فما دور هذه الصفات الثلاث في حياتك… وبالنتيجة، أي من هذه الصفات هي الأفضل بالنسبة إليك؟
في رأيي، أن هناك نوعاً من القربى بين هذه الصفات أو المميزات الثلاث، وأكاد أقول، إنها من فصيلة واحدة.
الحب هو الإطار العام لمشاعر القلب وخفقاته نحو الجنس الآخر، ويتفرع عنه الغرام والهيام والعشق والشغف والتيه واليتم، وما إلى هنالك… ومن هنا، يمكن القول، إن العشق هو ابن عم الحب، ومن نوع الهوى والدلع والتعلق والوصال… أما المحبة فهي الإطار الأهم والأشمل لكل مشاعر الإنسان نحو البشر.
هذه العوامل الثلاثة كان لها الدور الفاعل في حياتي، وقد انعكست، بشكل مباشر، في كتاباتي الغزلية. وكما تعرفين، فإن المحبة والحب ومتفرعاته، من الأدوات الرئيسة التي استهوت الشعراء في كل زمان ومكان، وبدوري لست بعيداً من هذه الحالة، مع إيماني العميق بأن للقصيدة وظيفة أخرى أيضاً.
أنت لبناني وولدت في إفريقيا، لكن موجات الحب الإفريقية طاغية في الكتاب… ما تأثير الطبيعة الإفريقية والحياة الإفريقية عليك؟
صحيح، إنني ولدت في إفريقيا، وفي دولة غينيا بالذات، ولدت ابيض اللون لا أسوده، كما توهّمت- ذات يوم- جارتنا البيروتية العجوز، أن كل من يولد في القارة السوداء لا بد أن يكون أسود… مع العلم أن لا فرق عندي إذا كان لوني أسود أو أصفر أو أحمر… “فكل ما هو إنساني غير غريب عني”. وصحيح أيضاً، أن تأثير الطبيعة الإفريقية والحياة الإفريقية على حياتي كصحافي كان كبيراً، ولي كتابات كثيرة حول هذه القارة… كتبت عن شعوبها وحكامها، وعن غاباتها وحيواناتها وغانياتها… كتبت عنها نثراً وشعراً معاً. والصحيح أيضاً وأيضاً، أن الرياح الإفريقية لفحت بعض نصوص كتاب “صارت الأرض رقصة فلامنكو”، وخصوصاً تلك التي لامست وجدان الإنسان الإفريقي الذي تعرّض، على مدى التاريخ، لأبشع انواع الظلم والاضطهاد، من تجارة الرقيق إلى الاستعمار وصولا إلى التمييز العنصري…
ذلك كله صحيح وطبيعي، ولكن موجات الحب الطاغية كانت في أمكنة أخرى… كانت في العيون التي في طرفها حَوَرٌ، في حرقة الألم على ثغر الحبيبة، وفي شعرها الذي تتطاير منه كل قصائد الشعراء… في أسطورة فوغان وجزر تايتي المشمسة، وفي رقصة الفلامنكو والحب الغجري، وفي كل ما أدهش نظري وحرّك قلبي…
نلاحظ في كتابك الجديد نوعاً من الحيرة والتردد في علاقتك مع المرأة والارتباط بها، فما مرد ذلك… وهل المواقف الشخصية هي التي تقود قلمك في أدبك؟
في كتابي الجديد “صارت الأرض رقصة فلامنكو”، كتبت تحت عنوان “صديقاتي… وربطات عنقي!” ما يأتي: “عند المدخل نظر إليّ “جميل” نظرة تحمل أكثر من سؤال… وكأنه كان يريد أن يقول لي: لماذا تبدّل صديقاتك، كما تبدّل ربطات عنقك؟!” ولكن لم يخطر في بال “جميل” أنني أحتفظ في خزانة ثيابي بربطات عنقي أطول مدة ممكنة… وأحياناً كثيرة، أبحث طويلاً، عن إحدى الربطات، فلا أجدها!”
أعتقد أن النص أعلاه، يجيب بطريقة غير مباشرة، وبسخرية موجعة، على الجزء الأول من سؤالك، أما ما يقود قلمي فهي الحياة بكل ما فيها… وأنا لست سوى واحد منها.
ما الصفات التي تطلبها في المرأة ولا تظهر في كتاباتك؟
لكل امرأة صفات أو مميزات خاصة بها، سواء في الشكل أو في الجوهر. هناك المرأة الجميلة والمرأة الأقلّ جمالا، وهناك المثقفة والجاهلة والعاقلة والنمرة والحرّة والمظلومة… إنها هاجس العالم بأسره، هي حاضرة حضوراً أبدياً في كل نبضة حية، في كل رعشة، في كل قلب. هي ساحرة الرجل، وخصوصاً الشاعر، وسارقة لبّه ومهبط وحيه!
إنني لا أنظر إلى المرأة من خلال صفة أو ميزة معينة، بل ما يشدني إليها ينبع من داخلي، وخفقان قلبي، من الرعشة الغريبة التي تهزّ كياني، وتجعلني صريع الحب الذي يبقى سراً من أسرار هذه الحياة!
ثمة علاقة بين البحر والمرأة في ديوانك الجديد فما أوجه الشبه بينهما؟
أجل ثمة علاقة بين البحر والمرأة في كتابي الجديد، وكذلك بيني وبين البحر الذي رسم عمري باللون الأزرق… فهو يعني لي الكثير، تماماً كما تعني لي المرأة.
أوجه الشبه بينهما عديدة… هي جميلة وهو أيضاً، هي ملهمة الشعراء وهو أيضاً، هي غامضة وهو أيضاً، يثور أحياناً ثم يهدأ وهي كذلك، هم حلم المسافرين وهي حلم العشاق، ومنهما تعلمت كتابة الشعر!
انطلاقاً من ذلك كله، أقول لكِ: الأرض بحاجة إلى بحر، والشاعر إلى امرأة، والحياة إلى قصيدة!
في قصائدك حنين وأمل ووجع… لكن لا لقاء لماذا؟
بعد اللقاء يأتي الحنين إلى لقاء آخر، وكذلك الأمل…أما الوجع فهو دائم، ومن قال: “حامل الهوى تعِب” كان على حق.
ما الذي دفعك إلى كتابة قصيدة “مشاهد… غير عنصرية”؟
عندما نقلت هذه المشاهد على الورق، كان التمييز العنصري متفشياً بأبشع صوره في أماكن كثيرة في الكون، وقد بلغ ذروته في جنوب إفريقيا والولايات المتحدة الأميركية، وظلّ حاداً بين الأبيض والأسود، حتى بعد صدور وثيقة إزالة العبودية التي بقيت سنوات طويلة حبراً على ورق!
في تلك الأيام كتبت كثيراً عن هذه المعضلة، ومن أبرز ما قرأته حول هذا الموضوع، الحوار التالي الذي دار بين طفلة زنجية وأمها:
الطفلة: يا أماه… لماذا نحن سود؟
الأم: لأننا في حداد يا ابنتي!
الطفلة: حداد على من يا أماه؟
الأم: حداد على إخوتنا البيض!
الطفلة: ومتى ينتهي حدادنا يا أماه؟
الأم: عندما يخلعون الحداد من قلوبهم ولا تعود سوداء كوجوهنا!
يومها أدركت كم هي عميقة الهوة التي تفصل بين البشر… أسود وأبيض، كبير وصغير، خير وشر، وإلى ما هنالك من الثنائيات… وأدركت أيضاً، أن العالم سائر حتماً نحو حتفه إذا لم يتغلب على أمراضه الخطيرة ومنها التمييز العنصري!
كنت من المؤمنين بأن لغة العقل سوف تنتصر على ما عداها، وصولا إلى التعايش بين مختلف الأجناس والأعراق والألوان، وبناء الحياة الجديدة التي لن تكون جميلة من دون التناغم بين الأسود والأبيض. هكذا برزت إلى حيّز الوجود “مشاهد… غير عنصرية” التي تميّزت بالبساطة والعمق.
كتابك الجديد هو الرابع في سلسلة كتبك، فهل هي فصول من حياتك؟
باستطاعتي القول إن هذه الكتب الأربعة مستمدّة من الحياة بكل ما فيها من نبض وفوران… وباعتبار أنني عايشت حقبة من الزمن تجاوزت النصف قرن، وهي في اعتقادي من أبرز حقبات التاريخ، كان من الطبيعي جداً أن يتداخل في كتاباتي الخاص بالعام، الحب بالثورة، المرأة بالوطن، كازانوفا بكونفوشيوس، إلى مسائل وأسماء أخرى… فالشاعر هنا، ومن دون أن يدري، تصبح حياته جزءاً لا يتجزأ من اللعبة التي تدور أمامه!
وفي رأيي، هنا تكمن أهميّة العمل الأدبي، حيث يصير الشاعر هو المغني والمشاهد معاً. وهنا أيضاً، تكمن أهمية شعراء كبار من هذه الحقبة، أذكر منهم: ناظم حكمت، بول إيلوار، جاك بريفير، عبدالوهاب البياتي، محمد الفيتوري، سميح القاسم، جوزف حرب، محمد الماغوط وغيرهم…
“الطربوش والسلاح” كتابك الثالث، ماذا تعني بهذا العنوان؟
فعلاً، إنه من العناوين اللافتة، ثمة من اعتقد أنه عنوان رواية تدور أحداثها في زمن غابر، زمن الطرابيش والقبضيات… لكنه في الواقع، الابن الشرعي للزمن الحالي، يوم كان شعب الوطن الصغير يخوض غمار حرب كبيرة التهمت في طريقها الحب والأحلام، الأمل والمستقبل، الأخضر واليابس… ما جعلني أحنّ إلى زمن الطربوش نكاية بالسلاح!
النصوص الواردة في هذا الكتاب، لها أشكال مختلفة، تارة لها شكل الخاطرة، وطوراً لها شكل المقالة، بعضها يقترب من الحكاية القصيرة جداً وبعضها الآخر يدور في فضاءات أدبية أخرى… ومن حين إلى آخر، يتسلل الشعر، في خفر، إلى أرض النثر، والكل يصبّ في خانة أدب الحياة.
تمتهن الصحافة منذ سنة 1959، كيف تقيّم مسيرة الثقافة قي لبنان، وهل ثمة فرق بين الثقافة قبل الحرب التي عصفت بالوطن، على مدى سنوات طويلة، وبعدها؟
كل ما في وسعي القول حول هذا الموضوع إن الثقافة في لبنان تتابع المسيرة، سواء في التأليف أو الطباعة أو النشر، وهذا الوطن يعجّ بالأدباء والشعراء وأهل الفنون، من الفن التشكيلي إلى التمثيل والغناء… هناك نتاج غزير في مختلف هذه الحقول، يتأرجح بين الجيّد والمتوسط والسيئ، ويعاني من أزمات عدة… وهذا الواقع المؤلم يذكّرني برأي أدلى به، ذات يوم، الكاتب الساخر جورج برنارد شو وهو عائد من زيارة قام بها إلى الولايات المتحدة الأميركية، يتناول فيه الحالة الاقتصادية في تلك البلاد الشاسعة، مشيراً إلى أن الحالة الاقتصادية هناك، تكمن بين رأسه ولحيته، غزارة في النتاج وسوء في التوزيع!
أما الفرق بين ثقافة ما قبل الحرب وبعدها، مسألة فيها نظر، سواء في نوعية العطاءات أو في قامات أصحابها! أكثر ما لفتني خلال تلك الحرب المجنونة التي اجتاحت الوطن، وما بعدها، غياب أهل الثقافة عن تحمّل مسؤولياتهم الأدبيّة والوطنيّة والإنسانيّة في أحلك مرحلة مرّ بها لبنان، وفي وقت كان فيه المواطن يصارع من أجل البقاء على قيد الحياة!
قليلة هي الأعمال التي تناولت تلك المرحلة، منها ما كتبه الروائي والقاص جورج شامي حول تلك المأساة الطويلة، انطلاقاً من إيمانه العميق بدور الأديب ومسؤوليته، أكان في زمن الحرب أو في زمن السلم.
أين لبنان اليوم على الخريطة الصحافية العربية؟
إن موقع لبنان اليوم على الخريطة الصحافية العربية باهت جداً بالقياس إلى الماضي البعيد، وفي هذه المناسبة أتساءل: أين هي عشرات الجرائد والمجلات التي كانت تصدر في بيروت؟ أين هي الصحافة اللبنانية التي كانت تتصدّر مكاتب الملوك والرؤساء العرب؟ أين هي الأقلام الفذة التي جعلت من لبنان واحة للحريّة والديمقراطية، ومدرسة لكل من أراد ممارسة هذه المهنة التي أعتبرها البعض “مهنة البحث عن المتاعب” واعتبرها البعض الآخر “السلطة الرابعة”؟!
ذلك كله، ذهب مع الرياح العاتية التي هبّت على لبنان، في غفلة من غفلات الزمن! أكتفي بهذا القدر من الكلام.
*****
(*) جريدة الجريدة